ثقافة وفنون

رواية «مغنية الحيرة»… كشف التاريخ المُهمل

رواية «مغنية الحيرة»… كشف التاريخ المُهمل

سعيد غازي الأميري

يطوف بنا الروائي حسين السكاف إلى أماكن مؤنسة في مملكة الماء المنساب، «الحيرة» عاصمة المناذرة التي ازدهرت جنوب وادي النماء بين القرنين الثالث والسابع الميلادي، حيث تلاشت هيبتها ومُسحت آثارها في تناوب التضاد بين نزوة زحف أهل الصحراء غرباً، وسطوة سكان الجبال الجرداء شرقاً.
يرسم المؤلف بروية، لا تخلو من متعة التتبع المعرفي، صورة مدينة حجبها عنا التاريخ المؤدلج. فـ»الحيرة» استوطنت ضفة الفرات وتربعت على منافذ جداولها وهي تفيض زرعاً وغناءً. يسمعنا صهيل خيولها وهي تطوي الطرقات بعرباتها المزخرفة، ويقف بنا عند أسواقها للابتياع من ثمار بقاليها.
رواية «مغنية الحيرة» محاولة جادة لرفع الغطاء عن التاريخ المهمل، التاريخ المسكوت عنه الذي لم يمنح أشهر معماري عرفه التاريخ، المهندس الرومي «سنّمار» باني ومصمم قصر «الخورنق» الشهير، سوى سطرين مكتوبين بخجل، فلا يذكر لنا التاريخ شيئاً عن حياته، فجاءت الرواية لترسم له حياة كاملة متوجة بالعشق والأسفار والذريّة… كما غفل التاريخ أيضاً عن حياة أشهر مغنية في الحيرة، هند بنت عفزر صاحبة الحانة التي كان الأمراء والسفراء من أهم رواد حانتها، والتي حظيت بالاهتمام الخاص من قبل ملك الحيرة الأشهر النعمان ابن المنذر، فلم تذكر لنا كتب التاريخ، الموسيقية سوى بضع كلمات وبيت شعري يتيم يُنسب خطأً لامرئ القيس بن حجر، وذلك محزن بحق، ومن ذلك الحزن المطعّم بالحرص، أثمرت مخيلة المؤلف في روايته «مغنية الحيرة» مشاهد وصورا ومراحل حياة كاملة لهند منذ ولادتها حتى غيابها الملائكي الذي أثار لوعة الشعراء.
«الحيرة» مدينة الرخاء والموسيقى، منصة ألحان الشعر بمخارجه: غزل وشجن، مفاخرة ووعيد. يتحفنا الكاتب بفنون نقوشها وزخارف طيقانها وقلائد مصوغاتها، ونسمع بعد المغيب عزف أوتار البربط والدفوف المدبوغة بجلود رفيعة الصنعة، وهي تنشد ألحاناً مغناة لشاعر البلاط عدي بن زيد العبادي، والنابغة الذبياني وغيره من كبار الشعراء.
نجح المؤلف في اختيار الأسماء العذبة، التي أضفت طراوة محببة للنص، إذ لا تكاد صفحة أو فصل يمر دون أن يرينا من خزين جهده أسماء ممتعة، أو أنواعاً من منقوع الشراب والأطعمة. نطفئ ظمأنا برحيق ثمارها وشذى عطرها، التي ظلت متداولة إلى اليوم بنسب وأسماء ليست بعيدة، رغم اختلاف الألسن، ما يعيد إحياء ثقافة مملكة عربية كانت مركزاً للتجارة والفن قبل الإسلام.
اختار السكاف الحانة بأثاثها وخواص نظم عملها – مسرحا وغناء، كبير السقاة وبنات حسان يرعين الزبائن – منطلقاً للتعريف بحياة أهل الحيرة لردح من الزمن، ربما توقف فيه لما يقارب قرنها الأخير. وبإشارة فنية ذكية، يلمح إلى جفاف عذوبة الألحان وبوادر لريح تذري مقبلة حين يصور النقّاش الماهر والمغني الفاخر «مرامر» وهو يحاول تدريب وليده البكر والوحيد، سليل النكبات المتتالية، وكيف ينفر «الصبي» حد الجزع من الاستمتاع أو السماع لنقر الدف وضربة عود متمرسة. فالجدب مقبل، في إشارة إلى ذلك السجال التاريخي بين شعوب المنطقة، الذي أدى إلى أفول نجم تلك المملكة الجميلة.
كما يبرز لنا الكاتب بحيادية سوءة ثقافة التبجيل المتأصلة بالموروث المتراكم، بمسبباته ومخارجه، لتأليه الحاكم وتجبره، وتبجيله لذاته حتى إن لاحت منه مسحة عدالة. يفصح لنا عن نزوة الحكم المتوحشة في كوامن الملك النعمان بن امرؤ القيس عبر قصة نكبة «سنمّار»، مهندس قصر الخورنق، الذي ألقي به من أعلى القصر بعد إتمام بنائه.

كاتب عراقي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب