مقالات

رهانات ويتكوف واستعصاء الميدان

رهانات ويتكوف واستعصاء الميدان

عمرو علان

لم يكن مقترح ويتكوف الأخير إلا محاولة أميركية بائسة لإعادة تدوير الطروحات المرحلية ذاتها، التي سبق واختُبرت في جولات تفاوضية ماضية وأثبتت خواءها. فقد تعمّد الأميركي، وعبر طرف ثالث، تمرير معلومات مغلوطة إلى المفاوض الفلسطيني، توحي بأن الرئيس ترامب بصدد تقديم مبادرة تؤسس لوقف دائم لإطلاق النار وإنهاء العدوان. غير أن الوثيقة التي تسلّمها الوفد الفلسطيني خلت من أي التزام، صريحاً كان أو ضمنياً، بوقف الحرب، الأمر الذي أظهر فجاجة المسعى الأميركي، وانكشاف رهانه على تسويق الوهم تحت غطاء الديبلوماسية.

عبر هذا الطرح، سعى الأميركي إلى إرجاع المفاوض الفلسطيني إلى مسار الاتفاقات المرحلية، استنساخاً لاتفاق 15 كانون الثاني 2025، والذي لم يصمد سوى بضعة أسابيع، قبل أن يتهاوى تحت وطأة تلاعب العدو وانعدام جدّيته في الوصول إلى تسوية. ذلك الاتفاق لم يكن سوى غطاء مؤقت لاستعادة الأسرى الإسرائيليين وإعادة التموضع الميداني، من دون التزام بأي أفق سياسي أو إنساني.

لقد خَلُصت قيادة حماس، في مراجعات داخلية سابقة، إلى أنّ هذا النمط من الاتفاقات لا يُفضي إلى وقف المجازر بقدر ما يُمكّن العدو من الإفلات من مأزقه العسكري. فالمقاومة، بعد التشاور مع شركائها في فصائل المقاومة المسلحة في غزة، تبنّت موقفاً موحّداً يرفض الدخول في لعبة سياسية مكشوفة، يديرها الاحتلال بتواطؤ أميركي مباشر. وقد بدا هذا الموقف ناضجاً، لا من حيث وعيه بمسارات التجربة فحسب، بل أيضاً من حيث استبصاره مآلات أي تهدئة غير مشروطة بوقف العدوان.

فالقبول بأي اتفاق مرحلي لا يُفضي إلى وقف شامل لإطلاق النار، لا يخدم سوى هدف الاحتلال في استرداد أسراه ومواصلة حربه، بل ويفتح شهيته على تصعيدٍ إضافيٍّ، يعمّق معاناة الغزيين بدلاً من التخفيف عنها. ومن هذا المنطلق، كان رفض المقاومة لهذا المسار إعادة ضبط لبوصلة الاشتباك السياسي والميداني معاً، وإفشالاً لمحاولة الالتفاف على جوهر المعركة.

لقد خَلُصت قيادة حماس، في مراجعات داخلية سابقة، إلى أنّ هذا النمط من الاتفاقات لا يُفضي إلى وقف المجازر بقدر ما يُمكّن العدو من الإفلات من مأزقه العسكري

وفي سياق متّصل، تشكّل الضغوط الدولية المتزايدة على كيان الاحتلال، لا سيما تلك القادمة من عواصم أوروبية تُعدّ حليفاً تقليدياً له، كألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ورقة جديدة بيد المقاومة. هذه الضغوط، رغم أنها لا تزال دون المستوى المطلوب، تُشير إلى تحوّل نسبي في المزاج الدولي، بفعل تعرّي الخطاب الإسرائيلي أمام الشعوب، وبفعل صمود المقاومة التي نجحت في كسر أهداف العدوّ المعلنة والمضمرة، وأحرجت حلفاءه في عواصم القرار الغربي.

فقد أفضى الأداء الميداني لكتائب القسام وسائر الفصائل إلى إسقاط الرهانات على قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه المعلنة في غزة. ومع كل يوم تتواصل فيه العمليات القتالية، يتّضح أكثر فأكثر أنّ هذه الحرب باتت عبئاً سياسياً على من أشعلها، وأنها تحوّلت إلى أداة انتقام أعمى لا تُنتج إلا المزيد من القتل والتجويع والتدمير، من دون تحقيق أي مكسب إستراتيجي ملموس.

أمّا في الضفة الأميركية، فإنّ وهم الحسم السريع الذي روّج له ترامب عقب توليه مقاليد الحكم قد انكشف بالكامل. فالرجل الذي توهّم أن إخضاع غزة لن يتطلّب أكثر من أسابيع، بات مضطراً اليوم إلى مواجهة حقيقة ساطعة: أنّ جيش الاحتلال عاجز عن الحسم، وأنّ معادلات الميدان أقوى من كل وعود السياسة. كما إنّ الفشل الأميركي في ملفات موازية، كاليمن، يدفعه إلى التعامل مع الواقع كما هو، لا كما تصوّره مخيّلته الإستراتيجية القاصرة.

وفي ظلّ استمرار الإدارة الأميركية في تسويق المسار المرحلي على أنه خيار «واقعي»، تتبدّى الحاجة إلى تثبيت الموقف الفلسطيني الرافض لهذا المسار المضلّل. فالتجربة أكّدت أنّ الاتفاقات المرحلية لم تكن سوى وسائل لتقنين العدوان، وتأجيل الحسم لا تجاوزه، وفتح المجال أمام الاحتلال لإعادة التموضع لا الانكفاء.
لذا، إنّ التمسّك بشرط وقف شامل ونهائي للحرب، قبل الخوض في أي صيغة تهدئة، يُعدّ الخيار الأكثر عقلانية في هذه المرحلة، ليس فقط من منطلق حماية المصلحة الوطنية، بل أيضاً من باب تثبيت السرديّة الفلسطينية، وإحراج الاحتلال أمام العالم، وتكريس المقاومة كفاعل ميداني وسياسي لا يُمكن تجاوزه.

* كاتب سياسي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب