مقالات
تقاسيم وطن محاصر بمسارح المأساة وكوميديا بلهاء بقلم: البخيت النعيم -الهدف السودانية –
بقلم: البخيت النعيم -الهدف السودانية -

تقاسيم وطن محاصر بمسارح المأساة وكوميديا بلهاء
بقلم: البخيت النعيم -الهدف السودانية –
توطئة
يقترب ويبتعد الوطن أمامي، يحاصرني الحزن على مدى الأيام والشهور والسنين. تجاوزت الثلاث، وما زال أفق الح.رب التي صنعها الطغاة مجهولًا. للح.روب وكلاء وملهاة صنعها البلهاء، بلا رؤية، بلا معرفة بمآلات قرار الح.رب.
الظلاميون والسلطويون يسعون لإعادة تاريخهم الزائف عبر فوهات البنادق والبوت. إنهم لا يقرأون التاريخ، ولا مقدمة ابن خلدون، التي تؤكد استحالة عودة تسلطهم الذي عاثوا فيه فسادًا لم يشهده التاريخ قديمًا وحديثًا، منذ محاكم التفتيش، وهي كانت أرحم. مارسوا ألاعيب السياسة الفاسدة وتستروا بأغطية دينية لمآرب سياسية حتى ابتلعهم طوفان ثورة ديسمبر.
أتسكع على ضفاف شاطئ النيل في مدينة أم درمان، أحاول أن أتنفس وأكتب لكي أفك قيود الزمن الجائر، وأُبعد عني هواجس مسرح وتراجيديا الح.رب، الح.رب التي هدمت وطنًا… أحاول أن أكتب عن انهيار مشاريع كبيرة، عن وطن دُمرت حضارته وثقافته الألفية، بأيادٍ ظالمة ومتسلطة، ظلوا يهتفون “يحيى البوت” منذ ثلاثة عقود، وتناسوا عمدًا دروس وملاحم ثورات أكتوبر ومارس وأبريل وديسمبر المجيدة التي حطمت حلمهم وفضحت مشروعهم الفوضوي.
ماذا يعني الوطن؟
يقول الشاعر محمود درويش؛
“الوطن هو حياتك وقضيتك معًا، هو هويتك
يا وطن، عليك مني سلام، أرض أجدادي، ففيك طاب المقام وطاب إنشادي”…
الوطن هو حب الأرض والتراب والفاكهة والشجر والكرامة، الوطن هو ساحة صراع فكري وثقافي وسياسي ومستقبلي، هو الحنين وطاقة إنسانية متجددة، الوطن وعي بالماضي والحاضر والمستقبل، الوطن قبول الآخر واحترام التنوع الثقافي، لأن الثقافة لها بعد شامل يعكس صور المجتمع وتنوعه، وترتبط بمفاهيم متشابهة ومختلفة ولها دلالات عديدة أكّدتها الموسوعات المعرفية.
يعيش الوطن اليوم أزمة ثقافية، لأننا لم نعطِ التنوع الثقافي والجغرافي مداه في ممارساتنا واهتماماتنا لكي نصنع وطنًا جاذبًا وموحدًا، لم نقرأ صحيفة الوطن الثقافية، ولم نولِ اهتمامًا بالمحتوى الثقافي والحضاري والتراثي والفني والديني والمعتقدات والعادات الحية واحترام الآخر والتنوع في مؤسساتنا المعنية، وهو رافعة أساسية للوحدة الوطنية.
علينا أن نعلي من أهمية مشاريع النهضة والتنمية المتوازنة.
الكوميديا وإعادة إنتاج الخرافة
ح.رب أبريل في السودان، أخطر تداعياتها تشويه التراث الحي ومفردات اللغة الأصيلة التي تعزز مفاهيم الفزع والتضحية والنجدة، والمضحك المبكي أن الذين يستخدمون الألفاظ المبتذلة زعماء وقادة بلهاء، برزوا على مسارح المأساة وهم لا يدركون خطورة معاني ألفاظهم المبتذلة وغير المنطقية.
قائد فتنة يقول: “سوف نح.ارب مئة عام”، وكأنه يستلهم ح رب داحس والغبراء! أو الذي يتكلم عن السماء وأبراجها! أو السفير الذي تحدث عن خرافة وأسـطورة “البعاتي” في مشهد كوميدي في فضائية على الهواء.
وتُمارس الآن تفرقة عن.صرية وجهوية في القرية الواحدة، وبين قرية وأخرى، ومدينة وأخرى، وولاية وأخرى، يسألون المواطن عن هويته، عن قبيلته، عن لونه، وينظر له الرقيب بريبة، ويسأله؛ من أنت؟ كأنه أجنبي في بلده!
