شرق أوسط على صفيح بارد!

شرق أوسط على صفيح بارد!
أيمن يوسف أبولبن
لقد وضعت الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية أوزارها مؤقتًا، كما يُقال في لغة الإعلام، بعد أيامٍ من الضربات المتبادلة، والبيانات المنمقة، والتهديدات المُترعة بالثقة الزائدة. ثم جاء التدخل الأمريكي، كما يأتي الشرطي في مشهدٍ مسرحي، لا ليمنع الجريمة، بل ليضبط إيقاعها ضمن حدود الممكن والمسموح.
كل طرف ادّعى النصر: إيران تحدثت عن صمودها وثبات مواقفها، وإسرائيل عن «الرسالة» التي أرسلتها، وأمريكا عن دورها في الحسم والسيطرة. غير أن النصر الحقيقي لا يُقاس بالخُطب، بل بما تغيّر فعليًا في موازين القوة، وما بقي منها عالقًا في جدار الزمن. ولكن… من انتصر حقًا؟
دعوني أقولها كما هي: الجميع قد خسر!
خسرت إيران علماءها، قادتها، وبعضًا من منشآتها، وخسرت -وهذا هو الأهم- سمعتها الأمنية وقدرتها على حماية مشروعها النووي.
إيران، التي لطالما تحدثت عن منظومتها الصاروخية والدفاعية كجدار لا يُخترق، وجدت نفسها عارية أمام تكنولوجيا الغرب، والاختراق الأمني الكبير الذي ضرب عمق دولتها الأمنية والعسكرية، تشاهد السماء تمطر نارًا، دون أن تقدر على ردع حقيقي. ولكن، ورغم الانكشاف، فقد ربح النظام تماسُكًا داخليًا غير مسبوق. لحظة الحرب ولّدت لدى الشعب شعورًا مشتركًا بالعداء الخارجي، فذاب الخلاف الداخلي لصالح الاصطفاف تحت راية «الوطن». وتلك مكاسب لا يُستهان بها في عالم السياسة.
أما إسرائيل، تلك الدولة المصطنعة التي طالما قدّمت نفسها كقوة لا تُقهَر، فقد فشلت مجددًا في الحفاظ على أسطورة الردع. ضربة البدء كانت ناجحة تكتيكيًا، لكنها فشلت استراتيجيًا. لم تُنهِ المشروع الإيراني، ولم تُسقط النظام، ولم تحمِ مواطنيها من صواريخ الخصم، ولا من رعب الداخل. هشاشة الكيان انكشفت مرة أخرى تماماً كما حصل في 7 أكتوبر.
ومن يشكك، فليتأمل المشهد: دولة تخوض حربًا بدعم غربي كامل، وبغطاء أمريكي مباشر، وتخرج منها بذات التهديدات التي دخلت بها، لا أكثر ولا أقل!
وللأسف، لا يزال الموقف العربي هشًّا. لا نريد سلاحًا نوويًا في منطقتنا، لا إيرانيًا ولا إسرائيليًا، لكننا عاجزون حتى عن قول ذلك بلسان واحد.
نُدين الضربات، لكننا لا نعارض السياسات. نرفض الهيمنة، لكننا نركن إلى المعسكر المهيمن.
اللافت أن مشروع الدولة الصهيونية قائم على ضمان التفوق العسكري الكاسح على كل دول المنطقة، واللافت أكثر أن الغرب وأمريكا يدعمون هذا المشروع بكل قوة وفي العلن، بحيث أن النظام العالمي برمته سيقف في وجه أي دولة أو أي كيان يهدد وجود إسرائيل، وهذا يعني إجهاض أي مشروع مناهض قبل أن تتسنى له الفرصة على تهديد أمن إسرائيل، ناهيك عن تحقيق التوازن العسكري والاستراتيجي معه!
نحن على أبواب حرب باردة شرق أوسطية، لا يُستخدم فيها فقط السلاح، بل أيضًا الذكاء الاصطناعي، والهجمات السيبرانية، والتجسس الرقمي
وهذا بحد ذاته يطرح عدة أسئلة شائكة عن أخلاقيّة الوقفة الغربية الأنكلو ـ سكسونية ضد المشروع النووي الإيراني -الموجود على الورق فقط- ووقوف المعسكر الغربي بأكمله مع إسرائيل في ضربته الاستباقية، رغم أن ذلك يخالف كل الأعراف والقوانين الدولية، وكل اتفاقيات الأمم المتحدة، بالنظر إلى خطورة ذلك على كل دول المنطقة وثقافاتها وحضاراتها الممتدة إلى عمق التاريخ، مع انعدام الرؤية لمشروع موحّد على مستوى المنطقة، يتمكن من حماية مصالحها في ظل الموقف الدولي المنحاز وغير العابئ بأمن واستقرار دول المنطقة!
أما فلسطين، تلك القضية التي تُجرَح في كل معركة، فقد كانت الخاسر الأشدّ.
انشغال إيران بالحرب، واستهلاك قدراتها، وابتعاد التركيز العالمي، كل ذلك أفقد المقاومة دعمًا ماديًا وسياسيًا ثمينًا. بقيت فلسطين في الوجدان الشعبي، لكنها غابت عن أولويات الفعل الاستراتيجي. أرادت واشنطن توجيه ضربة، لا لإيران فقط، بل أيضًا لخصومها في الشرق: روسيا، الصين، كوريا الشمالية. الرسالة واضحة: نحن ما زلنا نملك «الزر»، وإن كنّا لا نضغطه دومًا.
لكن ما لم تدركه أمريكا ـ أو تراه وتغض الطرف ـ أن هذا النوع من الرسائل يفقد أثره كلما تكرر. وها هو يتكرر دون نتائج تُذكر، ما يُفضي إلى تآكل الردع بدلامن ترسيخه.
من منظور أمريكي، كانت الحرب متعمدة لخلق حالة من الردع لإيران دون انزلاق إلى حرب شاملة، وهذا ما يمكن استشفافه من تعليق الدعم لإسرائيل في الأمتار الأخيرة من الحرب ومن مسارعة ترامب إلى توجيه ضربة مركزة وخاطفة لإيران، مع الدعوة إلى وقف إطلاق النار، قبل أن تنفلت منه زمام الأمور. العالم اليوم محكوم بنظام مزدوج الأخلاق:
حقوق الإنسان والمواثيق الدولية تُصاغ بلغة الغرب وتُطبّق على «العالم الغربي» دون غيره، أما العقوبات الدولية وجرائم الحرب والتطهير العرقي، فإنها تستخدم سيفًا على رقاب الضعفاء، وتُوارى الثرى في حضرة الأقوياء. كيف نفسر هذا الصمت الدولي على هجوم استباقي يخالف القانون الدولي، وعلى كل اختراقات الدولة الصهيونية في المنطقة؟
الجواب بسيط: إسرائيل فوق القانون، لأن القانون صُمّم لحماية الغرب وحلفائه حول العالم!
هذا هو ملخص النظام الدولي أو العالم الجديد الذي يحكم العالم اليوم!
ما جرى ليس نهاية لصراع، بل تأجيل للحسم. باختصار أخطأت إسرائيل في حساباتها وظنت أنها قادرة على خوض معركة سريعة خاطفة، تنهي فيها الخطر الإيراني، أما إيران فقد تراجعت قدراتها النووية، وخسرت الكثير من العقول والقادة، وعادت للقبول بالاحتكام إلى المفاوضات بنفس شروط الاتفاق النووي التي رفضتها قبل الحرب.
نحن على أبواب حرب باردة شرق أوسطية، لا يُستخدم فيها فقط السلاح، بل أيضًا الذكاء الاصطناعي، والهجمات السيبرانية، والتجسس الرقمي. إنها حرب معلومات، من يملكها يملك القرار.
ستكون المنطقة برمتها ساحة لهذه الحرب ولحالة الاستقطاب الموازية لها، وستستمر المناوشات البعيدة أو القريبة في بعض الأحيان، إلى أن تنهار إحدى القوتين في المنطقة كما حدث مع الاتحاد السوفياتي، أو أن تتصاعد الأمور إلى مواجهة مفتوحة أخرى لن يكون من السهل احتواؤها. لم تنتهِ الحرب، بل كُتبت لها استراحة.
والمأساة أن الكل خرج منها مدعيًا النصر، وهو في الحقيقة يحمل في صدره خيبةً من نوعٍ جديد، خيبة لا تُرى في الميدان، بل تُقرأ فيما بين السطور، ولا تُكشف في التصريحات، بل تُفهم من طريقة انسحاب كل طرف من المعركة. في الحروب، لا يكفي أن تخرج واقفًا لتقول إنك لم تُهزم. المنتصر الحقيقي هو من يخرج من المعركة وقد تغيّر ميزان القوى لصالحه.
كاتب ومُدوّن من الأردن