ثقافة وفنون

ما جدوى الكتابة الإبداعية في مواجهة الخراب؟

ما جدوى الكتابة الإبداعية في مواجهة الخراب؟

موسى إبراهيم أبو رياش

في زمن تتقدّم فيه جحافل التفاهة بخُطى واثقة نحو الصدارة، وتُزيَّن فيه لغة العبث والسطحية بأضواء الشهرة والتداول، يبدو سؤال «جدوى الكتابة الإبداعية» أكثر إلحاحا من أي وقت مضى؛ فهل بقي للكلمة الجميلة المعبرة أثر في عالم يرفع الراية، وتعظيم سلام للرصاص لا للقصيدة، ويُقدّس منطق القوة لا جمال الفكرة؟ إنّه سؤال يضرب في عمق العلاقة بين الإبداع والواقع، بين الكاتب وعالم يتقلّب على نار القسوة والتوحّش، وتعلو فيه أصوات المدافع على نداءات الضمير، وتتمدد فيه لوحات الخراب والدمار على بقايا الإنسانية. فهل تُقاوم الكلمة آلة الحرب؟ وهل تُجدي القصص في زمن يزداد فيه العنف سطوة وبطشا؟
في هذا التحقيق، نحاور عددا من المبدعين والمبدعات؛ لمعرفة حدود الإيمان بالفعل الإبداعي حين تضيق الأرض بالمعنى، ويختل التوازن، وتثور العواصف، ويضطرب كل شيء. نبحث معهم عن دور الكتابة الإبداعية في عصر تُصادَر فيه القيم وتُجرَف فيه الأحلام، ونسألهم: هل لا تزال الكلمة نارا خفيّة تحت رماد الصمت، أم أنّها أضحت زينة عاجزة في صالونات الرفاه ومتكآت المتحذلقين؟ وكان السؤال الموجه إليهم: «ما جدوى الكتابة الإبداعية في زمن الكلمة العليا فيه للتفاهة والعبث والسطحية، وهل للكتابة أي تأثير في مواجهة الرصاص والتوحش ولغة القوة التي لها السيادة المطلقة على الأرض؟».
دعونا ننصت لما يقوله الذين لا يزالون يكتبون، القابضون على جمر الإبداع، المتمسكون بالأمل، ويعرفون أنَّ اليأس الكامل هو أول انتصار للخراب.
الكاتبة والروائية المصرية رشا عدلي: الكتابة تُبقي الوعي حيا
الواقع اليوم لا يُبشر كثيرا بجدوى الكلمة أمام مشهد عالمي يتسيّده العنف والاستعراض والسطحية، لكنني لا أرى في الكتابة الإبداعية ترفا ولا عزاء، بل ضرورة. قد لا تغيّر الكتابة الواقع بشكل مباشر، لكنها تُبقي الوعي حيا في زمن الرصاص والتوحش. الكتابة لا توقف الحرب، لكنها تمنح الضحايا أسماء ووجوها، تحفظ الذاكرة، وتمنع التواطؤ بالصمت.
نعم، قد يبدو أنّ التفاهة تربح المشهد، لكن هذا لا ينفي أهمية أن نكتب، لا بوهم البطولة، بل بإيمان بأنّ التوثيق الإنساني العميق هو الفعل الأصدق في زمن مشوّه. قوة الكتابة ليست فورية ولا صاخبة، لكنها تراكمية، تعمل في المدى الطويل، وتمنح من يقرؤها لحظة وعي أو شك أو سؤال.
جدوى الكتابة ليست في قدرتها على تغيير العالم، بل في قدرتها على كشفه، وفهمه، وتذكّر ما يجب ألا يُنسى، وهذا في حد ذاته فعل مقاومة لا يُستهان به.
الروائي والقاص البحريني أحمد المؤذن: حبر الكلمة سلاح الكاتب
حقيقة ليس من السهل الإجابة عن سؤال صعب كهذا، كما تعودنا نحن الكتاب حينما نُزّوِّقُ الكلمات ونفذلكها أو نُنَظِّرُ على هوانا.. اليوم فعلا قطعت التفاهة والسطحية شوطا طويلا، حتى غزت عوالم الكتابة ذاتها، فما عادت القضايا الجادة في الجانب الأدبي تُعتبر معيار نجاح؛ فقد صعد للساحة الأدب الفاضح والسطحي، وبدأ بحصد الجوائز المخملية بعيدا عن قضايا الأمة. هناك جدوى للكتابة في تأثيرها التراكمي، بإيقاظ الوعي مهما كانت الرهانات في أفقها سلبيه ظاهريا، الكاتب ليس له غير حبر الكلمة سلاحا، فهو من عامة الشعب في نهاية المطاف، مقموع من قبل الأنظمة الديكتاتورية التي تصادر حريته.
