
إعادة أغاثا كريستي إلى الحياة

زيد خلدون جميل
يقول المثل الإنكليزي «كل شيء مسموح في الحب والحرب»، ولكن هذا غير دقيق، لأنه كان يجب أن يضم المال أيضا، فقد كان المال مؤخرا سببا في تطور بالغ الغرابة في سيرة الكاتبة الشهيرة أغاثا كريستي.
بدأت الحكاية بسبب رغبة شركة «بي بي سي» البريطانية في الاستفادة من كريستي. وكان السؤال الأول «ما هو عدد الراغبين في أن يكونوا كتابا كبارا للروايات البوليسية مثل أغاثا كريستي، الكاتبة الأكثر مبيعا في تاريخ الأدب؟» إن العدد كبير جدا، ولذلك من الأفضل أن يشترك هؤلاء في دورة تعليمية تحت إشرافها لتعلم كيفية كتابة تلك الروايات مقابل مئة وخمسة دولارات فحسب، ولكن هنالك مشكلة، فقد توفيت الكاتبة الشهيرة عام 1976. ولماذا مشكلة؟ إذ بالإمكان إعادتها إلى الحياة واطلاع الجميع على طريقة كتابة القصص البوليسية، قد يجد المرء هذا المنطق غريبا، وله الحق في ذلك. ولهذا السبب يستحق الأمر بعض الشرح.
في عالم الإعلام بدأت في السنوات الأخيرة ظاهرتان الأولى عندما أخذ بعض الكتاب تقديم دروس عن كيفية كتابة الروايات عن طريق قنوات في الإنترنت، تتطلب اشتراكا ماليا من قبل الراغبين في تلقي هذه الدروس، مثل الكاتب البريطاني لي تشايلد، والأمريكي هارلان كوبن، اللذين قدما دورتين تعليميتين لكتابة روايات الإثارة، وكذلك الكاتبة والصحافية البريطانية جوجو مويس، عن الروايات الرومانسية. ونالت هذه الدورات نجاحا ملحوظا، حيث إن عدد الذين يظنون أن هذه الدورات ستجعلهم من كبار الكتاب هائل.
وكانت الظاهرة الثانية عندما ظهر الممثل البريطاني بيتر كوشنغ في فيلمين مؤخرا، كما ظهر ناقد الطبخ الشهير أنتني بوردا، وهو يقرأ مقالا كتبه. وكان بيتر كوشنغ قد توفي عام 1994، أما أنتني بوردا فتوفي عام 2018، ولذلك استخدم القائمون على تلك الأفلام تقنية الذكاء الاصطناعي، لجعلهم يظهرون وكأنهم على قيد الحياة في تلك الأفلام. وهنا طرأت فكرة على بال أحد المسؤولين في شركة «بي بي سي»، لماذا لا يقومون بدمج الظاهرتين السابقتين وتقديم دورة تعليمية تحت إشراف أشهر كاتبة في العالم، أي أغاثا كريستي نفسها عن طريق الذكاء الاصطناعي وتكوين نسخة رقمية منها. وكانت الخطوة الأولى أخذ موافقة ورثة أغاثا كريستي، التي وافقت بسرعة لأنها عملية رابحة تجاريا بالتأكيد، ولذلك تم تشكيل فريق مكون من حوالي مئة شخص من اختصاصات مختلفة، للعمل على هذا المشروع، منهم أكاديميون مختصون بروايات الكاتبة. أما كونها متوفاة، فلم يشكل ذلك مشكلة لأنهم جلبوا ممثلة غير معروفة تدعى فيفيان كين لتمثل دور الكاتبة الشهيرة، ثم وضعوا وجه الكاتبة على وجه الممثلة بتقنية الذكاء الاصطناعي ليبدو حيا، فأصبح ذلك الوجه يتكلم ويضحك وكأنه لممثلة حقيقية، وبدأ العمل. أما بالنسبة لما قالته الممثلة من دروس، فقد كان مزيجا مما سبق أن كتبته الكاتبة في رسائلها وما ذكرته في مقابلاتها.

أغاثا كريستي في الموصل العراقية
قدمت الشخصية الرقمية عدة نصائح مثلا عن ضرورة جمع كل المشتبه فيهم في مكان واحد وعزله عن العالم مثلا، عن طريق افتعال عاصفة ثلجية لأنها لا تمنع الناس من الخروج من، أو الدخول في مكان الجريمة فحسب، بل تقطع خطوط الاتصال الهاتفي كذلك، حيث نجد ذلك في «جريمة قتل على قطار الشرق السريع»، و»بعد ذلك لم يكن هنالك أحد» و»مصيدة الفئران» و»موت على النيل» و»أوراق على المنضدة»، وهناك في الروايات الشاب المرح الذي يستمتع بخرق القوانين والأعراف، حيث إن هذه الشخصية مقتبسة من شخصية شقيق الكاتبة الحقيقية. ولكن كل من يعرف أعمال أغاثا كريستي يدرك أن العديد من أعمالها تشذ عن هذه القاعدة مثل «الأربعة الكبار» و»خمسة خنازير صغيرة» و»ليلة دون نهاية» و»الجوف» و»الإصبع المتحرك» وغيرها. وتدعي الشخصية الرقمية أيضا، أن الكاتبة الكبيرة لم تستعمل خداع القارئ بتقديم أدلة، أو تلميحات تشير إلى الشخص الخطأ، وكأنه القاتل لإرباك القارئ. ولكن الكاتبة الحقيقية فعلت ذلك مرارا وتكرارا مثل رواية «مقتل روجر أكرويد» و»وبعد ذلك لم يكن هنالك أحد» و»أتخذ عند الفيضان» وروايات أخرى. ويضاف إلى ذلك أن تحليل الشخصيات وأصولها كان سطحيا مثل أن «هركيول بوارو» مأخوذ عن المهاجرين البلجيكيين الذين هاجروا إلى منطقة «ديفن» Devon الإنكليزية، أثناء الحرب العالمية الأولى. وتذكر الدورة كذلك أن وجود الشاب المرح، الذي يحاول خرق القوانين والأعراف في بعض روايات أغاثا كريستي، مقتبس من شخصية شقيق الكاتبة الحقيقية، وأن كل مادة سامة تعمل بشكل مختلف، وكذلك أن الكاتب المبتدئ قد يجد أن الطريقة الأسهل للقتل هي الضرب بآلة حادة.
ظهرت الشخصية الرقمية متخشبة، وكأنها شخصية من فيلم للرسوم المتحركة، وتتكلم بلغة إنكليزية بالغة الرقي بشكل مصطنع، وعلى شكل امرأة عجوز كئيبة وكأنها حبيسة منزلها. ولكن الكاتبة الحقيقية لم تكن كذلك، لأنها عاشت حياة مليئة بالأحداث والسفر، وكانت أكثر نشاطا من نسختها الرقمية، إذ كانت ذات شخصية عدائية بعض الشيء وهوايتها التزلج على الأمواج كما عملت كممرضة في الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى سفرها المتكرر، لاسيما إلى منطقة الموصل في العراق، حيث رافقت زوجها الذي كان مختصا بالآثار الآشورية. وبالمناسبة قامت أغاثا كريستي، بتنظيف بعض الآثار بطريقة خرقاء. ولم يكن اختيار صفات واسم «هركيول بوارو» لمجرد أن مهاجرين بلجيكيين لجأوا إلى بريطانيا، فقد كان الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، لأن كريستي اقتبست من عدة مصادر. وكان اختيارها للاسم والجنسية وشكل الشخصية لأسباب منها جعل القارئ ينجذب إلى الشخصية، وتبين في الوقت نفسه جوانب من شخصية أغاثا نفسها.
تلك القواعد والدروس التي ذكرتها الشخصية الرقمية في تلك الدورة لا تعني الكثير، فالكاتب يجب أن يكون مرنا، ويخرق أي قاعدة عند الضرورة، ويكون ذا خيال خصب، إلى درجة أنه قد يتجاوز حدود المعقول، ولكنه بمهارته ككاتب يقدم الرواية وكأنها منطقية وبشكل مثير، دون أن يشعر القارئ بحقيقة الأمر، ما يستدعي عملا مرهقا وساعات طويلة من التفكير في أفضل طريقة لكتابة العمل الأدبي. والأمر الآخر الذي تجاهله القائمون على الدورة، أو تجاهلوه قصدا، أن من عوامل الشهرة المستمرة لأعمال أغاثا كريستي، كونها تعبر عن الأدب في فترة زمنية معينة في جميع جوانبه، أي أنها مثل الإعجاب بالعالم البريطاني أسحق نيوتن، إذ أن كتابة حالية بأسلوب الكاتبة ستبدو مملة نظرا لتغير طريقة الأدب حاليا، بالإضافة إلى ذلك لا يمكن للمشترك في هذه الدورة أن يصبح كاتبا كبيرا، إذا حاول اتباع نصائح هذه الدورة، أو حتى الكاتبة الحقيقية نفسها، إن كانت ما تزال على قيد الحياة، فالكاتب الحقيقي قد يقتبس شيئا ما من هنا وهناك، ولكن في نهاية المطاف، يجب أن يكون له أسلوبه الخاص، وشخصيته الأدبية المستقلة، إذا أراد تحقيق النجاح.
خشي القائمون على هذه الدورة من اتهامات التزوير من قبل الخبراء والمعجبين بالكاتبة الكبيرة، فأعلنوا بسرعة أنهم حصلوا على موافقة ورثة الكاتبة، وكأن هؤلاء لم يهمهم المال كمعيار أول. حرصوا على أن الشخصية الرقمية شملت الوجه فحسب، وكون كل ما قيل في الدورة من قبل الشخصية الرقمية كان من مراسلات الكاتبة، وبضع مقابلات قامت بها، ما حدَّ من القيمة التعليمية للدورة، ومزجوا كلماتها بشكل يبدو وكأنها دروس في كتابة الروايات البوليسية، ما يعني أن النتيجة كانت تزويرا للتاريخ، ومحاولة ساذجة لجذب كل من يتخيل أن أتباع هذه الدروس سيصبح كاتبا كبيرا. وكانت التصريحات المضحكة والمتناقضة للقائمين على الدورة، أن الهدف هو التسلية والتعليم. ولكن القيمة التعليمية في الدورة ضعيفة، ما يضر بسمعة الكاتبة. ومما زاد الطين بلة، أن ورثة الكاتبة أقروا أن ما ذكر في الدورة لم يمثل آراء الكاتبة الشهيرة، مما يزيل أي أدعاء حول كون الدورة ذات علاقة بالكاتبة. أما وجود وجه الكاتبة الشهيرة فيجعل المشترك، أي من دفع تكاليف الاشتراك لتلقي دروس هذه الدورة، يظن بشكل لا إرادي أنه يستمع إلى أغاثا كريستي الحقيقية، ولكن هذه الدروس ليست من الكاتبة الكبيرة، ما يجعل الدورة غير دقيقة ومخادعة، فهذا العمل لا يختلف عن أي فيلم عن الخيال العلمي. وكان واضحا أن الهدف من وجود الكاتبة رقميا، هو جذب المشتركين واستلام نقودهم، لأن الهدف الحقيقي ليس التعليم، بل المال، ما يعني أن الأمر برمته غير أخلاقي، وضد آداب التأليف، ويؤثر سلبا على تراث الكاتبة الشهيرة. ولكن للأسف، المال بالنسبة للكثير من الناس أهم من أي آداب وأخلاق مهنة.
ربما كان هناك حل أفضل لطريقة إعداد هذه الدورة، التي من المفروض أن تكون تعليمية، فإذا كانت الدورة من تأليف كبار الخبراء في أعمال الكاتبة الكبيرة مع تحليل متعمق لجميع جوانب إنتاجها الأدبي، حيث ستكون حريتهم في التعبير عن آرائهم أكبر بكثير، ولن يُتّهَم أحد بالتزوير، أو أي مخالفة أخلاقية أو قانونية، ويقدم كل هذا ممثل شهير ارتبط اسمه بأعمال أغاثا كريستي مثل، ديفد سوشي، لكان هذا العمل بأكمله أفضل بكثير.
يزيد كل هذا من المخاوف التي أثيرت حول طريقة استعمال الذكاء الاصطناعي في هذا العمل، وأعمال أخرى في المستقبل، لاسيما في بريطانيا حيث يوجد اقتراح لسن قانون يسمح باستعمال الأعمال الفنية في تدريب الذكاء الاصطناعي، دون موافقة الفنانين المنتجين لها.