مقالات

مشروع الشرق الإسرائيليّ: النرجسيّة ولعنة الأسطورة

مشروع الشرق الإسرائيليّ: النرجسيّة ولعنة الأسطورة

أحمد زكارنة

لا يمكن الادعاء أنّ مشروع الشرق “الإسرائيليّ” سقط كليًّا، لكنّه فقد مبرّراته الأخلاقيّة، وتصدّع عمقه السياسيّ، وانكشفت هشاشته البنيويّة، ولم يتبقّ منه إلا شبكات مصالح اقتصاديّة وأمنيّة، بلا سند رمزيّ…

تَجسّد الصّراع في الشّرق منذ نشوء الدّولة الوطنيّة، في حالة التّدافع بين الكيانات الأصيلة، وإن بدت فاقدة للاكتمال والسّيادة، وبين الطارئ الوظيفيّ، وإن دُعم بكلّ ما يُعين الذاتيّ، ويخلق الموضوعيّ؛ ما عَرضَ جغرافيّا وتاريخ الشّرق للكثير من التّحولات المتباينة حيناً، والمتقاطعة أحياناً، غير أنّ المشترك الوحيد، كان ولا زال يكمن في الإصرار الفاضح على فرض المعادلة الإسرائيليّة “الطّارئة” للتّسيّد على الأصيل، ولو على حساب بعضه المتمثّل في فلسطين القضيّة والوطن، بوصفها فائضاً أيديولوجيّا عطل وما يزال مسيرة الاستقرار والتقدّم والازدهار.

هذا المشروع الهجين المسمّى بـ”الشّرق الأوسط الجديد” ما هو إلا محاولة إضافية من قوى الاستعمار، لإعادة تدوير البيئة الحاضنة على نحو يخلع عنها مركزيّتها التاريخيّة، لصالح تحديثات جرت وما تزال تجري لرسم خارطة جغرافيّة لا تعرف إلّا لغة المصالح، ولا تصلح إلّا لتأمين ممرّات النّفط، ولا تخشى إلا سرديّات قوّة الرّدع؛ وهي التّحديثات التي تنهض على فكرة التفكيك المنظّم لذاكرة الصّراع. ما يعني أنّ المشروع نشأ على أفكار قد تبدو متجانسة، ولكنّها في حقيقتها لا تحمل رؤى سياسيّة استراتيجيّة، وإنما متطلّبات اقتصاديّة بإبعاد أمنيّة، تؤكّد عبثيّة طرح يصعب تصديره كمشروع قابل للاستمرار والحياة من دون عوائق.

فعلى الرغم ممّا تثيره حالة العجز العربيّ والدوليّ الرسميّ، لوقف حرب الإبادة، من أسئلة ترتبط بما يجري على الأرض من تغيير للوقائع الجغرافيّة والديمغرافيّة؛ إلّا أنّ الدم الفلسطينيّ النازف منذ تشرين أول 2023 لم يشكّل مأساة إنسانيّة وحسب، بل لحظة عريّ وانكشاف عملت تلقائيًّا على إعادة صياغة صورة الضحية وسرديّتها.

فلأوّل مرّة منذ عقود، تراجعت سرديّة الإسرائيليّ كضحيّة دائمة، لصالح الرواية الفلسطينيّة التي أصبحت مفهومة، ومرئيّة، ومحسوسة، ما دفعها لتصبح السؤال الأخلاقيّ الأكثر إزعاجاً للمنظومة الدوليّة برمّتها، ليس من الجانب الفلسطينيّ أو العربيّ وحسب، ولكن من الشارع والمجتمع الغربيّ بالأساس.

صحيح أنّ شعارات المقاومة، لم توقف إبادة الإنسان والمكان في القطاع، كما لم تردع تغوّل المستوطنين والمستوطنات، وقتل الجيش الإسرائيليّ للذاكرة الجماعيّة في مخيمات الضفة. ولكنّ رائحة الدّم والبارود راحت تزكم الأنوف والضمائر الحيّة حول العالم.

الدولة التي فقدت روايتها

بدا واضحاً أنّ أخطر ما نتج عن حرب الإبادة، يكمن في تآكل الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة، وهو ما يمكن ملاحظته في غياب النصر الحاسم في غزة رغم أشهر من التدمير، ما أضعف الثقة بالمؤسّسة الأمنيّة، وهزّ صورة “الجيش الذي لا يُقهر” ليتصاعد النقد داخل المجتمع حول فشل الحكومة في إعادة الأسرى، وحول العجز عن القضاء على المقاومة.

غير أنّ موجات الهجرة العكسيّة الصامتة التي بدأت بالظهور في المدن الكبرى، وخصوصًا بعد تصاعد التهديدات الإيرانيّة، تشي بتصدّع الخطاب الصهيونيّ الداخليّ، بين معسكر يرى أنّ طريق الحلّ يكمن في الحروب، وآخر بدأ يتحدّث همسًا عن حدود القوّة.

هذه التصدّعات جعلت من إسرائيل شريكًا مشكوكًا في قيادته لـ “المشروع الإقليميّ”، وأضعفت الثقة بها حتّى من داخل دوائر الحلفاء في الغرب، بالإضافة إلى المعضلة القانونيّة والأخلاقية التي تدفع بها مشاهد الإبادة الجماعيّة في غزّة، والتطهير العرقيّ في الضفّة.

مواجهة الوكيل للبديل

بعيداً عن حقيقة النوايا الإيرانيّة، التي لا نستطيع الجزم فيها، ولا يجب أن تعنينا بهذا القدر من الانشغال؛ إن جزمنا بأنّ إسرائيل هي الوكيل الحصريّ للمشاريع الغربيّة، واعتبرنا أنّ المشروع الإيرانيّ، هو مشروع فارسيّ بديل عن مشروع عربيّ غائب، فإنّ المواجهة الأخيرة بين الوكيل والبديل في يونيو 2025 لم تشكّل فقط لحظة زلزال استراتيجيّة في المنطقة، ولكنها كشفت القدرة الحقيقيّة لعوامل القوّة، وحدود الردع بين قوّتين إقليميّتين شكّلا معاً صورة هلاميّة كثيرًا ما اقلقت دول الإقليم من دون تجربة فعليّة وحيّة. فخرجت المواجهة من كونها “معركة ردع”، لتصبح “معركة كاشفة”.

تعرّضت تل أبيب لأوّل مرة لضربات مباشرة، وبدت عاجزة عن الردّ وحدها دون واشنطن، ما جعل من التدخّل الأميركي العسكريّ والدبلوماسيّ لوقف الحرب، شكلاً أكيداً من أشكال الدفاع عن إسرائيل المشروع والكيان. فقد فضحت الحرب حدود القدرة الإسرائيليّة، وقيود الغطاء الأميركيّ، لكنّها لم تُظهر بالمقابل ما ادّعته إيران طويلًا عن ‘إزالة إسرائيل’، بل كشفت حدود خطابها وحمولته العمليّة أيضًا؛ مع الإقرار الواضح والصريح، أنّ الردود الإيرانيّة ولّدت حالةً مغايرةً في الشارع الإسرائيليّ أنتجت شيئاً من الخوف غير المسبوق منذ العام 1973. فتوسّعت مؤشّرات الهجرة العكسيّة، وتحوّل شعور الكتلة السكانيّة الإسرائيليّة من “الاستقرار” إلى “التوتّر” ما غلّف صيغة رسالة للإقليم برمّته تقول: إنّ إسرائيل ليست قوّة مطلقة، ولا هي قادرة على الهيمنة بلا تكلفة، بل إنّها عاجزة عن حماية نفسها، ما يجعلها “عامل خطر إقليميّ” لا “ضامن استقرار”

المشروع بين السقوط والانكشاف

في الخلاصة، لم يسقط مشروع الشرق “الإسرائيليّ” من معركة واحدة، ولم يتبدد بصورة دراماتيكيّة، لكنّه تغيّر من الداخل، على نحو لم يُعلن عن نفسه، تغيّر حين لم تعد الحرب قادرة على صناعة النصر، ولا الردع كافيًا لصنع الهيبة، ولا الحلفاء قادرين على تبرير الخطايا.

لا يمكن القول إنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد قد سقط بالكامل؛ لكنّه بالتأكيد لم يعد كما خُطّط له، فما يحدث اليوم هو ارتباك بنيويّ في مركز المشروع وسرديّته، يعكسه الارتباك الإسرائيليّ الداخليّ، والاعتماد المفرط على واشنطن، وعودة القضيّة الفلسطينيّة إلى قلب المعادلة كعنصر تفجير لا يمكن تجاهله.

ما سقط بالفعل هو وهم الحسم، ووهم الهيمنة، ووهم التفوّق، وما ظهر في المقابل هو أنّ إرادة الشعوب حينما تتشكّل، فهي قادرة على قلب المعادلات، وأنّ فلسطين، رغم كلّ محاولات التهميش، ما زالت قادرة على إرباك الخرائط، لا بوصفها ضحيّة، بل باعتبارها سؤالاً معترضاً في قلب المشروع ذاته.

نعم، لا يمكن الادعاء أنّ مشروع الشرق “الإسرائيليّ” سقط كليًّا، لكنّه فقد مبرّراته الأخلاقيّة، وتصدّع عمقه السياسيّ، وانكشفت هشاشته البنيويّة، ولم يتبقّ منه إلا شبكات مصالح اقتصاديّة وأمنيّة، بلا سند رمزيّ، وبلا قاعدة شعبيّة، وبلا شرعيّة على مستوى السرديّة.

فلقد أسقطت غزّة قناع “السلام”، ونزعت المواجهة الإسرائيليّة الإيرانيّة الأخيرة، قناع “الردع والهيمنة” من كلا الطرفين، وبقيت فلسطين هي الحقيقة الوحيدة الثابتة التي لا تموت، لا لأنّ شعبها والشعوب الحرّة حول العالم متمسّكون بها وبحقّها وحسب، ولكن لأنّ العبث بخرائط الجغرافيا، لا يلغي التاريخ، ومحاولات التلاعب بالتاريخ، تفضحها الجغرافيا، ليصعب على القوّة أن تكون بديلًا يمكنه أن يعيد تعريف العدالة والحقّ، فهل سقط المشروع دون أن يُدفن، أم أنّنا أمام بقايا سرديّة تحاول أن تبدو حيّة؟ فلعلّ صيرورة التجربة البشرية تقول بوضوح كامل الدسم: من تحكمه عبثية النرجسية، تصيبه لعنة الأسطورة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب