حمّى الاعتراف بالدولة الفلسطينية… وبيان نيويورك

حمّى الاعتراف بالدولة الفلسطينية… وبيان نيويورك
أنيس فوزي قاسم
تسود الساحة الدولية حالياً حملة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وقد وصلت ذروتها في المؤتمر الدولي الذي عقد في نيويورك ما بين 28 – 30 يوليو 2025، بزعامة كلٍ من فرنسا والمملكة العربية السعودية، وصدر عنه بيان ختامي يقع في سبع صفحات، ويتضمن اثنين وأربعين بنداً، ومع كل التقدير للدول المشاركة والاهتمام المخلص بالوصول إلى حلٍّ عادل وإنهاء حالة النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، إلا أنه – وفي ظني وتقديري – هو مؤتمر ينطوي على بذور فشله.
دون الدخول في وجاهة حل الدولتين، وجدوى الاعتراف، وهل هو غطاء للتواطؤ على جريمة الإبادة، إلاّ أننا سوف نناقش بعض ما ورد في البيان، ونأخذه بحسنّ نيّة بسبب وجود المملكة العربية السعودية في هذا المسعى، التي نربأ بها أن تكون على المستوى الأخلاقي ذاته مع الحكومة الفرنسية. إن المسعى الذي تبنّاه المؤتمر قائم على الافتراض أن إسرائيل دولة، شأنها شأن الدول الأخرى، تقبل بالوصول إلى تسويات، لكن خبرة خمسة وسبعين عاماً تثبت أن هذه الدولة عصيّة على المصالحات والتسويات، ووصلت إلى مرحلة التعامل مع خصمها بالإبادة والتجويع، باعتبار أنهم -على حد وصفها ـ «حيوانات بشرية». ويمكن الزعم أنه لا توجد سابقة واحدة بعكس ما ورد أعلاه. إن البرامج التوسعية الإسرائيلية لم تتوقف عند حدٍ، بدءاً من قرار التقسيم الصادر عام 1947 إلى ضمّ الجولان عام 1981، إلى احتلال مناطق في سوريا ولبنان، كما يجري حالياً. وأول تعليق على بيان نيويورك الصادر عن المؤتمر جاء من مندوب إسرائيل لدى هيئة الأمم المتحدة، الذي قال ما معناه: طالما أمريكا معنا، فإن هذا البيان (بیان نيويورك) لا يهمنا.
يعلن المؤتمر في البنود الثاني والسابع والتاسع منه، التزام المؤتمرين بإنهاء الحرب في غزة، وفتح المعابر وإنجاز حلٍ عادلٍ يقوم على مبدأ وجود دولتین. لا شك أن الالتزام بانهاء الحرب – ولو أنه تعبير ملطف لجريمة الإبادة في غزة أمر مرحب به، ولكن لم يذكر البيان آليات وقف الحرب الآن وفوراً، لأن الجوع بدأ يفتك بالمدنيين. ولم يذكر البيان الإطار الزمني الذي سوف تقام فيه الدولة الفلسطينية، وبسبب هذا الغياب نرى أن هناك تضاربا وعدم وضوح في تنفيذ بعض البنود الأخرى، مثال ذلك، أن سلاح القسّام سيسلم إلى «الدولة الفلسطينية» أم إلى «السلطة الفلسطينية»؟ وإذا سُلّم الى الدولة الفلسطينية، فإن البيان يشترط أن تكون دولة منزوعة السلاح كما طالب محمود عباس. ونفترض أن الدولة ستحتاج خمس سنوات لإقامتها، بینما تسليم السلاح يجب ان يتم خلال ـ مثلاً- خمسة أشهر، أي أن يقوم القسّام بتسليم سلاحه إلى السلطة، وقد طالب بذلك قبل أيام رئيس الحكومة الفلسطينية، وقبل ذلك وبعده، ما يطالب به محمود عباس، فإذا تمّ تسليم السلاح قبل قيام الدولة، فإن السلطة الفلسطينية ستقوم بتسليمه لإسرائيل، أي أن البيان ينفّذ ما يطلبه نتنياهو منذ بدء المحرقة.
أول تعليق على بيان نيويورك الصادر عن المؤتمر جاء من مندوب إسرائيل لدى هيئة الأمم المتحدة، الذي قال ما معناه: طالما أمريكا معنا، فإن هذا البيان لا يهمنا
يؤكد البيان في أكثر من بند، لاسيما البندين الحادي عشر والثالث عشر، أن الأمور ستسلّم إلى السلطة الفلسطينية، ويعتمد البيان على رسالة من محمود عباس تاريخ 9/6/2025. ليس واضحاً على أي مبدأ استند البيان في اعتماده على السلطة الفلسطينية وعلى محمود عباس، هل أدرك القائمون على صياغة البيان أن ما يسمى بـ»السلطة الفلسطينية» هي، من الناحية القانونية والتعاقدية، كما نصت على ذلك اتفاقية أوسلو، الإدارة المدنية التي أنشأها الحاكم العسكري بموجب الأمر العسكري 947 الصادر عام 1981، وأن صائب عريقات ومحمود عباس، وقبلهم ياسر عرفات اكتشفوا ذلك بعد أن دخلوا نفق أوسلو، وليس أصدق من محمود عباس الذي أعلن أنه يعيش تحت «بساطير الاحتلال»، وأنه لا يستطيع أن يصل إلى مكتبه دون موافقة ضابط الاحتلال، أي أن ما يطلبه البيان – بقصد او دون قصد – سيعاد إلى سلطة الاحتلال. فكيف يتمّ الوصول إلى حلٍ عادل إذا كانت النتيجة العودة إلى المربع الأول – أي الاحتلال. ولعلم القائمين على المؤتمر الموقر، أن الوثيقة التي أقیمت حكومة إسرائيل الحالية على أساسها، اشترطت أن يكون سموتريتش وزيراً في وزارة الدفاع مسؤولاً عن شؤون الأرض المحتلة (يھودا والسامرة)، ومن الطبيعي أن سموتريتش يدرك هذا المسار، فهو الذي يسيطر على كل ما يجري في الأراضي المحتلة. في خلاصة التحليل، فإن سموتريتش هو رب العمل للسلطة الفلسطينية ولرئيس السلطة الفلسطينية وحكومة السلطة الفلسطينية.
إن اعتماد البيان على وجود محمود عباس، ورسالة محمود عباس، وقيادة محمود عباس، هو أمر في غاية الخطورة، ذلك أن محمود عباس جاء بانتخابات عام 2005 لمدة أربع سنوات، وانتهت صلاحيته في بداية عام 2009. ولم تجدد ولايته منذ ذلك الحين. طبعاً إذا اعتبرنا أن شرعيته مستمدة من الانتخابات، فإن هذه الشرعية انتهت صلاحيتها، وإذا كانت شرعيته مستمدة من الحكم العسكري، فلماذا نقحم محمود عباس في الأمر، وعلى المؤتمرين مخاطبة رب العمل مباشرة؟ من المؤكد أن محمود عباس، وعد – كما ورد في البند الثاني والعشرين بإجراء انتخابات في جمیع الأراضي المحتلة خلال سنة، تشمل ـ إذا جرت – فقط فلسطينيي الأراضي المحتلة، ما يعني استثناء نصف الشعب المقيم خارج الأراضي المحتلة، كما أن أهالي غزة سيكونون خارج الانتخابات، بحكم الوضع القائم. وأورد النص أن تتم الانتخابات على نحو ديمقراطي وتنافسي، ولكننا نذكر أن عباس ألغى الانتخابات عام 2021 حين أدرك أن فتح لن تحرز الأغلبية، وأنه هو لن يصل إلى نسبة النجاح، فقام بإلغاء الانتخابات، وعلى فرض أن صدقنا القول بديمقراطية الانتخابات ونزاهتها، فهل هذا يعني الالتزام بالنتائج، في ما لو تمخضت الانتخابات عن فوز حماس؟ هل يمكن أن تتكرر تجربة انتخابات عام 2006، حین فشلت فتح في الحصول على الأغلبية، حيث تم التحالف بين أجهزة الأمن الأمريكية والإسرائيلية، وأمن السلطة الفلسطينية على مقاومة حماس بالسلاح. ولم يتصد إعلان نيويورك إلى شروط الانتخابات. هل هي «للمقيم» فقط في الأراضي المحتلة؟ وإن كانت كذلك، فكيف يمكن وصفها بالديمقراطية وهي تستثني نصف الشعب الفلسطيني. وإن كان على المرشح أن يعلن مسبقاً قبوله بكل التزامات منظمة التحرير الدولية بمهامها بما فيها اتفاق أوسلو، أليس في ذلك «شرط إذعان»، مما يقدح في نزاهة الانتخابات وديمقراطيتها.
أغفل البيان، وبحسن نيّه لا يطالها الشك، أين ستقام الدولة الفلسطينية، فإن كان القصد في الأراضي التي احتلت في يونيو 1967، فإن العالم على بيّنة تامة أن المستوطنات الإسرائيلية قد قطّعت أوصال هذه المناطق، ولم يعد هناك تواصل جغرافي يمكن أن تقام عليه دولة. وهناك العشرات من القرارات الأممية والتقارير الدولية، التي تؤكد عدم مشروعية هذه المستوطنات، ويجب تفكيكها، كما يجب ترحيل المستوطنين الذين يناشد البيان بوقف العنف الذي يمارسونه. ولكن هذه المناشدة لجماعة تستخدم العقيدة الدينية للابتزاز والاستعمار والتهجير، وبالتالي فإن المناشدة عديمة الجدوى سلفاً.
وفي كلمة أخيره للمؤتمرين، أقول لقد جرب المجتمع الدولي العشرات من المبادرات السياسية من مشروع الكونت برنادوت إلى مؤتمركم الكريم، وجربت إسرائيل أدوات الحرب والعدوان والاغتيالات والحصار والتهجير والتجويع والإرهاب بأشكاله وأدواته كافة، وجميعها لم تصل إلى نتيجة. لذلك، ربما حان الوقت لكي نجرّب أداة لم تستخدم أبداً، واستبعدت بقصد، وهي أداة القانون. لدينا الآن الرأي الاستشاري لعام 2004، والرأي الاستشاري لعام 2024 ، وصدر هذان الرأيان عن محكمة العدل الدولية، ومن أولى هذه النتائج أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعي ويجب أن ترحل إسرائيل بمستوطنيها ومستوطناتها.
أتمنى على المؤتمرين الكرام، أخذ ما ورد في النتائج التي توصل إليها القضاة وتحويلها إلى خطة عمل، تستند إلى أرقى ما توصل إليه القانون الدولي من نتائج ومبادئ، وهي تتمتع بأصدق معايير الحيادية والمصداقية. وفي حالة معارضة إسرائيل، وضعت المحكمة قائمة بما يجب على الدول الأخرى أن تقوم به لعزل إسرائيل ومقاطعتها.
محام وكاتب فلسطيني