الشاعر والروائي البحريني أحمد الدوسري: الكتابة انتصار داخلي للروح
قد ينحسر البحر قليلا لمدة معلومة ثم تعود المياه إلى الشاطئ. ستبقى الكتابة الإبداعية مثل مياه البحر المنحسرة مؤقتا في زمن التفاهة والعبث والسطحية، لكنها ستعود بقوة إلى الناس على الشاطئ ومعها خيرات البحر. ليس فقط التفاهة ما يحبط الكتابة الإبداعية مؤقتا، لكن الإسراف في القتل والموت والدمار في فلسطين المحتلة، وفي غزة تحديدا، يجعل المشهد البصري أشد إيلاما على مدى التاريخ البشري. إنّها معادلة أليمة عندما يرى المبدع أن مشهدا واحدا مصورا من غزة يتجاوز كل الكتابة الإبداعية في هذا العالم، لكن مع ذلك سينحسر هذا المشهد قريبا عن جبل عظيم من الكتابة الإبداعية. يبقى الأمل بالانتصار عبر الثقة بالله مثبتا لجدوى الكتابة الإبداعية، وانتصارها للإنسان لاسيما الفلسطيني رمز الحق والعدالة. مرات أشعر بعد كتابة قصيدة أو نص إبداعي في ظل ما يحدث في غزة تحديدا، بعدم القدرة على النشر إحساسا بالعار والخزي الذي لحقنا جميعا من عجزنا عن وقف هذه الإبادة الجماعية، ناهيك من نصرة أهلنا في فلسطين. وأخيرا حتى لو لم أنشر في الوقت الراهن، فإنَّ كتابتي الإبداعية هي انتصار داخلي لروحي لا بد منه.
الشاعر المغربي أحمد الشيخاوي: قوة اللغة من قوة الأوطان
الكلمة واللغة إجمالا، من قوة الأوطان الناطقة بها، شئنا أم أبينا، غير أنَّ الفارق الوحيد الذي يطبع لغتنا العربية، هو كون القرآن الكريم نزل باللسان العربي المبين، وخاصية الحفظ الرّباني له، من كل تحريف وتزوير مذ نُزِّل على خير خلق الله صلى الله عليه وسلم، المُرسل رحمة للعالمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجعلنا نثق بلغتنا أكثر ونطمئن لإبداعيتها، وكيف أنّها محفوظة، مهما تكالب الأعداء، وقد نجحوا في التخطيط المحكم، لامتهان الأمة من محيطها إلى خليجها، ونهب ثرواتها. وبالطبع، الترويج للتفاهة والتسويق لشتى آليات مسخ الهوية العربية وطمس ملامحها بخدمة من تتقاطع مصالحهم، من بني جلدتنا، مع هذه اليد الخارجية الملوثة، يبقى من جملة الأسباب التي ضيّقت على الكلمة الرصينة والمسؤولة والهادفة، بما يشكك في جدوى الكتابة.
ولا شك أنَّ ما كابدناه من جنائزية وخراب وتجبر صهيوني، مع إخوتنا في غزة وكامل الأرض الفلسطينية، منذ ما يقارب العامين، لخير دليل على ما سبقت الإشارة إليه، بما قد يُجبرنا على ترتيب الأوراق مجددا، والانطلاق من الإرث الحضاري لأجدادنا، بدل التبعية العمياء لأمريكا والعالم الغربي عموما، إن أردنا نجدة المتبقي من ذبالة. على هذا النحو، وما دمنا أمة ضعيفة، فلن تقوى كلمتنا على مجابهة لغة التوحش والرصاص وهيمنة القوى العظمى المتغطرسة.
الروائي والباحث الأردني يحيى القيسي: الكتابة شمعة وسط الظلام
الكتابة الإبداعية بغض النظر عن جنسها شعرا أو سردا ـ إن كانت طاقتها إيجابية وتنويرية – فقد تساهم بشكل أو بآخر في إشعال شمعة وسط الظلام، وفي رفد الحياة بشيء من الجمال، وهي بذلك تأخذ من «تأثير الفراشة» منحى لها، قد يكون في النهاية فعّالا بشكل مباشر، بل قد يأتي تأثيره بعد حين. صحيح أنَّ طوفان التفاهة والسطحية يطغى الآن على كل شيء، ويتخذ الحوار بين بني البشر غالبا الشكل الدموي حيث تلعلع لغة الرصاص واليد الطولى لمن يمتلك الإمكانيات من الحديد والنار والتكنولوجيا، ولا يمكن أن تكون المواجهة ندية بين الكتابة، ومثل هذه الآلة الجهنمية التي تأكل الأخضر واليابس، لكن لا يمكن لنا أن نركن إلى اليأس ونستمرئ الخنوع، فكل واحد منا مؤتمن على تخوم هذه الأرض، يقوم بما يستطيع من عمل مضاد، سواء كان ذلك بالكتابة أم بغيرها. المهم أن نحرص على فعل المقاومة بما نستطيعه، فالعسكري له طريقته وأدواته، وكذلك للموسيقي والأديب والمهندس والطبيب.
لا تحقرنَّ من المواجهة شيئا، سواء بالفعل، أو بالكتابة والخطابة، أو بالفكر وإعمال النيَّة والقلب، وذلك أضعف الإيمان، وعلينا تذكر أنَّ قطرة الماء التي تواصل نقرها المتواصل للصخرة سنوات طويلة ستنجح أخيرا في تفتيتها.
الروائية السورية مها حسن: الكتابة لخلق عالم موازٍ أكثر إنسانية ونبلا وعدالة
لم تكن الكتابة دائما ترفا يمكن ممارسته في أوقات الرفاه والسلام، بل غالبا تأتي الكتابة لخلق عالم موازٍ أكثر إنسانية ونبلا وعدالة. لهذا كان الأدب هو التاريخ الحقيقي والرسمي للشعوب، لأنَّه يُدون بصدق وانحياز لمصالح الإنسان فقط. لهذا تبدو الكتابة بالنسبة لي بمثابة الضرورة للمساهمة في تجميل وتخفيف القبح عن العالم، وفي الوقت ذاته، محاولة لتفسيره، ومساعدة الآخرين؛ القراء على فهمه، وعيش عالم مواز للعالم السطحي، التافه، العنيف.. لهذا أكتب حالمة بصناعة عالم أجمل، وتقاسم أفكاري وأحلامي مع أشخاص يجدون في القراءة ملاذهم. لقد أنقذتني الكتب دائما، وكانت خير صديق ومُعين ومُوجّه في حالات ضعفي وحيرتي وقلقي، ووجدت فيها إجابات عن أسئلة تؤرقني، حتى إنني أستطيع القول إنّ الكتب أنقذت حياتي، أكثر مما فعل البشر، وإنَّ صداقاتي مع الكُتّاب، الأموات على الأخص، الذين عاشوا قبلي بأزمنة بعيدة، كانت ولا تزال أقوى من صداقاتي المعاصرة مع بشر من لحم ودم يعيشون حولي، لكنهم لا يشاركونني الهواجس والاهتمامات ذاتها. الكتابة منحة استثنائية، أشكر الله على أنني ممن حصل عليها، لهذا فإنَّ واجبي الاعتناء بها، وكما أنقذتني كتب كتبها غيري، أحاول متابعة السير على الدرب الذي سبقني إليه الكُتّاب، الذين أضاءوا أمامي طريق المعرفة والتفكير والتحليل والخيال، لأقدم بعض الإجابات المريحة لأشخاص يبحثون عن الأمان والسلام عبر القراءة.
الروائية الليبية عائشة إبراهيم: الكتابة سبيل للتشافي
للأسف عشت محنة الحرب بكل ما فيها من رعب وقلق، كما عشت محنة النزوح. إنّ مجرد تذكرهما هو أمر مثير للغثيان، وكنت أكتب تحت أصوات القذائف، واهتزاز الجدران والنوافذ، وانتظار الموت في كل لحظة، وكان فعل الكتابة بالنسبة لي هو حالة تمترس في بيئة موازية، كما يحتمي الآخرون في الملاجئ. كنت أكتب لأنسى، أكتب لأتجاوز، أكتب لأعبر إلى ضفة أخرى بعيدة وآمنة. ومن هذا المنطلق، أرى أنّ الكتابة فعل ذاتي للكاتب، ينشد منها الحماية والتشافي من الألم، ولا علاقة له بالرغبة في التأثير، ولا أتصور أنّ من كتب نصا مهما كان ثوريا، أو محفزا، أو فارقا في صياغته الإبداعية سيكون قادرا على تحشيد الشعوب نحو التغيير، وحتى تاريخيا، وعلى مرّ العصور، لم تنطلق حركات التحرر والإصلاح من الخطاب الأدبي، حتى إنَّ ظل الأدب لصيقا بتلك الحركات، كمدافع عنها ووعاء أرشيفي لحفظها في الذاكرة الإنسانية. الكتابة كفعل ذاتي يمكنها أن تكون ميكانيزما دفاعية للكائن الإنساني البائس، الذي طحنته قسوة الحياة فقرا وحربا وظلما وهشاشة، إنها سبيله للتشافي وبناء هوية متخيلة عوضا عن اليتم الهوياتي، الذي يعيشه في عالم لا يشعره بالانتماء. وتمتد فكرة التشافي أيضا إلى القارئ، على اعتبار أنَّ القراءة أيضا فعل ذاتي، يلجأ إليه الإنسان كوسيلة لترميم الروح المقهورة، والبحث عن المواساة، أو إدانة الطغاة في عوالم موازية، كما أنني أعي جيدا ككاتبة روايات أنَّ هذا الشغف الذي أعيش فيه، لا يصنع شعارات لقيادة الجماهير، لكن يمكن أن يفكك الأمراض المجتمعية المزمنة، وتراكمات القهر والتخلف، ويمكن أن يحفز الأسئلة حول المعطيات والصراعات التي أوجدت ذلك الواقع وكشفها للقارئ. كل ذلك يمكن أن يساهم على المدى الطويل في تصحيح منظومة القيم الإنسانية، وإعلاء معاني الخير والحق والسلم والجمال.
كاتب أردني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب