ثقافة وفنون

نادي كتاب المخابرات المركزية

نادي كتاب المخابرات المركزية

صبحي حديدي

إذا اعتقد امرؤ أنّ رواية بوريس باسترناك «دكتور جيفاغو» كانت كبرى معارك المخابرات المركزية الأمريكية ضدّ المعسكر الاشتراكي في الميادين الثقافية خلال عقود الحرب الباردة، فإنّ كتاب الصحافي البريطاني شارلي إنغلش الجديد «نادي كتاب المخابرات المركزية: المهمة السرية لكسب الحرب الباردة عن طريق الأدب المحظور» سوف يحيله إلى معارك أخرى، أحدث عهداً وأعلى إثارة. صحيح، بالطبع، أنّ فوز باسترناك بجائزة نويل للأدب سنة 1958 كان الفرصة السانحة أمام الاستخبارات الأمريكية، وذلك رغم امتناع الفائز عن قبول التكريم، ولكنّ الصحيح الموازي كان حصول ميخائيل شولوخوف على الجائزة ذاتها بعد سبع سنوات، باسم الواقعية الاشتراكية هذه المرّة.
المعركة، في كتاب إنغلش، تدور خلال مطالع ثمانينيات القرن المنصرم، وليس في الاتحاد السوفييتي بل في بولندا، والخلفيات كانت تنشيط نقابة «التضامن» الشهيرة عن طريق تهريب مطبوعات غربية تتضمن كتب الأدب والمجلات المصوّرة وأشرطة الكاسيت، وكلّ ما اعتقدت الوكالة أنّ المواطن البولندي العادي يفتقده ويتلهف على قراءته. في صدر اللائحة توفر جورج أورويل («1984» و»مزرعة الحيوان» بالطبع)، وروايات جون لوكاريه ذات الموضوعات الجاسوسية (خاصة تلك التي تخترق حصون الاستخبارات السوفييتية)، وأعداد مجلة «كوزموبوليتان» و»مدام»، وسواها.
وضمن مسعى واضح لإنصاف حراك المعارضة البولندية الذاتي، قبل تدخّل المخابرات المركزية وإشرافها على تمويل وتنفيذ المشروع، يشير إنغلش منذ المقدمة إلى ما يسميه «المكتبة الطائرة» التي أسستها الصبية تيريزا بوغوشكا؛ التي ورثت عن أبيها الناقد الفني والأكاديمي نسخة من الترجمة البولندية لـ»1984»، فبادرت إلى إنشاء شبكة إعارة/قراءة للرواية، سرّية ومحدودة النطاق وشديدة المخاطر بسبب رقابة الاستخبارات البولندية. خلال شهور قليلة لاحقة، ومع اتساع الإضرابات العمالية في غدانسك وانتباه أجهزة الاستخبارات الغربية إلى متغيرات بولندا، انقضّت المخابرات الأمريكية على الفكرة، وأطلقت عملية واسعة النطاق تحت قيادة رجل أعمال/ جاسوس أمريكي روماني الأصل يدعى جورج مندين.
وبين طرائف كتاب إنغلش أنّ عدداً من كبار مسؤولي الاستخبارات الأمريكية لم يتحمسوا للعملية، بل شككوا في إمكانية أن تُحدث أيّ فارق اتكاءً على قناعة متأصلة بأنّ الكتب لا تغيّر الأنظمة كما تفعل الانقلابات والدسائس والعمليات السرية والاغتيالات. ورغم الكلفة الرخيصة لشبكات تهريب الكتب والمطبوعات، من أوروبا غالباً، بالمقارنة مع مئات الملايين التي كانت تُرسل إلى المجاهدين في أفغانستان خلال الفترة ذاتها؛ فقد ظلّ مشروع «المكتبة الطائرة» موضع ارتياب، خاصة وأنّ تيارات يسارية ونقابية بولندية لم تكن بعيدة عن القيادة في شبكات العمل الميداني. أندفعُ آلاف الدولارات لقاء تهريب أشعار ماياكوفسكي وماندلشتام أو روايات ألدوس هكسلي وألبير كامو إلى بولندا؟ هكذا كان التساؤل السائد في أروقة الوكالة، ليس من دون سخرية مبطنة.
تقرير مندين الختامي، أواخر كانون الثاني (يناير) 1991، أشار إلى أنّ العملية وزّعت موادّها المختلفة في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا على امتداد 35 سنة، وفي الاتحاد السوفييتي طيلة 30 سنة؛ وبلغ العدد نحو 10 ملايين بين كتب ومجلات وأشرطة، وبمعدّل 300,000 سنوياً. وحين توفي الرجل، في سنة 2006 عن 85 سنة، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» ترثي المؤسسة التي أنشأها «المركز الأدبي العالمي» بوصفه أقرب إلى نادي كتاب مخصص، ولكنها لم تملك سوى إماطة اللثام عن حقائق تمويله من جانب المخابرات المركزية.
للتاريخ، إلى هذا، نظرة أخرى على مشروع «المكتبة الطائرة» تأخذ غالباً صفة العاقبة المضادة أو نقيض المسعى؛ ما يدفع المرء إلى التساؤل عن مصير ليش فاليسا، الزعيم التاريخي للنقابات التعاونية البولندية «سوليدارنوش»، وقائد الإضراب العمّالي الشهير الذي شهدته أحواض سفن غدانسك، صيف 1981. كيف انتهى الرجل الذي ألقى خطاباً في اجتماع مشترك للكونغرس الأمريكي ليصبح بذلك ثالث شخص يحظى بهذا الشرف، بعد المركيز دولافاييت والسير ونستون تشرشل؛ وحامل جائزة نوبل للسلام، سنة 1983؛ ثمّ، بالطبع، الرجل الذي صار سنة 1990 أوّل رئيس بولندي منتخَب ديمقراطياً في أطوار ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي؟
الصفحات الأخرى، غير الناصعة تماماً، من سيرة فاليسا تروي أنه خسر معركة الانتخابات الرئاسية في مواجهة ألكساندر كواسنييفسكي، القادم مباشرة من صفوف الحزب الشيوعي البولندي، سنة 1995، رغم أنه استجمع قواه وأطلق آخر ما تبقى في جعبته من سهام، حين زعم كشف النقاب عن «وثائق» قديمة خطيرة تدين منافسه بالخيانة العظمى، كما ألقى خطباً لاهبة طويلة حول الأمجاد النقابية في حوض غدانسك، وأخرى شاعرية قصيرة حول عقوق التاريخ وانتصار قوى الشر على قوى الخير. وحين فشلت هذه في تبديل الوقائع الباردة، راقب فاليسا تسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة، وسار في موكب حزين إلى طائرة جاثمة في مطار كئيب، وألقى نظرة وداع أخيرة على مودّعيه القلائل الذين حرصوا على عدم الظهور بمظهر المشيّعين.
الأمر الذي إذْ يُلحق أكثر من وصمة خزي بالمشروع كما انقضت عليه المخابرات الأمريكية، فإنه سوف يظلّ ينصف المواطنة تيريزا بوغوشكا وزملاءها، الذين عملوا من أجل بولندا وحقّ مواطنيها في حرّية الرأي والتعبير و… القراءة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب