
مواكب الحداثة على أنقاض بيروت

حسن داوود
فقط هناك، في المطاعم الأكثر إضاءة، التي مع ذلك، نجحت في البقاء بعيدة عن نظر الناس، لا تتوقّف السيارات عن التسابق. وهي تشارك في ذلك واقفة، حيث هي، ومن دون أن يجهد سائقوها أنفسهم بركنها. هي فيرّاري ولمبورغيني، من تلك التي لتُفتح، ترتفع أبوابها إلى الأعلى. وفي المستوى الأدنى من العرض هناك السيارة التي أعلنت الشركة عن تخفيض سعرها إلى 130000 دولار فقط، داعية مشاهدي إعلاناتها المتكررة، أن يغتنموا الفرصة قبل نفاد الكميّة. هؤلاء، الذين سبقوا غيرهم في الوصول إلى الوكالة، يعرفون أن سياراتهم لن تحصل على نسبة عالية من حفل التفرّج الجاري هناك، على قدم وساق. لمبورغيني، كما يشاع هنا، يتعزّز امتلاكها بانتساب الشاري إلى نادي لمبورغيني العالمي، وهذا قد يكلّف، حسبما يقال 100 ألف دولار في السنة.
قلنا إن صاحب ذاك النوع الأكثر فخامة ينزل من سيارته من دون أن يجهد نفسه في رَكْنها إلى جانب الرصيف، بل ويُبقي بابها مفتوحا إلى الأعلى، لأنها، حيث تكون أو حيث تحلّ، هي تحفة للعرض. وقيمتها كتحفة جالبة للأنظار، ترفع من درجة تصنيف البلد في اللوائح التي تعيّن درجة الرفاهية التي بلغها الآن. أو درجة مواكبته لمواكبة التطور. فالسيارات هي الأكثر دلالة على موقع بلدانها في هذه المواكبة.
حين كان الكلام جاريا عن بقاء كوبا في زمنها السابق، لم يكن يُشهد على ذلك إلا بعتق سياراتها. سيارات أمريكية يعود أكثرها جدّة إلى سنة 1959، نراها تسير مثل قوافل في شوارع هافانا، الباقية أيضا على حالها منذ ذلك التاريخ.
لم يفعل اللبنانيون ما فعله الكوبيون، الذين كانوا يعلمون أن بقاءهم حيث هم سيطول. هنا، في بيروت، تركوا السيارات عرضة لتقادم زمن الحرب فكنا نرى نصف السيارات الخلفي مربوطا بحبل من الحديد بنصفها الأمامي، كما كنا نرى الأدخنة تتصاعد كثيفة من عوادمها، وألوان أبوابها مختلفة عن لونها الأساس. ذاك زمن فات وانقضى، وقد عاين صحافيون ومعدّو برامج تلفزيونية نهايته، بإجرائهم مقابلات مع أول سائق تاكسي اشترى سيارة جديدة من الشركة. كانت تويوتا صغيرة راحت تتفوّق على ارتال السرفيسات وراءها، باختيار الركاب لها دون غيرها.
وهذا ما دفع السائقين إلى تجديد تدريجي للسيارات العابرة في الشوارع، ورفع تصنيف لبنان في لوائح البلدان السعيدة، اي أننا، مع انتهاء الحرب، وإعادة زمن الشراء بالتقسيط، عدنا متفوّقين على البلدان القريبة إلينا، والتي حالها مثل حالنا. صرنا نتذكر كيف كنا، وها إننا نبدأ من جديد زمن رفاهنا، اعتمادا بذلك على السيارات. أقصد موجة سيارات الدفع الرباعي (الفور ويل درايف) التي يحرص شاريها، مستعملة في الغالب (سكندهاند) على أن يعرّف عن نفسه بها. «كلكم أغنياء هنا!» قالت المرأة الإيطالية التي زارتنا هنا، نحن الخارجين لتوّنا من الحرب.
ولم يترك هؤلاء لسياراتهم أن تعتق، مثلما حصل للسيارات في كوبا، فراحوا بعد ست سنوات يبدّلون سياراتهم، التي صارت مستعملة كثيرا، بسيارات مستعملة قليلا. وأيضا معتمدين على التقسيط. ولما حدث أن انهار لبنان، أعني من الناحية الاقتصادية، وسرقت المصارف أموال المودعين فيها، وتراجعت الرواتب إلى ما نسبته 90 في المئة، رحنا نترقب عودة السيارات إلى عتيقها متأكّدين، تبعا لتجارب سابقة، أن ذلك حاصل لا بدّ. وللحق أن السيارات المشتراة بالتقسيط صمدت أكثر مما كان مقدّرا لها، إلى حدّ أن إدارة الدولة المناط بها مراقبة حسن سير الآليات سبقت السيارات إلى الفوضى، فصرنا نرى هذه الأخيرة تسرح بلا لوحات تحمل أرقاما، هكذا مثلما هي البرّادات في البيوت، أو الغسالات أو مكيّفات الهواء.
صمدت السيارات، لكن إلى متى؟ في نهار أول أمس صدف أن رأينا، ونحن على كورنيش المزرعة، أربع سيارات استعيرت لها أبواب بألوان ليست ألوانها وهي، حسب تجارب سابقة أيضا، لن يجري طلاؤها إذ صار مبلغ الأربعمئة دولار يفوق المستطاع، أي أننا بدأنا العودة إلى حيث كنا، منتظرين أن تتخرّب السيارات كلها. عودة السيارات، ومعها بيروت، إلى ما كانت عليه في سنوات الحرب السالفة. إلى الحرب إذن، لا إلى السياحة التي لا تتوقّف التلفزيونات عن التبشير بعودتها.