
قصائد جاك بريفير… قيثارات التأمل في واحة الهروب

نسرين بلوط
ربما يكونُ الشعرُ انشودة شجية تخترقُ الإحساسَ المفعمَ بالتناقض، وتصنعُ فرقاً اجتماعياً وثورياً وسوسيولوجياً محكم البنيان، وتطرقُ بلا تحاملٍ أبوابَ الإنسانية الحافلة بالخلل السيكولوجي، ليرتفعَ في تراص وتلاحمٍ فوق روابي الصراعات البشرية، التي لم تعزف يوماً عن التماهي بأوراق انتصاراتها وخساراتها الدائمة.
وقد بلور الشاعر جاك بريفير فكرة التنكر لزمنه الحالي، واحترف التجاوزَ المكاني، ووهبَ روحه للمستقبل، وكأنه يعب من صدر الحقيقة التي تعرجُ على الماورائيات والمواربة الذاتية والنقدية للنفس والغير، فحاولَ أن يفرضَ الغزل كوسيلةٍ للترفيه العاطفي، الذي ينم عن عمق الإحساس القاحل بالضياع والتغرب الذي يعيشُه في داخله.
وبما أن «ابتكار» الشعر الذي يُخلقُ كل يومٍ بصيغةٍ وهيئةٍ جديدة، كان همه الأول، فلم ينصرف يوماً عن عزف أحاسيسه على قيثارات التأمل، فكان يبتهج ويندم، ويشعر ويحملُ مشاعر غيره على عاتقه، كأنه يدخلُ عوالمهم دون استئذان، ويطرحُ أسئلةً ترتكزُ على الفلسفة الوضعية في هموم المجتمع والحب والإنسانية، والوجودية في تصوراتهم المشتركة ومعاناتهم المحتملة.
في قصيدته «أوراقُ الخريف» يقول: «آهِ، كلي أملٌ أنْ تذكري الأمسَ وأياماً جميلـة/عندما كـنـا رفيـقـيـْن نغـنـي فـي الخـميـلة/ حيث كان العيشُ أحلى، لنْ تـَرَيْ أبْداً مثيـله/ حيث كانتْ شمسُنـا أكثـرَ وَهْـجاً وسُـطوعاً/ ما لشمسِ اليـومِ تبدو في السما جِـد كليلة\ هي ذي الأوراقُ، أوراقُ غصون الشجَراتِ/ فـوق جرافـة حـرثٍ جُمـِعَتْ بعد شَتاتِ/ هل تريْنَ؟ إنني لست بناسٍ/ فوق جرافة حرثٍ جُمِـعتْ بعد شتاتِ/ وكذا الآهاتُ طراً وجميعُ الذكرياتِ/ كلهـا مقهورة تحملها ريحُ الشمالِ/ في خفـايا ليلة باردةٍ نحـو الزوالِ/ وكذا النسيان يطويها إلى غير مـآلِ/ لنْ تـَريْـني ناسياً أغنيـةً غنيـتِـها لي».
نراه فيها يتحامل على جروحه ليسكبها نبيذاً في قصيدة معتقة بالألم، تشبه أوراق الخريف الذابلة، التي هجدت لسباتٍ عميق وانزوت في دائرة ضيقة تنتابها تشنجات الفراق وتبرمه المحبط من هذا الضمور الوجداني، الذي يلفحه بنزعاتٍ مضادة من التلبد الحسي والاغتراف الكلي من ظواهر الطبيعة، لتطويعها في خدمة قصيدته. فهو يفتح كوة في جدرانٍ صماء فيصبحُ الخريفُ مدينته الحزينة التي تبحثُ معه عن النسيان في جنون الريح وصفق الأحزان لقبضة الحنين.
ورغم أن البعض يشبه القصيدة بالعصيان، فقد كانت القصيدة بالنسبة لبريفير واحةً عذبة يهرب منها من روح التمرد التي كان يعيشها في روتينياته، فيتسلل من صحراء القيظ التي تقض راحته في مازوشية الحياة وحطامها وتشردها والتسكع المرّ فيها، وتقلباتها الصعبة. وكان لعلاقته الوثيقة بالعديد من الرسامين، خاصةً بالفنان التشكيلي بيكاسو، الانطباع الفني المرهف، الذي شكل نقطة الالتقاء بينهما، وقد جسدها في قصيدتين بعنوان «نزهة بيكاسو» و»مصباح بيكاسو السحري». لكن هذا الأثر في الحقيقة، ترك بصماتٍ واضحة في جميع قصائده، لأن الألوانَ السريالية والتعبيريةَ التي دمجت بين إبداع الأول وتأثر الثاني، أضفت سطوةً خيالية في تشكيلِ نواةٍ فنيةٍ متكاملة بين الاثنين، فبيكاسو الذي شهد على تعقيدات عصره، حداه التأثير والتغيير لأيديولوجيات الحياة، أن يساهم في نشأة الفن التكعيبي في رؤيةٍ حماسيةٍ غامضة، وكان يرمزُ إلى «ما وراء اللوحة» ويدللُ على المغزى بإشاراتٍ مبهمة، كذلك حجز بريفير مقعده إلى جانب الأخير في توليفة الالتقاء الوجداني لمفهوم الترميز الهندسي للأشياء والمكنونات والموجودات والمحظورات أيضاً، فاحترفَ لعبةَ التناقض التشكيلي، بين مباهج الدنيا وهواجسها، واختارَ مرادفاتٍ تنم عن الازدواجية وتتيحُ التفردَ في التحليل والتكهن والتأويل.
في قصيدة «عند بائعة الأزهار» يقولُ بريفير: «رجل يدخل عند بائعة الزهور/ ويختار أزهارا/ بائعة الزهور تغلف الأزهار/ يضع الرجل يده في جيبه/ باحثا عن النقود/ عن النقود ليدفع ثمن الأزهار/ ولكنه في الوقت نفسه/ وبلا مقدمات/ يضع يده على قلبه/ ويسقط/ وفي الوقت نفسه الذي يسقط فيه/ تتدحرج النقود».
وقد رسمَ الشاعرُ في هذا المشهد لوحةً فنيةً مستمدة من صلب الوجود في أفقٍ صوفي خافت النبرة، فبائعة الأزهار هي الحياة، التي نستعيرُ منها أفراحنا وأحزاننا، وتتطلب شحذ أقوى الأسلحة الحسية والاندفاعية إليها، والإنسانُ الذي يعطيها من نفسه وجسده وماله لينال القليل من مسراتها، يغافله الموت بغتة، ليسلبَ حلمه ويفنى في عدمية زائلة وتبقى النقودُ شاهدةً على ضعفه اللامتناهي في مجابهة عاصفة الموت.
ورغم النزعة العميقة الأثر في تكوين قصيدته، ينأى بها عن الغطرسة اللفظية، ويعطيها طابع النعومة المتمثلة في «الورد» ليضعَ الانسانَ وجهاً لوجه مع تجربة العدم، دون أن يحيلها لقصيدة ملحمية أو بطولية، فهي تردُ بسيطةً وهادئة، تكادُ تسمعُ ألحانَ الموسيقى الكلاسيكية في وقعها السكوني البديع، ولكنها تروي الآذان المتعطشة للحقيقة التي لا مناص لها.
كان بريفير شاعراً شعبوياً يجز أعشاَبَ حروفه من نمط الحياة وعراقيلها وهموم شعبها وقد عشق الحرية في الحب والسياسة والأمل، ولم يحجم عن تكرار عبارة «الحب» كمأوى أخير لمتشردي الإحساس، الذين غافلهم الزمنُ بمطرقة الأحداث المتناقضة، وتجسدت فيهم روحُ التعبير عن سحر الكون ومرّه، من خلال قصائد تبقى معلقة بين الأرض والسماء، حيث الفراغُ الوقتي الذي ينتظرُ أن يمتلئ بما يستحق.
كاتبة لبنانية