
حول انكفاء المشروع القومي
بقلم الدكتور يوسف مكي
بدعوة كريمة من مؤسسة شومان، ألقيت محاضرة بالعاصمة الأردنية عمان، حملت عنوان: “انكفاء المشروع القومي”. العنوان كان من اختيار القائمين على المؤسسة. وقد أشرف على إدارة المحاضرة، واستلام الأسئلة بنهايتها، وزير الاتصالات السابق، الصديق الدكتور مهند مبيضين.
في يقيني أن موضوع تراجع الحركة القومية، ينبغي أن تتم قراءته وفق سياقات تاريخية وموضوعية. الحركة القومية، في جذورها حركة تعبوية، تأسست لمواجهة الاستبداد العثماني. وحمل قادتها شعارات طرحها عصر الأنوار الأوروبي. وكان التماهي بين مبادئها المعلنة، والمبادئ التي ارتبطت بالحداثة الأوروبية، يكاد يكون متماهيا.
فعلى سبيل المثال، ركزت كتابات أمين الريحاني، في مطالع القرن العشرين، على أهمية النضال من أجل تحقيق المبادئ التي سادت في الغرب. اعتقد زعماء النهضة العربية، أن الغرب سيساعدهم، على تحقيق أهدافهم في الحرية والاستقلال. لكن نتائج الحرب العالمية الأولى، وما تمخض عنها من اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور، قد لجم تلك التطلعات، ووسم قادة النهضة بالهشاشة الاجتماعية، وعدم قراءة المتغيرات الدولية التي تجري من حولهم.
فات قادة حركة النهضة، أن الحداثة، ارتبطت بمرحلة نشأة الحركات القومية في أوروبا، حيث تم كسر الحدود، وإلغاء الحواجز الجمركية. إن ما بعد الحداثة، هو شيء آخر، مختلف تماما عن المرحلة التي سبقتها… إنها مرحلة التوسع، الاستعماري في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
كان ينبغي على الحركة القومية العربية، أن تعي أنها على نقيض الحركة القومية الاوروبية، فقد ولدت الأخيرة في السوق، بينما ولدت القومية العربية، مناضلة ضد السوق، وذلك أول افتراق حقيقي، بين الحركتين.
وإذا سلمنا بالمنطق الجدلي، فإن السلبي يفترض أن يولد نقيضه. ولذلك فإن من المفترض، على حركة اليقظة العربية، أن تدرك الفارق الكبير، بين الرؤيتين السياسيتين: الأوروبية والعربية، لكن ذلك لم يحدث للأسف. ولم يتم التمييز، بين ترحيب الغرب لمقارعة العرب للاستبداد العثماني، وما جرى بعده، من تغيرات دراماتيكية في المشهد العربي.
كانت تلك أول معضلة واجهها العرب، بعد نهاية الحرب العالمية الاولى. المعضلة الأخرى، أن مواجهة الهيمنة العثمانية، كانت ضد الرجل المريض في الاستانة، والتي كانت جل المؤشرات تشي، بقرب رحيله. وقد تمت مواجهته بأرضية مشتركة، وسقف واحد. أما بعد الحرب العالمية الأولى، وأثناء مقارعة الاستعمار التقليدي الأوربي، فإن المواجهة تمت بسقوف عدة، وافتقرت إلى الارضية المشتركة.
إن الأمم التي تعاني التجزئة، بحاجة إلى إعلاء الفكرة القومية، كأيديولوجيا جامعة. ومن الطبيعي، أن يكون حضورها قويا، بخلاف الأمم التي حققت وحدتها. فالأخيرة، ليست بحاجة للتأكيد باستمرار، على أهمية حدث تحقق وبات من الماضي. لا نتوقع من الفرنسي أو الألماني أو الانجليزي، ولامن الصيني أو الهندي أن يتحدثوا عن أهمية الانتماء القومي، لأن ذلك تم انجازه، وليس من حاجة لاستمرار الحديث عنه. خلافا لذلك، فإن وحدة العرب، بأي شكل من الاشكال، تقتضي أن يكون هذا الهدف حاضرا في شعاراتهم وأدبياتهم.
الانتقال، من النظرة الرومانسية الحالمة، إلى رؤية واقعية، يفرض مراجعة علمية للفكر القومي العربي، ترفض النظرة العدمية للوحدة، التي تضع كل المشاكل على التجزئة، وتعتبرها أم الأمراض، وترى أن طريق الإنقاذ الوحيد هو تحقيق الوحدة. إن نتيجة ذلك، لو تحقق وهو ما لا تسنده كل المؤشرات، أن تتحقق الوحدة بين أجزاء مريضة، فينتج عنها جسد سقيم.
النظرة الواقعية لوحدة الأمة، ينبغي أن تنطلق من بناء الاوطان أولا، وأن تفرض الوحدة من خلال الحاجة التاريخية. ولذلك بات التركيز على انجاز التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية.
في هذا السياق، تواجهنا مشكلتان رئيسيتان، هما القضايا الصعبة، التي تواجهها، عدة أقطار عربية، بضمنها بلدان كانت مركزا لحركة اليقظة، كما هو الحال في سوريا ولبنان والعراق. والواقع هذا ينسحب على بلدان عربية أخرى، أبرزها ما يحدث في السودان الشقيق، منذ أكثر من عامين، من احتراب داخلي، لا توجد أي مؤشرات على وضع نهاية له، حتى هذه اللحظة.
كان من المفترض، أن يكون لجامعة الدول العربية، دور كبير، في معالجة تلك المشكلاتِ، لكن يبدو أن الأمراض التي يعاني منها الجسد العربي، في عدد من الأقطار العربية، قد تسللت للجامعة ذاتها، وباتت عاجزة عن تطبيق ميثاقها، بما في ذلك معاهدة الدفاع العربي المشتركة، وميثاق الأمن القومي الجماعي. وربما كان ذلك من أحد أسباب نشوء مجالس التعاون العربية، التي عجز غالبتها عن تلبية الأهداف المعلنة لتأسيسها.
ولعل هذه مناسبة لتذكير القادة والشعوب العربية، بأن ما نمر به من أزمات حادة، ومن تغطرس في سياسة الكيان الإسرائيلي، واعتداءاته المستمرة على الأقطار العربية، ودول الجوار، يستدعي وقفة تاريخية، من الجميع، وممارسة مختلف أشكال الضغوط للتصدي لنزعات الهيمنة، وغطرسة القوة.
هناك قضية عربية أخرى، ينبغي معالجتها، هي اتساع الفروقات بين الغنى والفقر، ليس في القطر الواحد، بل على مستوى الوطن العربي، حيث باتت بلدان عربية، لا ينال مواطنيها حتى النزر اليسير، للعيش الكريم. إن معالجة هذه الظاهرة، تقتضي أن تسهم البلدان العربية الغنية، في تنشيط حركة الاستثمار بالبلدان التي هي بمسيس الحاجة لذلك. وما لم يتحقق ذلك فإن الوضع العربي سيتجه إلى المزيد من التداعي والانهيار.