يسرقون نقود جيبك، ويسلبون هاتفك من تحت ساتر الأمن، يدخلونك زنزانة أو إلى أي مكان في الجحيم، لأنك من وجه غريب… ولكن غريب على من؟ لست أدري!
دخلت الحياة مصطلحات غريبة على موروثنا الثقافي، بل و”جغم” و”فك اللجام” وغيرها كثير.
فوضى غير خلاقة قادت إلى التفاهة والضياع والانح.طاط والتردي… وطن صار بلا قانون، أو حقوق إنسان، أو حقوق أسرى ح.رب، أو مسؤولية وطنية تلجم هذا الجنون.
مرت ذكرى فض الاعتصام في يونيو، وما زالت ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة بالخرطوم، ومتحفها التاريخي، الذي عبر عن يوميات الثورة في ذاكرة الملايين من الثوار والثائرات، رغم محاولات الطغاة طمس هويته، فهو علامة مضيئة في تاريخ الثورة والوطن.
يقول الشاعر بابكر الوسيلة؛
“في ساحة الاعتصام
امتلأ الصدى بالصدى
والمدى بالمدى بالحطام
ضع م.وتك في ساحة الخلد
وقلبك خيط جرس
ولا تنسَ في الريح استنارة تلك المصابيح
اتّكاءة ذلك التّرس”.
تؤكد وقائع التاريخ أن ذاكرة الوطن وهويته لن تسقط مهما تطاولت المحن، فالشعب أقوى، والردة مستحيلة.
لماذا استُهدفت المرأة في الح.رب؟
استهدفت الح.رب النساء، وتعجبت من قادتها وأمرائها: كيف تستهدفون المرأة اغ.تيالًا وتشريدًا وتجويعًا ونزوحًا ولجوءًا؟
المرأة التي كرمتها الأديان والقوانين الإنسانية والثقافة السودانية وموروث المجتمع، وهنّ قدمن الشهيدات كمثال: ست النفور، والتاية، والفنانة شادن محمد حسين، وغيرهن.
ثورة ديسمبر المجيدة أكدت أن المرأة السودانية تجاوزت كل المحطات الصغيرة من أجل بناء وطن يتساوى فيه الجميع في دولة مدنية ديمقراطية توفر العدالة وتحرس الحقوق.
عذرًا نساء بلادي، ترنو إليكنّ العيون تأملًا، ولكنّ في عميق الفؤاد وقوع.
وقال الشاعر فضيلي جماع عن المرأة؛
“وجه حبيبتي منفى، وبسمتها انتصار،
حلمي توهج وردة جلست على فرش الندى،
وتوشحت ثوب النهار”.
كيف يكتب المؤرخون تاريخ بلادنا بعد الح.رب؟
يقول خبراء الح.رب إن جنرالات الح.رب يخفون أسرارها وخفاياها، ولا يُفصحون عن حقيقتها وجرائمها وكوارثها، ولن تجد الحقيقة إلا في ملفاتهم السرية.
هكذا قال التاريخ، في ح.رب فيتنام، والع.دوان على العراق، وعلى فلسط ين، وغيرها من بلدان العالم. وسيكتشف المؤرخون وأبناء وبنات السودان أن ح.رب 15 أبريل 2023م كانت أخطر الح.روب دمارًا على المستوى الإنساني، من إحصائيات عدد الض.حايا والج.رحى والنازحين واللاجئين والمشردين والمفقودين.
ح.رب استهدفت ركائز وثقافة وبنية الوطن التحتية، سيسجل التاريخ أن الح رب التي دارت في العاصمة، والجزيرة، ومدني، والفاشر، وسنار، ونَبَالا، والجنينة، والنهود، والأبيض، وكادوقلي، والدلنج، وبابنوسة وغيرها، كانت ح.ربًا تدميرية. كانت مسارحها الشوارع والمنازل والجامعات والمشافى.
غابت فيها الحكمة والعدالة، وكان شعارها؛ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة العبثية”.
حقًا، في الح.رب تنطفئ أضواء الحقيقة، والشارات النبيلة، وتُنسى طرق الخير، ويعم الشر شوارع المدينة والنفوس، ويخيّم الحداد، ويتوه المعزون بين المقابر وأمكنة العزاء.
هل يستجيب القدر لإرادة شعبنا؟
رغم المأساة وفصول الج.ريمة الممنهجة، ستنتصر إرادة شعبنا بوقف الح.رب، هكذا علمتنا دروس التاريخ. ويبقى تحدي بناء النفوس وإعمار الأرض مرهونًا بعزيمة الشعب، وبتمسكه بوحدته، والمحافظة على سيادته الوطنية، لينتصر في هذا الامتحان، ويعيش في أرضه.
فالوطن غني بموارده ومشاريعه الزراعية والصناعية والثقافية والعلمية، فقير في إرادته، وفي القدرة على مقاومة علل التاريخ وأمراض السلطة والحكم.