مقالات

طبيعة الحرب الحالية: المباغَتة والمواجهة المباشرة والتقدّم بالنقاط

طبيعة الحرب الحالية: المباغَتة والمواجهة المباشرة والتقدّم بالنقاط

ورد كاسوحة

ثمّة أبعاد متعدّدة للحرب الحالية بين إسرائيل وإيران، وهي لا تقتصر على الجانبين العسكري والجيوسياسي وحدَهما، رغم أنهما يبدوان وكأنهما يختزلان دلالاتها الأخرى جميعها، لفرط العنف الذي استخدمته إسرائيل في الموجة الأولى من الهجوم.
تأثير الصدمة هنا، بفعل المناورة الاستخبارية الإستراتيجية المشتركة مع الولايات المتحدة، أوحَت بحصول انهيار مباشر، ليس فحسب للدفاعات الإيرانية التي جرى تعطيلها من الداخل عبر شبكة من عملاء الموساد، بل للجبهة الداخلية في إيران برمّتها أيضاً.

وهي كبُنية اجتماعية لا تقتصر على القاعدة العريضة الموالية للنظام، بل تتجاوزها إلى الفئات التي تعارضه أو لا تؤيّده بالمقدار نفسه، وهو ما تدركه إسرائيل أكثر من سواها، عملاً بمبدأ التقويض من الداخل الذي أخذ دفعة كبيرة مع المساعَدة التي لاقَتها تل أبيب في شلّ الدفاعات الجوية الإيرانية قبل الشروع بالهجوم. في هذا الإطار تحديداً تأتي مسارَعة بنيامين نتنياهو، عقب الموجة الأولى من الهجوم، إلى مخاطَبة الإيرانيين بغرض جباية ثمن المرحلة الأولى من الاستهداف، خشية أن يتلاشى تأثيرها مع بدء استعادة المبادرة الإيرانية.

سياق المباغَتة الإسرائيلية

والحال أنّ ذلك يضع الحرب في سياق غير ذاك الذي بدت عليه في الساعات الأولى للهجوم. فما بدا انكساراً إيرانياً في البداية، سرعان ما انتهى إلى مجابهة شبه متناظرة، لا تقف فيها إيران على قَدم المساواة مع إسرائيل في سرعة ودقّة تحقيق الأهداف، ولكنها في الوقت ذاته لا تضعُف أمامها إلى الحدّ الذي يجعلها تصرخ لإيقاف الحرب عبر وسائل لا تقع أدوات الحرب نفسها، كمنهجية للمواجهة بدلاً من الإذعان والاستسلام، في صُلبها.

هذا التراجُع، إذا صحّ التعبير، يبدو كأمر طبيعي في سياق ما تعرّض له الإقليم كلّه، وليست إيران فحسب، على مدى أكثر من سنة ونصف من الحرب الصهيونية التدميرية المتعدّدة الجبهات والأدوات، في مواجهة غزّة ولبنان، وصولاً إلى اليمن نفسِه، الذي لا يزال يمثّل حتى اللحظة الاستثناء عن القاعدة.

«الضعف الإيراني الشديد» نتيجة فقدان طهران الجزئي جلّ هذه المواقع المتقدّمة لها في مواجهة إسرائيل، شلّ قدرتها على الحرب بالواسطة، ولكنّ المركز نفسه لم يتضرّر كثيراً بخسارة الجبهات. هيّأ ذلك الأرضية لفُقدان عنصر المبادرة، مع كلّ الزخم الذي استحوذت عليه عملية التفاوض مع الولايات المتحدة، إلى درجة بدا معها أنّ العمل العسكري الغربي ضدّها لنزع القدرة النووية قد تأجَّلَ أو وُضِع جانباً إلى حين اتّضاح مسار التفاوض على البرنامج النووي.

الاطمئنان الزائد جعل الضربة الحالية تبدو، حين حصلت المباغَتة المصحوبة بخروق استخبارية كبيرة، أقوى ممّا هي عليه فعلياً. تسبّبَ ذلك، إلى جانب الزخم الإسرائيلي الكبير في الجهد العملياتي المصحوب بتغطية دعائية وسيبرانية كاملة، بإرباكٍ كبير للنظام، بحيث لم يستطع استعادة قدرته على التحكّم والسيطرة إلا بعد انجلاء الهجوم الجوّي الإسرائيلي عن خسائر كبرى.

الانتقال إلى وضعية المواجهة المباشِرة

«استعادة المبادرة» عبر الردّ السريع لم تكن معادِلة لحجم الخسائر التي لحقت بالقوّتين الإيرانيّتين، العسكرية والنووية. غير أنها، في المقابل، وبعد الاستعاضة السريعة عن القادة العسكريين الذين اغتيلوا، أبقَت على النواة الأساسية للردع الإستراتيجي في حالة جهوزية رمزية. هذا يضَع إيران، على المديَين المتوسّط والبعيد، في حالة دفاعية أكثر منها هجومية، ليس فحسب بسبب فقدان أدوات التموضع الهجومي، بل لأنّ النظام في وضعه الحالي أيضاً، يتصرّف بطريقة تجعله يتخفّف من أثقال المرحلة السابقة، لمصلحة المجابهة المباشرة،
أي بعيداً عن منهجيّة حرب الجبهات، التي يقوم فيها الردع الاستباقي، الذي يستبعد المساس بالمركز، مقام المواجهة وجهاً لوجه، كما يحصل حالياً.

الثمن في هذا النوع من المجابَهة يكون أكبر لأنّ إمكانية وصول الخصم أو العدوّ إلى الجبهة الداخلية لا تُواجَه بعراقيل تمنعه من إلحاق الضرر بالقدرة العسكرية، وحتى النووية، للطرف الذي اعتاد على تكبيل إسرائيل بخصوم وجبهات تحدّ من إمكانية تقدّمها خطوة واحدة إلى الأمام بدون دفع ثمن فادح وكبير.

تجاوُز الإسرائيليين لهذه المرحلة، وتمكُّنهم، بفضل الغطاء الغربي الكامل والتفوّق التكنولوجي على الخصوم جميعاً، أوصَلَهم إلى المرحلة التي يصبحون فيها قادرين على الوصول إلى الداخل الإيراني، ليس بسهولة فائقة كما يتصوّر البعض، ولكن بقدرة على الاختراق تكاد تكون غير مسبوقة.

خاتمة

على أنّ ذلك لا يكفي لإدامة ما بدا للوهلة الأولى تفوّقاً إسرائيلياً، إذ إنّ الحرب الآن، وبعد الانتقال إلى منهجية المواجهة المباشرة، باتت تُخاض بالنقاط، وبقدرة أقلَّ بكثير من السابق على الحسم، على اعتبار أنّ العمق الذي تُخاض فيه المعركة لم يعد ضيّقاً كما كانت عليه الحال سابقاً. مساحة إيران لوحدها تجعل أيّ إمكانية لهزيمتها مشروطة بقدرة فائقة على تفعيل أدوات لا تقدر وسائل الحرب التي تتبعها إسرائيل على تفعيلها أو إدارتها بالسهولة التي يتصوّرها البعض. الجغرافيا هنا لا تبدو فقط كمأزق لإسرائيل في هذه الحرب، بل كعامل لم يكن متوافراً بالمقدار نفسه في الحروب السابقة التي كانت تُخاض بالواسطة أيضاً، وعلى بقع جغرافية ضيّقة المساحة، ولا تتطلّب جهوزية كاملة من سلاح الجوّ الصهيوني أو حتى كلفة تشغيل كبيرة.

وإذا أضفنا إلى ذلك عامل الاقتصاد الذي لم يكن موجوداً بدوره في الحروب السابقة، على اعتبار أنّ الحرب لم تكن في أيٍّ من مراحلها السابقة في مواجهة دولة نفطية كبرى تتحكّم بمضائق وممرّات بحرية تمرّ منها معظم الإمدادات التجارية العالمية، نصبح إزاء معادلة يستحيل معها، ليس الحسم فحسب، بل التحكّم بتبعات ما سيحصل على المستوى الدولي أيضاً، حين تنقطع سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، أو تكاد.

لكن يبقى العامل الأهمّ هو قدرة الدولة التي تُشَنّ ضدّها الحرب، بتغطية غربية كاملة، على إشعال قلب الدولة الصهيونية بالصواريخ والمسيّرات حتى وهي تُستهدَف مباشرةً في طهران وتُنزَع منها عسكرياً، وبواسطة سلاح الجوّ الإسرائيلي، القدرة على تطوير برنامج نووي سِلمي كما تفعل معظم الدول التي أحرزت تقدّماً في هذا المجال.
إيران في ضعفها الشديد الحالي، هي حجّة على هذا الطّور من التدخّل الإمبريالي الذي أوصلت الترامبيّة العالم إليه، بواسطة العصا الإسرائيلية الغليظة، حتى وهي تحاول معاكَسته شكليّاً في أوكرانيا.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب