فيلم «صراط» لأوليفر لاكس… نحن جميعاً في رحلة بحث قد لا نجد فيها الخلاص أو المعنى

فيلم «صراط» لأوليفر لاكس… نحن جميعاً في رحلة بحث قد لا نجد فيها الخلاص أو المعنى
نسرين سيد أحمد
كاتبة مصرية
كان ـ
نحن جميعا راحلون، ربما بدأ البعض رحلته بإرادته، وربما قادت الظروف البعض الآخر لبدء الرحلة، ولكننا في جميع الأحوال لا نعلم إلى أين يقودنا الطريق، أو كيف ستنتهي الرحلة. تقودنا أقدارنا إلى مسارات ربما ما كنا لنظن يوما أننا سنسير فيها، ولكننا نسير دون أن نعلم إلى أين يقودنا الطريق. هذا العجز التام أمام القدر ومشيئته هو ما نشعر به في فيلم «صراط» أو Sirat، للمخرج الإسباني/الفرنسي أوليفر لاكس، وعنوان الفيلم مستقى من كلمة «صراط» بمفهومها القرآني. يشارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الثامنة والسبعين (13 إلى 24 مايو/أيار الجاري) .
تجد الشخصيات الرئيسية للفيلم نفسها إزاء معطيات خارجة عن سيطرتها، تجعلهم يسيرون في سبل، ربما ما كانوا قد ساروا فيها قط، لولا أن اضطرتهم أقدارهم لذلك، فهم كما يبدون لنا مسيّرون، ولو أن بعضهم قد يظنون أنهم مخيّرون.
يضعنا فيلم لاكس في مواجهة الأسئلة الكبرى على حين غرة تماما. فمن منا قد يظن أن فيلما عن حفلات صاخبة للموسيقى الإلكترونية في صحراء المغرب الشاسعة، سيقودنا للوقوف في مواجهة أنفسنا والتفكير في مصير الإنسان، والصراط الذي يسير عليه لملاقاة مصيره. «الصراط» فيلم مخادع، في أفضل صور الخداع، حيث نخال أننا أمام فيلم هين يسير، بينما نجده يقودنا للتأمل في مصائرنا. تبدأ القصة وسط الصحراء المغربية، حيث تجتمع الكثبان الرملية مع تجمعات صخرية ضخمة. نرى شاحنة تفرغ حمولتها المكونة من مكبرات صوت ضخمة متهالكة. تقوم مجموعة من الأشخاص أصحاب الوجوه الأوروبية، بصف مكبرات الصوت تلك، التي تبدو صدئة خربة، ولكن حين تشغيلها تصدر موسيقى إلكترونية هادرة. صوت الموسيقى مزلزل هادر، ولكن إيقاعها في الوقت ذاته يدعونا للتمايل، كما لو أنه ينقلنا إلى بعد وجودي آخر. أما اجتماع الموسيقى والصحراء فإنه كالسحر، وفجأة تمتلئ الصحراء بأجساد تتمايل وترقص، كما لو أنها تتحد مع الموسيقى ورمال الصحراء. أجساد لوحتها الشمس وأسكرها الكحول وسرى فيها تأثير العقاقير المهلوسة، نرى الوشوم التي كست أجساد بعضها، ونميز بعض الوجوه، ولكن الوجود الطاغي هو للموسيقى والصحراء. ولكننا نلمح من بعيد رجلا يختلف عن هذا الحشد من الأجساد المتمايلة الراقصة.. إنه لويس (أداء مميز من المثل الإسباني سيرخي لوبيز)، وبالقرب منه نرى ابنه الصبي استيبان (برونو نونيز). يبدو لويس بقميصه الأزرق السماوي مختلفا تماما عن الأجساد المتمايلة الراقصة، حتى إننا نكاد نتساءل عما جاء به وسط هذا الحشد.
ولكننا سرعان ما نعلم أن لويس جاء في صحبة ابنه الصبي بحثاً عن ابنته المفقودة منذ عدة أشهر، التي كان آخر ما يعلمه من أخبارها، أنها جاءت إلى المغرب لحضور بعض من تلك الحفلات الموسيقية في الصحراء. يوزع مطبوعات عليها صورة ابنته ويسأل عنها الحضور، ولكن لا يبدو أن أحداً قد رآها من قبل.
ثم يلتقي لويس بجيد (جيد أوكيد)، وهي فتاة شابة تتعاطف مع أزمته، وتخبره أن حفلا موسيقيا ضخما سيقام في موقع آخر من الصحراء، وأنه قد يجد ابنته في ذلك الحفل، ثم على حين غرة تأتي شاحنات الشرطة المغربية لتفكك جمع المحتشدين، وتعلمهم بإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وضرورة مغادرة الأوروبيين إلى بلدانهم. ونعلم حينها أن العالم على أعتاب حرب عالمية جديدة.
يبدو للوهلة الأولى أن هؤلاء الذين جاءوا إلى الصحراء خصيصاً للرقص والموسيقى الإلكترونية، يعيشون بمعزل تام عن الصراعات السياسية التي تدور في العالم، وعن الحرب العالمية الثالثة، التي تكاد تنشب، ولكننا في مفارقة صارخة سنعلم لاحقا أن مصائرهم ستتقاطع مع تلك الصراعات السياسية والحروب وما تخلفه من ألغام.
لا يمتثل عدد من الشاحنات لقرار السلطات المغربية لترحيلهم إلى بلدانهم، ويقررون السير في عمق الصحراء، إلى موقع الحفل الآخر. سيارة لويس ليست مؤهلة لخوض غمار الصحراء، ولكن استيبان، ابنه الصغير، يحثه على الانضمام إلى الشاحنات، التي ستبحر في أعماق الصحراء، علّه يجد ابنته هناك.
يتعرف لويس على جماعة جيد، أو أسرتها البديلة في الصحراء وهم، ستيفي وجوش وتوتين وبيغوي. نرى أن أحدهم فقد ساقاً والآخر فقد ذراعا، ولكننا لا نعرف أسباب تلك الإصابات. هم جميعاً يعيشون بعيداً عن حيواتهم السابقة ويجدون في بعضهم بعضا أسرة بديلة. يعيشون في شاحنات لها القدرة على التعامل مع وعورة الصحراء، رغم قدمها، ويتنقلون من حفل إلى آخر، وتقرر المجموعة أن تضم إليها لويس واستيبان، وأن تصحبهما إلى مقر الحفل الجديد للبحث عن الابنة المفقودة. لوهلة نعتقد أننا نرى فيلما من أفلام الطريق، التي تتنقل فيه الشخصيات من مكان إلى آخر، ويخوضون مغامرات مختلفة وصولاً إلى وجهتهم، ولكن الفيلم يأخذ منحى مختلفا تماما ما كنا لنتوقعه، حين تضرب الأقدار لويس ضربة قاسية موجعة قاصمة. ومنذ تلك اللحظة يصبح أبطال الفيلم، ونحن معهم، كما لو أننا نسير على الصراط، لا نعلم من سينجو ومن سيلقى حتفه. يكتسب الفيلم معنى رمزيا وجوديا، يناقش وجودنا على الأرض وعبثيته، وعبثية الأقدار. تقود المجموعات شاحناتها معتقدة أنها تتحكم في الطريق، لكن يد القدر لها رأي آخر.
يجعلنا الفيلم نتساءل ماذا يحدث حين يفقد الإنسان كل شيء، كل من يحبهم، وكل عائلته في لحظة واحدة؟ هل يجن؟ هل يمنح الفقد بصيرة جديدة؟ هل يصبر ويتصبر؟ هل يتشبث بالحياة بصورة أكبر؟ هل يهيم على وجهه في الصحراء؟ لا يقدم الفيلم إجابات، وربما لا توجد إجابات، وربما نخشى أن نفكر في كل هذا الفقد، ولكن حقيقة الأمر أن الفيلم لا يهاود، بل يضعنا وسط مواقف، بل لنقل مآس عبثية، تجبرنا على التفكير في معضلاتنا الوجودية وأقدارنا. قد نظن أن فقد كل شيء، فقد العائلة والأبناء، هو الطامة الكبرى، والمأساة التي لا تطالها مأساة، لكن عبث الأقدار في الفيلم وقسوتها أشد من ذلك بكثير. وهنا تكمن قدرة لاكس وتمكنه من أدواته كمخرج، فبدلا من أن نجن من قسوة المأساة والألم، يبادرنا لاكس بمشهد صغير يدعو للضحك، حتى يقلل التوتر لنتحمل الجرعة الجديدة من المأساة.
ولكن هذا يجعلنا نتساءل: أليس هذا حقاً مصيرنا؟ ألسنا نجيء إلى الحياة لنسير في درب قد نظن أننا اخترناه، ولكنه في الواقع اختير لنا سلفاً؟ قد لا نجد إجابة شافية على أسئلتنا الوجودية، لكن ما نعلمه حقا هو أن لاكس قدم لنا فيلما غير متوقع، أبقانا حابسي الأنفاس، مترقبين، متحمسين للمشاهدة منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية.
«القدس العربي» ـ