منوعات

ماذا يكشف وثائقي «أطباء تحت النار»؟

ماذا يكشف وثائقي «أطباء تحت النار»؟

راشد عيسى

نادراً ما يكون مفهوماً لماذا تعطي السلطات رقماً، لا اسماً، للسجناء، ولماذا تعصب أعينهم أثناء التحقيق وتحت التعذيب.
في الفيلم الوثائقي «غزة: أطباء تحت النار» نجد شهادة لطبيب إسرائيلي، لم يكشف عن اسمه ووجهه، يتحدث فيها عن فظاعات معتقل سديه تيمان، حيث شهد الطبيب حالة واحدة على الأقل أجريت فيها عملية جراحية مؤلمة للغاية لمعتقل فلسطيني من دون تخدير، ولم يُعطَ أي مسكنات للألم في تلك العملية، من دون الحصول على موافقته، ولم يتم شرح الأمور له بلغته، فلم يكن يعرف ما يجري: «رأيت ذلك يحدث، ورأيته يصرخ، ولم أرَ أحدًا يوقف ذلك». وعندما يُسأل؛ لماذا لم يجرِ تخدير «المريض»، يجيب: «أعتقد أن ذلك كان عقاباً، طريقة لإلحاق الألم». وهنا يلاحظ: «عندما رأيت ذلك، أدركت حقيقة أن هؤلاء (السجناء) يطلق عليهم رقم مكوّن من خمسة أرقام. ليس لديهم اسم. إنهم معصوبو الأعين، حتى لا تنظر إليهم في أعينهم. لذا فأنت تسلبهم الكثير من الإنسانية والتعاطف الذي قد تشعر به».

طبيب إسرائيلي: لا حاجة لإخفاء شيء عن المجتمع الإسرائيلي هذه الأيام، إذ يمكنك أن تفعل ما تشاء تقريبًا عندما يتعلق الأمر بسكان غزة

وعلى ما يبدو، فإن الأعين المعصوبة، وتجهيل الاسم، ليست موجهة فقط لاحتقار المعتقل، ونزع إنسانيته، بل هي موجهة، وبالقدر ذاته، إلى السجان، الذي يُطلَب منه استنفار كل وحشيته، ذلك أن نظرة العين يمكنها أن تروّض الوحش، تُذكّره بأنه نوعٌ من الإنسان.
الطبيب الإسرائيلي، الخائن بنظر مجتمعه لو عرف بشهادته هذه، سيستنتج أخيراً أن «لا حاجة لإخفاء شيء عن المجتمع الإسرائيلي هذه الأيام، إذ يمكنك أن تفعل ما تشاء تقريبًا عندما يتعلق الأمر بسكان غزة». هذا ما بات يعرفه متابعو الصحافة العبرية التي تعكس، إلا في ما ندر («هآرتس» وكتّابها مثلاً) تمترساً هائلاً وراء الائتلاف الحاكم المتطرف.
يلاحق فيلمُ «غزة: أطباء تحت النار»، (الإخراج لكريم شاه، والإعداد والتقديم راميتا نافاي) الذي عرضته القناة البريطانية الرابعة أخيراً، وأثار جدلاً واسعاً إثر استنكاف «بي بي سي» عن عرضه بعدما كانت قد كلّفت فريقاً بإنتاجه، الاستهدافَ الإسرائيلي الممنهج لأطباء غزة.
إنه بالفعل أقرب إلى «تحقيق جنائي»، كما يصفه صنّاعه في مستهلّ الفيلم، لقد قرروا سلفاً أن يكون نوعاً من التحري لوقائع نعرفها جميعاً، ونشهدها يومياً على شاشاتنا، إنما أراد الوثائقي أن يقدم مرافعته الخاصة حول الإبادة الجماعية في القطاع، وبدل أن يبدأ من الأرقام (58.026 شهيداً و138.520 إصابة حتى اليوم، حسب آخر إحصاءات وزارة الصحة في غزة) قرر أن يثبت تعمّد استهداف الأطباء والمسعفين. كان ذلك كافياً للقول إنهم لا يريدون إمكانية إنقاذ أحد، بعد أن دمروا وحاصروا وجوعوا القطاع. لن يتركوا فرصة لنجاة أحد.
لذلك فإن الفيلم يبدأ من واقعة مجزرة المسعفين (وقعت في 23 مارس 2025 في حي تلّ السلطان بجنوب غزة)، عندما استهدف الجيش الإسرائيلي سيارات إسعاف كانت في مهمة إنقاذ، زاعماً أن أضواء السيارات كانت مطفأة، وأنها كانت تمثّل خطراً، ليكشف فيديو من جهاز موبايل كان بحوزة أحد شهداء الفريق أن السيارات كانت مضاءة، ولم تشكل أي خطر.

صورة أيقونية

يعود الفيلم إلى تقرير للأمم المتحدة نُشر في ديسمبر/كانون الأول 2024، يحدد نمط الهجمات المستخدم بشكل عام. فأولاً، يقوم الجيش بضرب مباني المستشفى والمناطق المحيطة بها. ثم يحاصر المستشفى بقوات برية تمنع الوصول إليه وتمنع الإمدادات الطبية.
ثم يداهم المستشفى، وغالبًا ما يستخدم الدبابات والجرافات. ويحتجز الطاقم الطبي والمرضى والنازحين الذين يحتمون بالمستشفى. ثم تجبر كل من تبقى على المغادرة.
وفي النهاية، تنسحب القوات الإسرائيلية، ما يؤدي فعلياً إلى توقف المستشفى عن العمل. إن لم يكن شَلّه لسنوات قادمة.
التركيز قبل كل شيء سيكون على الأطباء والطواقم الطبية، فالخسارة الهائلة في الخبرة ستستغرق سنوات لإعادة بنائها. أما الهياكل فيمكن بناؤها بسرعة، على ما يقول طبيب.
هنا يسلط الفيلم الضوء على حكاية الطبيب خالد حمودة، الذي استُهدف المبنى الذي كانت تعيش فيه عائلته التي تضم 3 أطباء، وقد قصف المبنى الذي لا يشكل أي خطر، من بين كل بيوت الحي، على ما يقول حمودة، الذي فقد في النهاية 12 شهيداً من أسرته.
أسباب الجيش الإسرائيلي لاستهداف الأطباء واهية، إن لم نقل زائفة وملفقة، بالنسبة للمشافي اعتبروا، في كل مرة، أنها تخفي مراكز قيادة أو أنفاقاً لـ «حماس»، وثبت بطلان ذلك، أما الأطباء فلم ينج أحد منهم من اعتقال أو تحقيق وتعذيب وحتى اغتصاب أو قتل، يقول طبيب، عندما يُسأل إنْ كان قد رأى أياً من الأسرى المحتجزين الإسرائيليين، في المستشفيات، إنه لم ير، ولكن، يضيف: هل أستحق الاعتقال والتحقيق والتعذيب لأنني عالجت أسيراً إسرائيلياً (لو حدث) في مشافي غزة!
يذكر الوثائقي البريطاني أسماء أطباء بتنا نعرفهم جميعاً، من الشهيد عدنان البرش، إلى حسام أبو صفية الذي وُثّقَ اعتقاله بصورة أيقونية شهيرة، وحتى يوم أمس وردت أخبار عن تفاقم وضعه السيئ تحت الاعتقال في منفردة، وفقد كثيراً من وزنه، ويتعرض للاعتداء الجسدي، على ما ذكر محامون التقوه في سجنه. ولم يعد خافياً أنَّ ما مِن غزي، خصوصاً إنْ كان طبيباً (أو صحافياً)، إلا فقد عدداً من أبناء عائلته، إن لم يكن العائلة برمتها.

الأعين المعصوبة، وتجهيل الاسم، ليست موجهة فقط لاحتقار المعتقل، بل للسجان أيضاً، الذي يُطلَب منه استنفار كل وحشيته، ذلك أن نظرة العين يمكنها أن تروّض الوحش

قوة السينما

لا تأتي قوة هذا الفيلم من معلومة جديدة أو تسريب استثنائي، فكل ما ورد معروف تقريباً وموثق، ولا لكونه يعرض على شاشة عالمية كبرى كالقناة الرابعة البريطانية، على أهمية ذلك بالطبع، بل لأنه مسبوك كمرافعة قانونية بأدلة دامغة بإمكانها أن تدين إسرائيل، خصوصاً أن الأخيرة هي سلفاً تتعرض لمحاكمة دولية، والوثائقي الجديد ما هو إلا إثبات إضافي لقصدية الإبادة الجماعية.
وقد يشكّل سياق العرض، منذ أن بات الفيلم جاهزاً للشاشة، فيلماً آخر موازياً يدين تواطؤ بعض المؤسسات الإعلامية، وإذعانها لضغوط وتهديدات جهات نافذة ومتحكمة. مثلما حدث مع «بي بي سي» التي رفضت عرض الفيلم متذرعة بانحيازه (الشركة المنتجة «بسيمنت فيلمز»). وعلى ما يبدو فإن هيئة الإذاعة البريطانية لا تريد أن تواجه هجوماً جديداً بعد أن تعرضت لحملة مع فيلم سابق بعنوان «غزة: كيف تنجو في محور حرب»، جرى الاعتراض حول أن الراوي فيه هو أحد أبناء قياديي «حماس»، علماً أن الراوي طفل لا ينوف عن الأربعة عشر عاماً.
ليست هذه المرة الأولى التي يثبت فيها فيلم وثائقي قوة السينما، قدرتها على أن تكون لاعباً مؤثراً بإمكانه أن يقلب الرأي العام، ويأخذه إلى حيث لا يريد الأقوياء والمتحكّمون. ويثبت، من جهة أيضاً، أن بإمكان الكاميرا أن تلعب دوراً مهماً فيما الأحداث دائرة، بعيداً عن ذرائع الذين يتشدّقون بلزوم أخذ مسافة من الحدث، للتأمل والاستنباط والتردد.
وثائقي، هو فرصة للتأمل في كيفية أن تصنع من الأخبار والفيديوهات المتداولة والعابرة أحياناً بلا اهتمام بين الأيدي مادة مبدعة، أقوى من الأصل، وأكثر تأثيراً.
فيلم ليس فقط للمشاهدة، وإنما لدفعه كملف إضافي أمام محكمة لاهاي.

 كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب