مقالات

إسرائيل نحو مجتمع الثكنة

إسرائيل نحو مجتمع الثكنة

مرزوق الحلبي

العمليّة الحاليّة من التحوّل إلى ثكنة تُذكّر بما مرّ مرّة على المجتمع الإسرائيليّ ما بعد عدوان حزيران 1967، حيث عاش المجتمع الإسرائيليّ نشوة انتصار ماحق على دول الطوق في أيّام…

حتّى نفهم حرب إسرائيل على إيران ونفك شيفرات المجتمع الإسرائيليّ، يترتّب علينا استبدال عدسة القراءة أو برادايم التفكير. سأجرّب مُدركًا أن الخروج من أسر الخطاب المتداول وآليات الفهم المألوفة لا يتمّ لنا بيسر. سأقترح مثلًا، أن نرى إلى إسرائيل كمجتمع ثكنة (قلعة أو حصن) وليس كمجتمع دولة مدنيّة، وسأقترح، أيضًا، أن نرى حربها ليس ضمن حروبها ضد الإقليم العربيّ والفلسطينيين، بل ضمن الحروب الدائرة والصراع الكونيّ المفتوح على الموارد.

إسرائيل الثكنة ومجتمع الثكنة هي محصّلة طبيعيّة لكيان يرفض منذ إقامته التطبيع مع محيطه أو الدخول إلى التطبيع من باب التسوية مع الشعب الفلسطينيّ، الذي أفقده المشروع الصهيوني وطنه، نسيجه، ومدينته، وحوّل معظمه إلى لاجئين في أرضهم وخارجها. صحيح، إن المؤسسين للدولة سعوا إلى تطبيع علاقاتها بالعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، واضطرّوا إلى اعتماد خطاب “معتدل” واجتهدوا لإنتاج صورة معقولة للدولة الجديدة، علمًا بأن الممارسة ظلّت عسكريّة قُصد بها إدامة النكبة من خلال التخفيف من مفاعيلها. من هنا مثلًا، يُمكن أن نفهم لماذا اجتهدت النُخب الإسرائيليّة في حينه لإشراك الفلسطينيين الباقين في وطنهم في الانتخابات التشريعية. وظلّت على هذا الموقف حتى أواخر الثمانينيات. لقد كانت بحاجة، للظهور بمظهر الدولة المعقولة نحو الخارج، وإلى شرعيّة من ضحاياها، نحو الداخل وفي العلاقة معهم. وقد ظلّ الأمر قائمًا حتى اغتيال رئيس الحكومة يتسحاق رابين في العام 1995، وهو حدث مفصليّ ومُصمِّم. فقد كان الاغتيال في دلالاته تنازلًا عن ديمقراطيّة ليبراليّة إثنيّة لصالح الدولة اليهودية الحصريّة. كان فيه تحذير لكلّ قائد سياسيّ إسرائيليّ لئلّا تسوّل له نفسه أن يخطو أي خطوة خارج الثكنة باتجاه المقيمين خارجها وداخلها ـ الفلسطينيين. نزع كلّ شرعية سياسيّة لأيّ تسوية يُشارك فيها الفلسطينيّون مواطنو إسرائيل، مرحلة أخرى من إفراغ مواطنة الفلسطينيّين في إسرائيل من أي معنى سياسيّ فاعل ومؤثّر. وأخيرًا، كان هذا الحدث ـ الاغتيال ـ صياغة جديدة للـ”نحن” الذين تعبّر الدولة عن إرادتهم، ولطبيعة الثكنة ومشروعها الذي يتمّ منذ تنفيذه خطوة خطوة بروح الكتلة اليمينيّة المُهيمنة. من هنا مثلًا، يُمكن أن نفهم لماذا هناك غالبيّة إسرائيليّة واضحة غير معنيّة بمشاركة مواطنيها الفلسطينيّين، لا في الانتخابات ولا في سواها من الأفعال السياسيّة. وإذا شاركوا فبموجب قيود وشروط تجعلهم تابعين بالمطلق للثكنة، محاصرين في خانة محدّدة لهم ويؤدّون وظائف خدماتية بعينها. أو بكلمات أخرى، فالثكنة مستعدّة لقبولهم طبقة من التكنوقراط لا صوت سياسيًّا لها ولا وزن.

إن ما رأيناه في الثكنة بعد السابع من أكتوبر وخلال الحرب على غزة، والآن بعد الحرب على إيران، هو استمرار سير الثكنة إلى ذروتها كقلعة حصينة. فقد رأينا في الحيّز العام مستويات عالية من العسكرانيّة والظهور المسلّح كما يليق بثكنة تعيش على حرابها، دائمة الاستنفار كجزء من واقعها ـ دولة تفرض سيادتها على وطن شعب آخر وعليه ـ وكجزء من مستقبلها الذي اختارت أن تذهب إليه بقدميها.

لمجتمع الثكنة جملة من السمات، ومنها: أن يكون المجتمع مجنّدًا دائمًا كجزء من مجهود حربي على حساب حياة مدنيّة. أن تكون نسبة كبيرة من الناس والقوى البشريّة منخرطة في نشاط أمني ضمن مؤسّسات وقطاعات رسميّة كبيرة جدًّا، وأن تكون الخدمة العسكريّة عمليّة أساسيّة في الجَتمعة. أن تدأب النُخب على صناعة الخوف وتعميمه كواحدة من أساليب التعبئة وشدّ الناس إلى المركز. أن تنضوي كلّ حقول المجتمع تحت راية الثكنة وحروبها مع الخارج ومع “الأعداء” و”المختلفين” و”الآخرين”. من هنا مثلًا، اعتماد الجامعات مشاريع وبرامج ومساقات خاصّة بالقوى الأمنيّة، أو ذهاب الإعلام أمام الجيش في حروب ضد كلّ شيء، تمهيدًا أو تغطية، وتفوّقه على نفسه في إنتاج خطاب الكراهية والعداء والاستعداء.

في الثكنة الإسرائيليّة تتقلّص الفوارق الفكريّة والعقيديّة، ويتقلّص هامش الاختلاف بسرعة. ففي ظلّ الكتلة اليمينيّة المهيمنة، تصير اللغة في قبضة السلطة، وكذلك المفردات والدلالات ومُجمل الخطاب. خطاب الثكنة محدود في مفرداته ولغته ودلالاته إلى لغة الحرب والعداء والإلغاء والتشهير والتخوين. خطاب يمقت الحريّة الأكاديميّة ويضيق بالعلوم الإنسانيّة بوجه خاص، ويُعادي المناهج النقديّة. من هنا مجموعات التجسّس المنتشرة في الجامعات الإسرائيليّة تراقب وتلاحق أعضاء السلك الأكاديميّ وتتعقّب نشاطاتهم. ومن هنا، محاولات قمع نشاط المجتمع المدنيّ، لا سيّما المرتبط بحقوق الإنسان ومواثيق الحروب والمدنيّين في مناطق الحروب. في الثكنة تسمع المتحدّثين من الإذاعات ومحطّات التلفاز كأنهم يقرأون من الصفحة ذاتها، الكلام ذاته الذي كتبه شخص بذاته. في الثكنة تضيق الخيارات أمام الناس. فإمّا أنك صديق، وإمّا عدوّ لدود. تتّسع رقعة الصمت، فلا شيء يعلو فوق صوت طبول الحرب، ولا شيء أجمل من مشهد الموت تُذيقه الثكنة للأعداء.

تعتمد الثكنة سياسات إخضاع العدوّ الخارجيّ، توازيها سياسة منهجيّة لفرض الانصياع التام والامتثال لإرادتها. هذه هي العقليّة التي تعمل من خلالها مؤسّسات الدولة، لا سيّما أجهزتها الأمنيّة. هذه هي عقليّة الثكنة الإسرائيليّة الآن، تُفرض على الأفراد والجماعات والمؤسّسات كافّة. وقد رأينا كيف أن مؤسّسات خدماتيّة في طابعها لجأت بنفسها إلى إجراءات عقابيّة ضد غير “الممتثلين” أو “الآخرين” دون أن يطلب ذلك أحد. لكن هذه العقليّة التي تحكم مجتمع الثكنة الإسرائيليّة الآن تنسخ نفسها أوتوماتيكيًّا بقوّة الدفع ومشروع النُخبة اليمينيّة المهيمنة. وهكذا رأينا أن العنصريّة، التي كانت من صلاحيّة المؤسّسة وأذرعها، تمّ توزيعها على العامة، كما وزّعت وزارة الأمن الداخليّ السلاح على المواطنين. وكنا رأينا في أحداث أيّار 2021 عناصر ميليشيات مسلّحة بزيّ موحّد غير معلنة، تنشط في المدن المُشتركة وتستعرض قوّتها بما يُذكّر بالنُظم السياسيّة الأمنيّة الشموليّة التي تُقيم في العادة وحدات ضاربة للقمع والمساندة.

إنّ العمليّة الحاليّة من التحوّل إلى ثكنة تُذكّر بما مرّ مرّة على المجتمع الإسرائيليّ ما بعد عدوان حزيران 1967، حيث عاش المجتمع الإسرائيليّ نشوة انتصار ماحق على دول الطوق في أيّام. بيد أنني على اعتقاد بأن أجواء اليوم مغايرة في عُمق الشعور بالتفوّق الاستراتيجيّ الماحق على الإقليم العربي، والآن على إيران، أيضًا. لقد بدأ هذا الشعور منذ انهارت المراكز العربيّة في الجوار بفعل الثورة المضادّة على ثورة الربيع العربي. في هذه السنوات بالذات، تطوّر الشعور في المجتمع الإسرائيليّ أنّه انتصر على دول الجوار في صراع المئة سنة الأخيرة، وليس في جولة أو حرب فقط. لم يبقَ في الإقليم تهديد وجوديّ واحد، وإن بقيت تهديدات استراتيجيّة كحزب الله وحركة حماس، لكنها يقينًا ليست وجوديّة في الموازين الاستراتيجيّة. وأنا على اعتقاد أن قانون القوميّة وُلِد من هذا الشعور، وليس من أكثريّة برلمانيّة عابرة. ومن هنا جاءت فكرة إدارة الصراع دون حلّه. ومن هنا جاء إلغاء الخطّ الأخضر وضمّ مناطق “سي”، ومشروع فرض السيادة على الضفّة، والسعي إلى تصفية مسألة اللاجئين عبر حرب على الأونروا، وحرب موازية على المخيّمات في الضفّة الغربيّة، وهي حرب مكمّلة للحرب ضد غزة ومخيّماتها. ومناطق التواصل الجغرافي هي السياسة نفسها التي تُطلق أيدي المستوطنين للاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينيّة، وتقطيع أوصال دولة فلسطينيّة احتماليّة عبر منع حصول أيّ تواصل جغرافيّ، كما في مسافر يطّا.

لقد رأينا أنّ التحوّل إلى ثكنة تغذّى، أيضًا، من موقع إسرائيل في الصراع الكوني على الموارد وخطوط الملاحة والنفط والغاز. فإسرائيل، التي انضمّت منذ عقدين إلى نادي الدول المصدّرة للغاز، منخرطة في لعبة الأمم من خلال شركائها الاقتصاديين وحلفائها السياسيين، بمن فيهم الحلفاء العرب. فهي منخرطة في حماية خطوط الملاحة في البحر الأحمر، وفي نشاط عسكريّ واضح ضد الحوثيّين في اليمن، وتُقيم المناورات مع شركاء في المنطقة، لا سيما اليونان وقبرص. بمعنى أنها متواجدة عسكريًا في مواقع في المنطقة، وتشتبك هنا وهناك مع شركائها، مع قوى تناهض سياساتها وسياسات شركائها. عرفت إسرائيل كيف تموضع نفسها وتستثمر الحروب الكونيّة المفتوحة، الفعلية أو السياسية التجارية، في تحسين موقعها مقابل الفلسطينيين، وللتغطية على مشاريعها ضدّهم وضدّ قضيّتهم. ليس صدفة أن تحظى بتغطية دبلوماسيّة من الغرب الأوروبيّ والأميركيّ. فهي تُقدّم لهذين “الغربيْن” خدمات أمنيّة واسعة في المنطقة عبر عسكرها وأجهزة مخابراتها. كلّ هذا يزيد الثكنة شعورًا بأمرين: بأنها مقتضيات طبيعة المرحلة أن تكون ضمن محور أو تحالف مُعلن وغير مُعلن ضد محور أو محاور أو قوى أخرى، وبأنّها حالة توجب الحفاظ على مستوى عالٍ من التعبئة والتجنيد. على مستوى متّصل، تأتي ردود الفعل العالميّة الرافضة والمنتقدة لحرب الإبادة في غزّة، لتزيد من انغلاق الثكنة ومن شعورها المعبّر عنه بأن كلّ العالم “ضدّنا”، وأن اللاساميّة عادت لتبلغ ذُرى جديدة. يُضاف إلى هذا وذاك مظاهر مقاطعة لإسرائيل أو لجهات إسرائيليّة بدأت تتّسع في مناطق من العالم.

حالة الثكنة، كما أسلفنا، لا تترك متّسعًا لتمايزات داخل مجتمعها. وعليه، أقترح هجران النّسق الذي يُقسّم المجتمع الإسرائيليّ بين “يسار” و”يمين”، أو بين ديمقراطيّة وبين يهوديّة، نهائيًّا، لأنّنا نشهد، منذ تصفية عمليّة التفاوض، اصطفافًا في اليمين حول جدول أعمال تفرضه الكتلة اليمينيّة المُهيمنة. ومن الطبيعيّ، في وضعيّة كهذه، أن الثكنة ستحاول الخروج من أسوارها بالحروب، مُدّعية أن كلّ الذين حولها أعداء. بل سترفض الثكنة كلّ محاولة من المحيط إلى حلّ التوتّر معها. هكذا تمّ رفض المبادرة العربيّة، التي اعتُبرت أكثر المبادرات كرمًا من المحيط العربيّ تجاه إسرائيل. وهكذا فعلت إسرائيل مع مبادرة رابطة الدول الإسلاميّة، بما فيها إيران! على خطّ السياسة نفسها، اعتمد المجتمع الإسرائيليّ، وسيواصل اعتماده، سياسة “اتّقاء شرّ” المختلف والآخر داخل الثكنة عن طريق محاصرته وسحب مواطنته، ثمّ حقوقه، إلى آخر السيناريو. وهذا مصير الثكنة التي تُشرف على منظومة سياديّة تقوم على التفوّق العرقيّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب