مقالات

كيف نقرأ العدوّ؟

كيف نقرأ العدوّ؟

كان ولا يزال صعباً الحديث التفصيلي والحرّ نسبياً، عن ما جرى معنا في لبنان خلال عامين من الحرب الإسرائيلية.

كان ولا يزال صعباً الحديث التفصيلي والحرّ نسبياً، عن ما جرى معنا في لبنان خلال عامين من الحرب الإسرائيلية. لأن ما سبق الأعمال التنفيذية للعدو، كان عملاً أمنياً ضخماً، لم يكن كله بعيداً عن الأعين. كما أن النقاش حول كيفية تعاملنا مع الوقائع، كشف قبل الحرب وأثناءها وبعدها، عن تباينات هائلة حيال كيفية قراءة عقل العدو.

وإلى أن يكون الوقت مناسباً للحديث التفصيلي، فإن الحرب التي بدأت ضد إيران، توجب بعض الملاحظات:
بداية، إن ما حصل حتى اللحظة ليس بالأمر الهيّن. وثمة احتمالات قد تكون أكثر قساوة من الذي حصل حتى اللحظة. ومع ذلك، فإن مآلات هذه الحرب الكبيرة ليست محسومة بشكل مُسبق. وكما علّمتنا الحرب المستمرة على غزة، وما جرى في الحرب الواسعة ضد لبنان، فإن التجربة الراهنة، تدعونا إلى التمهّل، وإلى بعض الصبر، وإلى انتظار مرور الأيام الساخنة. ويبقى المهم، أن يحافظ المرء على هدوئه، وبرودة أعصابه، وأن يفعّل محرّكات عقله إلى أقصى طاقتها كي يتبيّن طريقه الجديد.

في كل مرة تواجه فيها قوى ثورية، تحدّيات كالتي تواجهها حركة المقاومة للاحتلال والهيمنة الأميركية والأوروبية والإسرائيلية حالياً، يُفترض بها مراجعة أدوات عملها الفعلية. حيث يحتاج المرء إلى أدوات مختلفة جذرياً، وليس نسبياً عن كل أدوات البحث التي اعتدنا عليها.
فريقنا لا يحتاج إلى خبراء في الاستراتيجيات كما يحلو للنخب الحديث. وفريقنا لا يحتاج إلى صرف طاقات على تقليد المؤسسة الغربية في قراءة الخرائط والدول وتوسّع النفوذ.

حتى الدهاء، لا يتطلّب منك أن تغرق في اللعبة التي يتقنها الغرب كونه من يقف خلف قيامها. وكل ما يحتاج إليه فريقنا، هو أن يفهم بالضبط، دون زيادة أو نقصان، ما الذي يريده العدو من بلادنا. ومن يحتاج إلى أدوات فحص، فليغرق وحدَه في التحليل والبحث والتمحيص وكل الكلام الفارغ. ذلك كون الحقيقة واضحة جداً.

إسرائيل، مجرّد كيان لا يمكن له أن يعيش لحظة من دون الغطاء والدعم الموفّريْن له من كل المؤسسة المسيطرة على قدرات العالم، سواء كان اسمها أوروبا أو أميركا أو توابعهما. وإسرائيل هذه، لديها أسطورتها. وبالمناسبة، هي أسطورة موجودة أيضاً عند كثير من الشعوب، وهي موجودة أكيداً عند المسلمين، السنّة منهم أو الشيعة. لكنّ إسرائيل، لديها أسلوب في إدارة أمورها. وهو أسلوب يقوم على فكرة المدينة المقفلة.

مثل تلك القبيلة التي رحلت إلى بادية فزرعت فيها خيامها، ثم بنت من حولها سوراً، بحيث تقرّر هي من يحق له الدخول أو الخروج. وقامت إسرائيل على مبدأ، يبقى هو الثابت الدائم في كل حقباتها السياسية. ويقول، إنها لا تحصل على الأرض والأمن والاستقرار والنمو، إلا عبر محاربة الآخرين، الأقربين منهم والأبعدين. وإن القوة المُفرطة من قبلها، هي الوسيلة الوحيدة لكي تلزم الآخرين، أصدقاء أو أعداء بالتعامل معها بحذر أو خوف أو احترام.

إذا لم يغادر القائمون على الأمر كل أدوات التفكير السابقة، فهم سيغرقون في نقاشهم العقيم، بينما تقول لنا إسرائيل بنفسها إن علاجها الوحيد هو بالنار

من يملك هذه القناعة، وبصورة فعلية، لا يرمي نفسه في نار التحليلات والمناورات السياسية. ومن يصل إلى هذه القناعة، لا يبقى يركض باحثاً عن مشكلة ما بين حكام إسرائيل وهذه الإدارة أو تلك في الغرب. ومن يعرف حقيقة إسرائيل، لا ينتظر أو يعمل أو يراهن على فكاك في تحالف الغرب ورعايته لها. بل عليه، أن يدرك أنّ تدفيع الغرب ثمن ما تقوم به إسرائيل، هو ما يفيده في النهاية. لأن عكس ذلك، هو بالضبط ما تفعله الدول الراضية بالمشروع الأميركي.

وخذوا دول الجزيرة العربية مثلاً. فحكامها، لا يحبون إسرائيل، وليسوا مسرورين بعمليات النهب التي تقوم بها أميركا والغرب لثرواتهم. لكنهم، ليسوا على استعداد لتحمّل كلفة المواجهة. ولإدراكهم بأن الأمر رهن ما يتفقون عليه مع الغرب، يذهبون مباشرة إلى أميركا، ويحملون في رحلة عودتهم لائحة المطالب، وإذا ما ورد فيها عنوان يطلب الصلح مع إسرائيل فهم يفعلون ذلك مباشرة.

وإسرائيل هذه، تحب المفاجأة. لكنها تحبها إن كانت هي من يتولى إنتاجها. وهي لا تحب على الإطلاق أن تتعرّض هي لأمر مفاجئ. وهي تعرف أن الآخرين من حولها، لا يحبونها، ولا يتمنّون لها الخير. ولذلك، هي لا تركن لضمانة من أحد. وفي كل عقد، تعطينا الأمثلة على أنها لا تقبل ضمانة أحد. وهو ما يجعلها في حالة استنفار دائمة. وفي حالة توثّب واستعداد للقيام بكل ما يلزم لمنع الآخر، أي آخر، من امتلاك القدرة على التفكير في إيذائها.

وهي لا تقبل أن يكون هناك عدو لها مرتاح في حياته، وتلاحقه أينما تقدر يدها على الوصول. وهو واقع، بمعزل عن مدى نجاحها في تحقيق أهدافها. ونقاشنا اليوم، ليس عن إنجازات أو إخفاقات، بل حديثنا عن فهم عقل العدو، والتثبّت من أنه يسعى طوال الوقت لمنع أي خصم أو عدو له من امتلاك الفرصة أو القدرة على ضربه.

لكن ما هو الأكثر قساوة في حال العدو، هو أن عقله يقوم على فكرة «اقتله، لأنه آتٍ لقتلك»، وهو عقل لا يحكمه أي نوع من الضوابط. ليس عند العدو من خط أحمر، أو حدّ للقوة. هو لا يرى في كل الآخرين ما يستحق الاحترام. وفكرته عن الحرب، هي القتل والإبادة. ومن لا يدرك هذه الحقيقة، يبقى أسير قواعد عمل تجاه إسرائيل، تمنحها دائماً فرصة التقدّم. وكلّما كان خصوم إسرائيل يرسمون دوائرَ وخطوطاً حمراً، باسم السياسة أو الأخلاق أو الاعتبارات الخاصة، كانوا يخسرون عنصر قوة رئيسياً في مواجهة إسرائيل. ذلك أن الرصيد الوحيد لدى العدو، هو هذه الكمية المحدودة من البشر، والتي تتواجد في أماكن محددة داخل الكيان أو في العالم.

المُراد من كل ما سبق، ليس درساً في السياسة أو في كيفية التعامل مع الحرب. بل هو محاولة جادّة، للقول، ليس لكل الناس، بل للذين يريدون تحمّل المسؤولية في مواجهة هذا الوحش المتفلّت، بأن فهم عقل العدو، يوجب سلوكاً مختلفاً بصورة جذرية عن كل ما يحصل الآن. ومن يريد الاستفادة من درس الحرب الأخيرة معنا، عليه أن يعرف حقيقة واحدة هي: طي صفحة مع الماضي، لأنه لا ترف لدينا حتى نراجعه أو نحاكمه، وما نملكه، هو فقط، بعض الوقت والطاقة، لأجل ابتداع وسيلة جديدة في مواجهة عدو لا يمكن العيش معه تحت أي ظرف!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب