مدينة لا تشبه إلا نفسها: أبو جبيهة حكاية سودانية نضجت تحت ظلال أشجار الهشاب

مدينة لا تشبه إلا نفسها: أبو جبيهة حكاية سودانية نضجت تحت ظلال أشجار الهشاب
ميعاد مبارك
الخرطوم ـ في عمق السافنا السودانية، تنهض أبو جبيهة كجبهةٍ مرفوعةٍ في وجه النسيان. ليست مجرد مدينة، بل سردية حية لخصوبة الأرض، وتاريخٍ صنعه مجتمعها الغني بإثنياته المختلفة التي تجمع السودان بكل تنوعه في مدينة. تتعالى أشجار الهشاب السخية التي لا تكف عن بذل الصمغ العربي، وتمتد بساتين المانغو التي تطرح ثمارها اللذيذة وتنشر عطرها الفواح على امتداد المدينة. هنا، الجبل شاهد، والوادي راوٍ، والإنسان جزء من ملحمة لا تنتهي.
مدينة على جبين الطبيعة
تقع مدينة أبو جبيهة في ولاية جنوب كردفان جنوب شرق البلاد، في منطقة السافنا الغنية، التي تتمتع بطبيعة خضراء خلابة وأودية عذبة هي شريان الحياة وسفوح عالية، أبرزها جبل أبو جبيهة الذي سميت بإسمه المدينة.
ويعود إسم جبل أبو جبيهة الذي تقع المدينة في سفوحه الشمالية، إلى صخرة بارزة تعتلي قمة الجبل بها تنوء كأنه وجه إنسان بجبهة بارزة، وتم تصغيره للتمليح.
وتبعد أبو جبيهة عن العاصمة الخرطوم مسافة 481 كيلو مترا، وتقع على ارتفاع 679 مترا فوق سطح البحر في منطقة غنية بمواردها الطبيعية والزراعية. تعدّ من المدن المهمة الواقعة على حزام الصمغ العربي الذي يستأثر السودان بمعظم إنتاجه العالمي.
يحد المنطقة من الجنوب محلية كلوقي ومن الشمال محلية رشاد، ومن ناحية الغرب محلية كادقلي، ومن ناحية الشرق محلية السلام، ومن ناحية الجنوب الشرقي محافظة مانج في جمهورية جنوب السودان.
أخذت المدينة اسمها من اسم الجبل أبو جبيهة الذي تقع في سفوحه الشمالية والذي سُمي بهذا الاسم لنتوء صخوره التي شبهها السكان المحليين بالجبين أو جبهة الوجه. فيقولون الجبل أبو جبيهي، أو أبو جبيهة، ولفظ الجبيهة في اللغة هو تصغير للجبهة.
وفي سهل أشبه بشبه جزيرة تتوسط أبو جبيهة وادي البطحاء الذي يقع في غربها وجنوبها، ووادي الضكير الذي يحيط بها من جهة الشمال الشرقي والشرق ليلتقي مع وادي البطحاء في الجنوب. وذلك فضلا عن الأودية الموسمية الأخرى التي تجري بالقرب منها والتي تفيض بالمياه في المواسم المطيرة، ومنها وادي عبيد الواقع على بعد 9 كيلومترات من المدينة وخور ام عليق ويبعد بحوالي 52 كيلومترا وخور ود المليسح على مسافة 40 كيلومترا.
أما التلال القريبة من المدينة أهمها هو جبل طروم وجبل تملوك الواقعين على بعد 27 كيلومترا 33 كيلومترا على التوالي. ونظرا لوقوع أبو جبيهة في منطقة السافانا الغنية فإنها تزحر بنباتات غابية تسود غطائها النباتي كأشجار الهشاب والجميز إلى جانب أشجار العرديب والصمغ العربي، ومن أبرز غاباتها غابة أبو قريض. فضلا عن أشجار الدليب المميزة (من فصيلة النخليات) أشجار الليمون والجوافة، والمانغو التي تكسو البساتين.
ولعل أبرز ما يعلق بذاكرة الزائر للمدينة الخضراء أشجار المانغو المنتشرة في الشوارع والأزقة وثمارها المتناثرة ورائحة البساتين الفواحة والأجواء الخريفية البديعة.
نشأة المدينة
حسب المؤرخ والزعيم الأهلي غريق كمبال، تعود نشأة المدينة إلى نهاية عام 1912 حيث تم تعيين راضي كمبال ناظرا على عموم أولاد حميد وكنانة في كانون الأول/ديسمبر من العام 1912.
وراضي بن كمبال المكني بـ«أبي نارومه بن محمد» الملقب «بكد نقو» يقدر أنه في حوالي عام 1870 وعندما أعلن الزعيم الدولة المهدية التي أطاحت بالحكم التركي، محمد أحمد المهدي عن مهديته كان راضي فتى صغيرا، لكنه لاحقا برز في فترة شبابه وأصبح من القادة البارزين لجيوش خليفة المهدي، عبد الله التعايشي.
من البادية إلى الحضر
وروى غريق أن الناظر رأى ببصيرته الثاقبة أن تجوال القبيلة وترحالها بين شواطئ النيل الأبيض وخط السكة حديد حول تندلتى وأم روابة في أرض القوز من كردفان يمثل رحلة شاقة، وسعى للبحث عن فرصة لاستثمار الأرض واستصلاحها واعتماد مصادر دخل جديدة بالإضافة إلى تربية المواشي.
أراد أن يتم إعمار القرى (الحلال) والاستقرار واستيعاب الصغار في التعليم بأي مستوى، لذلك استشار الناظر عددا من عقلاء القبيلة وقرر تقصير هذه الرحلة من 200 كيلومتر تقطعها القبيلة سنويا جيئة وذهابا إلى ما لا يزيد عن 50 كيلومترا بين المصايف والمخارف في البنية وما حولها، وأغرى الناس بتوفير مؤنة الخريف من الذرة والملح للبهائم مجانا (البهائم في الأرض الطينية تعطى ملحا تلعقه مرة كل شهر لخلو النبات من الملح أو وجود نسبة ضئيلة لا تفي بحاجة أجسام المواشي).
بهذه الفكرة المتطورة استطاع الناظر تعمير الحلال فكانت قردور أو أولاد حميد وجديد وأبو نوارة والقردود الطويل وغيرها من القرى والحلال.
وسرعان ما بدأ أهالي المنطقة يجنون ثمار الزراعة فأصبح منهم منتجو الذرة والسمسم وتعلموا طق الهشاب الغني بالصمغ العربي، واستطاع الناظر أن يتخذ عاصمة مستقرة للنظارة في أبوطليح.
بعدها طالب الناظر مفتش المركز بإنشاء مدرسة صغرى متنقلة ومستشفى فكان وأصبحت للمدرسة محطتان لطبيعة مكونات المنطقة الرعوية المتنقلة وقتها، رغم الاستقرار النسبي، واحدة من محطات المدرسة كانت في منطقة البنية في الخريف وعاصمة النظارة أبو طليح في الصيف. من هذه المدرسة الصغرى تخرج بواكير المثقفين هناك الذين قادوا فيما بعد دفة العمل السياسي والاجتماعي في أبو جبيهة ومنهم محمد الباشا وأحمد عبد الملكط وعبد الرحيم عمر وعبد المنعم أحمد الصافي وكباش آدم، وغيرهم من القادة الاجتماعيين والسياسيين.
وحسب المؤرخ غريق: «عانى الناظر راضي من بعد عاصمته عن المركز في رشاد، ومن بطء العمارة فيها، الأمر الذي جعلها غير مشجعة للآخرين بالقدوم إليها وتعميرها، فجال ببصره في رقعة نظارته، فاستقر رأيه على مجاورة منهل الدليب عند جبل أبو جبيهة الذي أسكن جواره الشيخ محمد سمبو فيما يعرف اليوم بحي سمبو، وأسكن إلى الشمال منه الشيخ كوكو ضحية فيما عرف قديما بأم قصاصة وحاليا بكنجارة وذلك لحراسة حدوده شرق وادي البطحة. طرح فكرته على مفتش المركز الذي وافق عليها فورا وطرحها على عمدة السوراب العمدة بابكر محمد فوافقوه عليها فأعلن الناظر راضي ترحيل أبو طليح إلى أبو جبيهة. تم كذلك ترحيل المدرسة لتصبح أبو جبيهة الأولية الجنوبية، فيما بعد وتم ترحيل المستشفى وبنيت محكمة واستدعى التجار من أبو طليح ومن قرى الصرارة وأورو وكانت قرى عامرة يومها واستخرجت تصاريح دخول لبعض التجار من أم روابة، فقام سوق أبو جبيهة القديم وتوافد أهل الخبرات التجارية من كل أنحاء البلاد، لتصبح المدينة جامعة لكل السودانيين بمكوناتها الاجتماعية والثقافية الغنية. وتكاملت خبرة أهل النهر (نهر النيل) في استصلاح الأراضي الخصبة مع مقدرة الهوسا على العمل في أراضي النيل فكانت الطفرة البستانية في أبو جبيهة والتي أصبحت ملء السمع والبصر وأصبحت ثروة قومية ينعم بعائداتها كل أهل السودان».
يبلغ عدد سكان المدينة حوالي 21.790 نسمة يمثلون مختلف الإثنيات والقبائل السودانية. يتنوع نشاط المدينة من زراعة ورعي إلى صناعة خفيفة وتجارة تجزئة. ومن أبرز أحياء أبو جبيهة: السوق، المحلج، العشر والبوستة والكوز، الدبيبة، القمارة، الستيبة، الجزارين، أم خماشة، الأمير، والمربعات، بالإضافة إلى: أحياء المدارس، جبل العمدة، القلعة شمال، القلعة جنوب، الشهداء، أم عدارة، القرودد، الفردوس، الصحافة والوحدة.
أنشطة اقتصادية
وتشكل الزراعة والرعي أهم الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها السكان. يتركز القطاع الزراعي على إنتاج محاصيل الزراعة التقليدية المعتمدة على الأمطار والتي تعرف محلياً بـ «زراعة الحريق» حيث يتم حرق الأعشاب والحشائش لإعداد الأرض البور، والزراعة الآلية التي تستخدم الآلة في معظم مراحل العملية الإنتاجية وتعتمد هي أيضاً على الأمطار.
أهم المحاصيل هي: الفاكهة وفي مقدمتها المانغو التي تشتهر بها المدينة على نطاق السودان، والصمغ العربي حيث تعدّ المدينة واحدة من أكبر مناطق إنتاجه بالإضافة إلى السمسم والذرة والفول السوداني والخضروات. أما الرعي فيمارسه الرحل من سكان المنطقة مستفيدين من توفر المراعي، ويقومون بتربية الأبقار والماعز والأغنام.
ويشمل النشاط الاقتصادي تجارة التجزئة والجملة والتي تعتمد عليها القرى والبوادي في الحصول على حاجتها من المواد الاستهلاكية. ويوجد في أبوجبيهة قطاع صناعي يقوم على الصناعات الغذائية المعتمدة على الإنتاج الزراعي والحيواني المحلي، إلى جانب المعاصر التقليدية للزيوت ومطاحن للدقيق وآلات الحياكة.
ينتشر التعليم التقليدي الديني الابتدائي في المدينة منذ وقت بعيد ممثلاً في الخلاوي والزوايا وأبرزها خلوة الشيخ الأمير أبو شملة، والشيخ هاشم عبد الجبار، والشيخ كامل الجيلاني، والشيخ دربو، وزاوية الطريقة الصوفية التيجانية.
ما بين التعليم الديني
والمدارس النظامية
أما التعليم النظامي فتمثله مدارس مرحلة الأساس ومن أبرز مدارسها المدرسة الجنوبية والمدرسة الشمالية، مدرسة أبو بكر الصديق الأساسية، بالإضافة إلى عدد من المدارس الثانوية للبنين والبنات. وفي التعليم العالي معهد أبو جبيهة للتأهيل التربوي، وهو معهد متخصص في تدريب المعلمين والمعلمات وتأهيلهم وإعداد المناهج المدرسية والخطط التربوية. بالإضافة إلى جامعة شرق كردفان، كليات الطب والعلوم الصحية والتمريض وكلية الهندسة المدنية، الميكانيكية، الكهربائية، هندسة الحاسوب، وكلية الاقتصاد المحاسبة والتمويل والعلوم الإدارية.
أبرز أنواع الرياضة التي تمارس في المدينة هي المصارعة الحرة التي يخوضها الأهالي على طريقتهم، الأمر الذي يميزها عن المصارعة العالمية، حيث تجرى مسابقات دورية بين المجموعات المختلفة التي تقطن المدينة، إلى جانب كرة القدم. وهناك عدة فرق رياضية على مختلف درجات الدوري المحلي ومنها النضال، التضامن، السهم، السلام، النجم الساحلي، القادسية، الهلال، البستان، الشعلة، الوحدة، الأمل، نجوم القلعة والشرطة.
مدينة جمعت سحر الطبيعة
والتنوع الثقافي
تمثل أبو جبيهة نموذجًا متكاملاً للمدينة التي تجمع بين الغنى الطبيعي، والتنوع السكاني، والرصيد التاريخي الذي صنعته الأجيال. من إنتاج الصمغ العربي إلى بساتين المانغو، ومن التعليم الأهلي إلى الجامعات، ومن الجبل إلى الوادي، تتشكل هوية مكانٍ واعد بالاستثمار والتنمية. ورغم تحديات البُعد الجغرافي، تملك المدينة مقومات سياحية وزراعية وثقافية تؤهلها للعب دور أكبر في اقتصاد الولاية والبلاد ومحيطها الإقليمي.
هي مدينة لا تروى دفعة واحدة. مدينة تنبض بالحياة من ترابها، وتفوح طيباً من بساتينها، ويهطل التاريخ من جبالها كما المطر على وديانها. فيها يلتقي القديم بالجديد، وتتعانق الطبيعة والإنسان في مشهد لا يخفت سحره. إن زرتها مرة، علقت في الذاكرة، وإن غادرتها، ظل طيفها يرافقك كعطر مانغو نضج تحت شمس كردفان. في تفاصيلها الصغيرة، يكمن سرّها الكبير، وفي جبينها العالي، تكتب اسمها بشموخ مهيب.
«القدس العربي»: