ثقافة وفنون

إيلي كوهين… جيمس بوند إسرائيلي؟

إيلي كوهين… جيمس بوند إسرائيلي؟

وصال الوردي

يصعب التفكير في كلمة «أرشيف» من دون تصوّر مبنى، وهي في الوقت ذاته وثائق محفوظة في مؤسسة. وهذه الأخيرة هي جهاز من أجهزة الدولة عادةً.

لذلك، تأتي «مكانة الأرشيف من ذلك التداخل بين المبنى والوثائق». هذه فكرة نستعيرها هنا من المنظر الكاميروني أشيل مبيمبي الذي يرى أنّ السلطة والسيادة في حالة الأرشيف تكمنان في موقعه، ومن يتحكّم بإتاحته أو الوصول إليه أو إلى بعض منه أو إخفائه كلياً.

«استعادة» الجاسوس الإسرائيلي

في ذكرى إعدامه قبل أيام، وتحديداً في 18 أيار (مايو) 1965، أعلنت «إسرائيل» عن استعادة وثائق إيلي كوهين (1924) من سوريا… الجاسوس الذي أُرسل إلى دمشق عام 1962 وأقام فيها ثلاث سنوات بعدما دخلها كرجل أعمال قادم من الأرجنتين، وعُرف فيها باسم كمال أمين ثابت.

لحظة يؤدي فيها الأرشيف/ الجهاز دوره في السلطة، ويسخر من سيادة بلد ما، ويمنح من يصغي إليه ماضياً انتقائياً يغذي القصة «الوطنية الإسرائيلية» التي تعليها آلة الحرب اليوم، ربما أكثر من أي وقت مضى.

2500 صورة وورقة

ضجت الدنيا بـ 2500 ورقة وصورة، واستنفدت وسائل الإعلام ـــ إسرائيليةً وعالميةً ـــ تعبيرات الرومانسية عن رسائل كوهين لزوجته نادية (عراقية الأصل) التي يطلب منها أن تتزوج سواه وألا تنتظره. حيكت القصص عن الصور مع مسؤولين سوريين وجوازات مزورة ومراسلات غامضة وعلاقات. بل يكاد مفتاح شقته في دمشق أن يصير «أيقونة».

أغراض ومتعلقات وأوراق قال الموساد إنّ مخابرات بلد «صديق» استعادتها بالنيابة عنه. الحق، إنها رسالة مهينة في لحظة تترنح فيها المنطقة وبالأخص سوريا، مفادها «أننا لا نسيطر على اللحظة الحاضرة فقط، بل نمتلك أيضاً الماضي وأسطرته متى شئنا». وعندما تسترجع إسرائيل الأرشيفات التجسّسية وتتحكم بها، فإنها تُعيد تعريف لحظة من التاريخ ذاته، تقوم باستيلاء عنيف، ودفن رسمي لأي قصة أخرى، فالأرشيف مثلما يكون ذاكرة، يكون مقبرةً بنفس المقدار.

«الشعب» و«الدولة» والشخصيات المهمّة

يخدم الأرشيف الإسرائيلي (غينزاخ هَمِدينه)، بحسب قانون 1955 إحياء ذكرى ثلاثة كيانات جمعية محدّدة أولها «الشعب»، وهي هوية مُختلقة تربط بين يهود العالم المعاصرين وجذور توراتية تُستخدم كمبرر «أخلاقي» للاحتلال. التالي هو «الدولة»، والثالث هي «الشخصيات المهمة» غير المسمّاة (في عام 2005، أضيف إلى الشخصيات المهمة أفراد تخدم قصصهم القصة الجمعية).

في ظلّ حرب غزة، يصبح الاستحواذ على هذا الأرشيف جزءاً من حملة أوسع للحفاظ على سردية السيطرة

وإذا كانت سيرة كوهين عدّت إحدى هذه القصص التي تخدم الحكاية الجماعية، إلا أنّنا سنسمع من ابنته صوفي في وثائقي «لغز المحارب 88»، الذي أنجزته قناة «الجزيرة» عن تضارب الروايات حول أبيها وعجزها عن الاطلاع على معلومات حاسمة تتعلّق بعمله مع الموساد وما قدمه بالفعل.

تقول صوفي في الفيلم: «أسمع القصص وأضعها أمامي كأحجية أعلم أنه جُنّد، ولا أعلم إن كان جُنّد رغماً عن إرادته، أو أنه طُرد من متاجر «همشبير لتسرخال»، حيث كان يعمل ثم تجنّد. لا أعلم إن وجدوا أنه ليس ملائماً لأنّ هناك روايات حول ذلك. لا أعلم ما الذي قام به. هناك كثير من الأساطير التي أعلم أنّها ليست صحيحة، أي أننا لا نملك قصة».

دليل سياحي: موسى يطلّ على الجليل

من قرية تل الفخار شمال الجولان المحتل حتى القنيطرة جنوباً يمتد ما يطلق عليه «مسار إيلي كوهين» The Eli Cohen Trail. لو بحثت في مواقع مختلفة، ستجد الدليل السياحي يخبرك عن مراحل هذا المسار، من بينها نصب أقيم على مرتفع يطلّ على وادٍ إستراتيجي، تلتقي فيه تضاريس جبلية لبنانية مع الجليل.

  • من قرية تل الفخار شمال الجولان المحتل حتى القنيطرة يمتد ما يطلق عليه «مسار إيلي كوهين»
    من قرية تل الفخار شمال الجولان المحتل حتى القنيطرة يمتد ما يطلق عليه «مسار إيلي كوهين»

إنه تمثال حديث لإيلي كوهين، رأس بأربعة وجوه ضخمة وأعين متسعة لا ترمش وتنظر في كل اتجاه وتراقب، عدا الوجه الذي ينظر إلى الجليل هو فقط الذي يبتسم.

نُصُب يستخدم التجريدية كأداة قوة، وهو بحد ذاته نظام علامات محمّل بمعان أيديولوجية ورسائل سياسية. كل عنصر فيه -من شكله إلى موقعه المطلّ على سوريا الذي يضاعف من وزنه السيميائي – يعمل كدالة ضمن السرد الأوسع لـ «إسرائيل» حول ممارستها التجسس ومفهومها عن البطولة وأساطيرها حول «الشرعية» الإقليمية. ربما لن تتماسك نفسك من الضحك حين يصف الدليل السياحي التمثال بأنه: «ينظر إلى وطنه مثلما نظر موسى إلى الأرض المقدسة، رآها ولم يدخلها».

تمثال للزوجة والأطفال

في الجهة المقابلة تمثال آخر لزوجة كوهين وأطفاله الثلاثة ينظرون نحو دمشق منتظرين عودته. يتساءل الدليل «أليس مدهشاً أنّ دمشق تبعد 36 كيلو فقط»! بلى مدهش فعلاً!
يأخذ الدليل الزوار على خطى كوهين وثماني محطات تشكل أهم ما في إقامته الجاسوسية بحسب الرواية «الإسرائيلية»: مواقع عسكرية سورية سابقة، دبابات روسية صدئة، خنادق خفية.

المرشدون السياحيون الإسرائيليون مدربون على فن الحكي «الوطني»، سيرسمون صورة أسطورية لكوهين، خاصة حين يقال إن تجسّسه «أنقذ الأمة».

يُدعى الزوار ليس فقط إلى التذكر، بل إلى استهلاك نسخة منقحة من التاريخ، حيث يُرَوَّج للتجسس على أنه قصة رومانسية، وتمحى التعقيدات، ويهمش العنف الجيوسياسي إلى محطة جولات جذابة. هذا هو مسار التجسس الترفيهي، مع رشة من الجدية لتذكير السياح بأن ما فعله كان «عملاً خطيراً»، وأن معلوماته «مكّنت جيش الدفاع الإسرائيلي من استعادة مرتفعات الجولان من سوريا والانتصار في حرب الأيام الستة» يقول سائح عن إحدى الرحلات.

ماذا نقل للموساد؟

يؤكّد أكثر من مصدر مكتوب ومرئي، من بينها شهادات من عرفوه ومن درسوا وثائقه سابقاً وباحثون كتبوا عنه، أنّ قيمة ما نقله لا يكمن في المعلومات العسكرية، فما كان يرسله في هذا الخصوص يعرفه الكيان العبري أصلاً.

طُلب منه أشياء محددة؛ أولها أن يتعرف إلى إلويس برونر ضابط نمسوي عمل مع أدولف أيخمان الذي أعدم في «إسرائيل» وكان يعيش في سوريا آنذاك، ولم يتمكن كوهين من ذلك.

وطُلب أيضاً أن يزوّدهم بأي معلومات عن الوضع الاقتصادي في البلاد عبر علاقته بموظف في المصرف المركزي هو هيثم قطب الذي استأجر عنده كوهين شقته في «أبو رمانة» في دمشق. وكان شقيق قطب طياراً اصطحب كوهين في رحلات مختلفة فوق سوريا وأخذه في رحلات هي مصدر معظم صوره. طلب منه أيضاً أن ينقل إليهم الشائعات حول الأوضاع، وما يتردّد عن موقف الناس من فك الوحدة مع مصر وعبد الناصر واستقرار البلاد.

يروي نوعام تيبر مؤلف كتاب «إيلي كوهين… ملف مفتوح» أنّ كوهين أُخبر بشكل واضح ألا يقترب من أي من أصحاب السلطة والنفوذ لئلا يجري التحقق من شخصيته والبحث عن أصولها، وألا ينتسب إلى أي حزب، لأنّ سوريا بلد انقلابات، فلا ينبغي أن يجد نفسه يوماً في المكان الخطأ. ولا يختلف اليوم كثير من الباحثين ـــ إسرائيليين وغيرهم ـــ في أن الدور الذي نسب إلى الجاسوس في احتلال الجولان ليس إلا مبالغات ترويجية.

غير أنّ أهم معلومة سرّبها كوهين بالفعل، كانت من صداقة جمعته بأحد المهندسين اللبنانيين المشاركين في تنفيذ خطة سرية تقرر فيها تحويل مجرى نبع نهر بانياس الذي يتدفق في نهر الأردن، فلا يصب في بحيرة طبريا التي يسيطر عليها الكيان، بل يصبّ مباشرة في الأردن. وبالفعل بناء على هذه المعلومة، قصفت إسرائيل مضخّات التحويل المخصّصة لإنجاز المشروع.

أسطرة العميل 88

تنسجم أسطرة العميل 88، المبنية على عمليات استخباراتية وتضحية قصوى، مع بنية «الذاكرة القومية الإسرائيلية»، بوصفها ماضياً منتقى يمجّد الاختراق كمهمّة شبه مقدّسة. وقد جُسّدت حياته في أفلام ومسلسلات، رغم أن ابنته نفسها تؤكد على أنّ هذه الأعمال لا تشبهه في كثير من جوانبها، حتى في أبسط التفاصيل: مثلاً، لم يكن رياضياً أو صلب البنية كما يُصوّر، لكنه كان اجتماعياً، سهل التواصل، ويكسب ثقة الآخرين بسرعة.

كُتبت عنه مئات المقالات وعشرات الكتب، وقدّم دائماً في قالب جاسوس مثير، أشبه بنسخة محلية من جيمس بوند. يظهر في مسلسل «الجاسوس» (على نتفليكس)، وفي إحدى حلقات «هوملاند» الأميركي، التي تحمل عنوان «رجلنا في دمشق»، بطلاً عابراً للجغرافيا، تتحوّل قصته إلى سردية شعبية عالمية، وتظهر «إسرائيل» دولة محاصَرة، لكن متفوّقة دوماً على محيطها، وقادرة على اختراقه متى شاءت.

استحواذ لا استعادة

هنا يستحق مفهوم «الاسترجاع» نفسه التوقف عنده. هو ليس استعادة، بل استحواذ، فعل سياسي لإعادة التملك. وهو في هذه اللحظة سفر زمني، إذ إنّ الأرشيف، وفقاً لمبيمبي مرة أخرى، ليس مجرد مادة محفوظة، بل خيال جماعي يتماسك عبر ذاكرة انتقائية تُشكّل الماضي لخدمة الحاضر.

من تل الفخار إلى سجلات الاستخبارات، تكشف «استعادة» وثائق كوهين عن الأرشيف كفن من فنون الحكم. هذه الواقعة رأسمال رمزي، أما توقيتها، فليس بريئاً: في ظل حرب غزة والعنف في لبنان وسوريا، يصبح الاستحواذ على هذا الأرشيف عرضاً أدائياً سياسياً، جزءاً من حملة أوسع للحفاظ على سردية السيطرة مهما كان الواقع فوضوياً وخصوصاً إذا كان كذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب