رئيسيالافتتاحيه

وقف إطلاق النار وانعكاساته على مستقبل الصراع في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية**

وقف إطلاق النار وانعكاساته على مستقبل الصراع في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية**

بقلم: رئيس التحرير 

بعد شهور من التصعيد المتبادل، والضربات الجوية والهجمات السيبرانية والتهديدات العلنية، جاء الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران بوساطة أمريكية كتحول نوعي في مسار الصراع الإقليمي. إلا أن هذا التفاهم، الذي جرى في كواليس دبلوماسية بعيدة عن الإعلام، يطرح تساؤلات جوهرية: هل نحن أمام خطوة نحو استقرار دائم في الشرق الأوسط؟ أم مجرد هدنة تكتيكية تخدم مصالح آنية؟ وهل يملك هذا الاتفاق قدرة على كسر الجمود السياسي وإحياء مسار التسوية في القضية الفلسطينية؟

أولاً: دوافع الاتفاق… الضرورة لا الرغبة

  1. الخشية من الانزلاق إلى حرب شاملة

تصاعد المواجهة بين إيران وإسرائيل بلغ مرحلة خطيرة بعد الهجوم الإيراني بالطائرات المسيّرة على أهداف إسرائيلية، وردّ تل أبيب بسلسلة عمليات عسكرية واستخباراتية استهدفت بنى تحتية إيرانية ومواقع في سوريا والعراق. ومع اتساع رقعة النيران، اقتربت المنطقة من انفجار إقليمي لم تكن أي من الأطراف مستعدة له.

  1. الضغوط الأمريكية المكثفة

الولايات المتحدة مارست دور “الموازن الاستراتيجي”، إذ إنها لا ترغب في فتح جبهة إقليمية جديدة تُربك أولوياتها في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. فاستخدمت نفوذها لدى إسرائيل، وفتحت قنوات خلفية مع طهران، عبر سلطنة عمان وربما الدوحة، لتثبيت تهدئة متبادلة تمنع التصعيد.

  1. حسابات الداخل في تل أبيب وطهران

إسرائيل تعاني من أزمة سياسية متفاقمة، واحتقان داخلي متزايد بسبب الفشل العسكري في غزة وتآكل الجبهة الداخلية.

إيران، من جهتها، تعيش تحت وطأة عقوبات اقتصادية خانقة، وضغوط داخلية وتظاهرات متفرقة، ما يجعلها بحاجة إلى التقاط الأنفاس وتثبيت مكاسبها الإقليمية دون صدام مباشر.

ثانياً: طبيعة الاتفاق وحدوده الجيوسياسية

هذا الاتفاق ليس معاهدة سلام، ولا حتى اتفاق تهدئة شامل، بل هو تفاهم أمني غير معلن، يقوم على قواعد “عدم التصعيد المتبادل”، ويمكن تلخيص مضمونه في النقاط التالية:

وقف العمليات العسكرية المباشرة من الجانبين، وخاصة عبر الطائرات المسيّرة أو الاغتيالات خارج الحدود.

تقليص النشاطات الاستخباراتية العدائية، عدم فتح جبهات موازية (مثل حزب الله أو الحشد الشعبي) من دون تنسيق مع الطرف المعني.

لكن الأهم هو أن هذا الاتفاق لا يشمل أي بند يتعلق بالقضية الفلسطينية أو قطاع غزة، ما يُظهر بشكل واضح أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لا يزال “مؤجلاً” خارج حسابات التفاهمات الدولية.

ثالثاً: الانعكاسات الإقليمية للاتفاق

  1. انكفاء إيران نحو التموضع الدفاعي

التفاهم يعطي إيران فرصة لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، خصوصاً في سوريا والعراق واليمن، دون خوض مواجهة مباشرة مع إسرائيل. لكنه لا يعني تراجعاً في الدعم السياسي والعسكري لحلفائها، بل تغييراً في قواعد الاشتباك وتوقيتاته.

  1. إسرائيل تستغل التهدئة لتصعيد عدوانها على غزة

مع تراجع خطر الجبهة الشمالية، باتت تل أبيب أكثر جرأة في تنفيذ عملياتها العسكرية ضد قطاع غزة والضفة الغربية، معتقدة أن طهران لن تردّ في هذا السياق طالما لا يشكّل تهديداً مباشراً لها.

  1. ارتياح أمريكي مشروط

التهدئة تخدم أهداف واشنطن قصيرة المدى، لكنها لا تحلّ جذور الصراع، بل تؤجله. ومع بقاء التوترات الجوهرية قائمة، فإن أي استفزاز بسيط قد يعيد المنطقة إلى مربع التصعيد.

رابعاً: موقع القضية الفلسطينية في ظل التفاهم الإيراني – الإسرائيلي

إن الغائب الأكبر عن هذه المعادلة هو الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية برمتها. فلم يتم التطرق في أي من بنود التفاهمات إلى مسار سياسي أو حقوق الفلسطينيين، بل تُركت غزة وحدها في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.

  1. ازدواجية المعايير الأمريكية

بينما تحركت واشنطن سريعاً لوقف التصعيد بين إسرائيل وإيران، تغضّ الطرف عن الدمار الشامل في غزة، والقتل الجماعي الذي يرتقي إلى جرائم حرب، رغم نداءات المؤسسات الدولية وملايين المتظاهرين حول العالم.

  1. تراجع الأجندة الفلسطينية إقليمياً

مع انشغال الدول الكبرى بالملف النووي الإيراني وأمن الخليج، باتت القضية الفلسطينية خارج أولويات المجتمع الدولي، وأصبحت الحرب في غزة تُعامل على أنها “حدث أمني محدود”، وليس نتيجة احتلال طويل واستعمار استيطاني عنيف.

  1. غياب الرؤية الفلسطينية الموحدة

استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي يُضعف القدرة على استثمار أي تحولات إقليمية، ويمنح إسرائيل فرصة أكبر للمناورة والتهرب من أي استحقاقات سياسية.

خامساً: ما بعد الاتفاق… هل هناك أفق للتسوية؟

رغم صعوبة المشهد، فإن الاتفاق – إذا أُحسن استثماره عربياً وفلسطينياً – يمكن أن يشكّل فرصة لإعادة طرح القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، ضمن مقاربة شاملة للأمن الإقليمي. لكن هذا يتطلب:

  1. تحركاً عربياً جماعياً يعيد التذكير بمبادرة السلام العربية ويشترط أي تطبيع أو استقرار إقليمي بإنهاء الاحتلال.
  2. تحركاً فلسطينياً دبلوماسياً موحداً لإعادة القضية إلى مركز الطاولة.
  3. موقفاً دولياً أكثر توازناً، يعيد فرض قرارات الشرعية الدولية كأساس لأي حل.

وإلا فإن الاتفاق لن يكون سوى هدنة تكتيكية أخرى، تمنح إسرائيل مزيداً من الوقت والغطاء الدولي لاستكمال مشروعها الاستيطاني والتهويدي، على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.

اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران لا يرسي سلاماً حقيقياً، بل يُجمّد مؤقتاً ساحة من ساحات الصراع. وما لم يُربط هذا الاتفاق بحل عادل للقضية الفلسطينية، فإن المنطقة ستبقى في حالة غليان قابلة للانفجار، لأن العدل وحده هو أساس السلام، وليس الصفقات العابرة أو تفاهمات المصالح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب