مقالات

إِيرَان بَيْنَ مَأْزقِ الايديُولوجْيَا و حَقَائِقِ الحَيَاة – الجزء الثاني – بقلم الدكتور  عبدالوهاب القصاب

بقلم الدكتور  عبدالوهاب القصاب -طليعة لبنان-

إِيرَان بَيْنَ مَأْزقِ الايديُولوجْيَا و حَقَائِقِ الحَيَاة – الجزء الثاني –
بقلم الدكتور  عبدالوهاب القصاب -طليعة لبنان-
مدخل عام
منذ اندلاع ثورة الشارع الإيراني ضد حكم شاه إيران، تمكنت العناصر الموالية للمرجعية الدينية من مصادرة الثورة وتصفية القوى الأخرى التي ساهمت في تفجيرها، سواء بالترهيب أو الإقصاء أو الاغتيال أو النفي. وتم تحويل الخميني إلى ما يشبه الرمز المقدس، وأُسست أجهزة أمنية وعسكرية تدين له بالولاء المطلق، وعلى رأسها التشكيل الذي يعرف باسم “الحرس الثوري”، الذي بات يشكل الدولة العميقة في إيران. والذي مارس كافة أنواع الكبت و الملاحقة للمواطن الإيراني الذي وجد نفسه مقموعاً لا حول له ولا قوة.
تبنّت الدولة الإيرانية بعد ذلك نهجاً أيديولوجياً توسعياً صارماً، انطلق من رؤية دينية طائفية عالمية، تؤمن بولاية الفقيه كنموذج للحكم، وتسعى لتصدير الثورة خارج حدودها، متجاوزة اعتبارات السيادة والدولة الوطنية. وقد نجحت هذه السياسة التوسعية العدوانية في هيمنة ايران على اربعة عواصم عربية إلا أن واقع الحياة وتحديات الداخل والخارج فرضت على النظام الإيراني نوعاً من المراجعة، أو على الأقل إعادة ترتيب الأولويات، وهو ما خلق تناقضاً متنامياً
بين الايديولوجيا التي تأسس عليها النظام، وحقائق الواقع المعاش داخلياً وخارجياً.
أولاً: الايديولوجيا الإيرانية – الجذور والهيكل
الثورة والمرجعية السياسية
جاءت ثورة 1979 كتحالف غير متجانس بين قوى ليبرالية، ويسارية، وإسلامية، إلا أن الخميني كان الأكثر تنظيماً وتأثيراً، وتمكّن من فرض مرجعيته الدينية والسياسية عبر تأسيس مبدأ “ولاية الفقيه”، الذي شكل الإطار الحاكم للدولة الجديدة. لم تعد المرجعية محصورة بالبعد الديني فحسب، بل أصبحت المرجعية العليا في كل ما يتعلق بشؤون الدولة. واصبحت افكار الخميني هي المرجعية الأيديولوجية للدولة في هذه الحقبة التي واجهت فيها تحدي الحرب الإيرانية العراقية ١٩٨٠-١٩٨٨ والتي نجح العراق فيها بهزيمة ايران وإجبار الخميني على تجرع ما سماه بكاس السم والقبول بتطبيق القرار الصادر من مجلس الامن الدولي المرقم ٥٨٧ الذي خطط له ليضع حدا لهذه الحرب.
2. مشروع تصدير الثورة
منذ بداية الثمانينيات، أعلن النظام الإيراني التزامه بتصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، عبر أدوات متعددة: نشر الفكر الثوري، دعم الحركات المسلحة، بناء شبكات مذهبية وسياسية موالية، والتدخل في شؤون الدول المجاورة. مثّل هذا المشروع التزاماً عقائدياً توسعياً معلناً، لكنه اصطدم لاحقاً بمعارضة عربية وإسلامية ودولية شديدة.وقد عانت اربع عواصم عربية مهمة من تداعيات مشروع تصدير الثورة هذا، وهي بغداد فدمشق فبيروت فصنعاء.
ثانياً: مؤسسات ايديولوجيا النظام – أدوات الحكم والتوسع
الحرس الثوري
تُعدّ ” قوات الحرس الثوري” القلب النابض للمشروع الايديولوجي التوسعي الإيراني، إذ لم تكتف بوظيفتها العسكرية، بل امتدت إلى الاقتصاد، والإعلام،
والسياسة الخارجية، والعمليات الخارجية عبر ” فيلق القدس”. وقد لعب الاخير دوراً حاسماً في دعم المليشيات التابعة لإيران في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، وحتى في أمريكا اللاتينية.
2. شبكة الميليشيات العابرة للحدود
من خلال شبكة معقدة من الحلفاء والمليشيات، مثل حزب الله اللبناني، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، والنجباء، وزينبيون وفاطميون، شكّلت إيران محوراً مذهبياً متماسكاً يخدم أهدافها التوسعية، ويؤمّن لها موطئ قدم داخل الوطن العربي تحت غطاء “نصرة المُستَضعفين”.
ثالثاً: تحديات الداخل – حقائق الحياة تفرض نفسها
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
رغم العقوبات والضغوط، لم يتراجع النظام الإيراني عن مشاريعه التوسعية. لكن تداعيات العقوبات الأمريكية والدولية، إضافة إلى الفساد، وسوء الإدارة، أدت إلى تضخم، وبطالة، وانهيار العملة، وهجرة العقول. وظهرت احتجاجات شعبية متكررة تطالب بالخبز والكهرباء قبل القدس وبيروت. وقد كانت قوات النظام تسارع لقمع هذه الاحتجاجات بعنف مستخدمة أدواتها القمعية .
التباعد بين الجيل الجديد وايديولوجيا النظام التوسعية
جيل ما بعد الثورة مختلف جذريًا عن جيل خميني، فهو أكثر ارتباطًا بالعالم عبر الإنترنت، وأقل اهتماماً بالخطاب الثوري التقليدي. فالشباب الإيراني يبحث عن فرص عمل، وحرية تعبير، وانفتاح اجتماعي، وليس عن شعارات “ممانعة” مزعومة لا تعود عليه بشيء سوى مزيد من العزلة الدولية.
التناقض بين الدولة والدين
في حين أن الخطاب الرسمي يصر على شرعية دينية للحكم، فإن الفجوة بين السلوك السياسي للنظام ( قمع، تعذيب، اغتيالات) والمبادئ الأخلاقية الإسلامية
تجعل النظام يفتقر إلى “الشرعية الروحية” لدى قطاع واسع من الشعب، حتى في البيئة المحافظة.
رابعاً: السياسة الخارجية – العقيدة في مواجهة الجغرافيا
1. التمدد الجغرافي والإرتداد الاستراتيجي
حققت إيران نجاحات في توسيع نفوذها الإقليمي، لكنها فشلت في تحويل هذا التمدد إلى مكاسب استراتيجية ثابتة. فمثلاً، العراق غرق في التخلف والفساد المالي والاداري وانهيار مؤسسات الدولة، وسوريا قبل سقوط نظام الاسد استنزفت قدراتها الاقتصادية والعسكرية، ولبنان غرق في الفوضى والانهيارات المالية المتعاقبة.
2. الاتفاق النووي والعودة إلى الواقعية
وافقت إيران على توقيع الاتفاق النووي عام 2015 رغم اعتراض التيار المحافظ، مما اعتُبر لحظة براغماتية نادرة، فرضتها الضرورات الاقتصادية. وعندما انسحب رئيس الولايات المتحدة الامريكية ترامب من الاتفاق حينها، دخلت إيران في مأزق كبير بين الرغبة في الحفاظ على المكتسبات وبين عناد القوى المحافظة. لكن الحقيقة ان ثمة مؤشران مهمان يتسم بهما السلوك الإيراني اولهما الصوت العالي المجعجع الذي يوحي بأن ايران قوية إلى الحد الذي يجعلها تتحدى الجميع ، وهذا امر غير صحيح لان ايران مخترَقة من قبل اكثر من جهة بالطول وبالعرض، وقد اثبتت كثير من الحوادث ذلك.
خامساً: بين الأيديولوجيا والواقعية – محاولة التوازن المستحيل
نظام مزدوج الرأس: المرشد والرئيس
إحدى السمات المعقدة للنظام الإيراني هي وجود رأسين للسلطة: المرشد الأعلى ذو السلطة المطلقة، والرئيس الذي ينتَخَب شعبياً. هذا التداخل يخلق ازدواجية في القرار، ويفرض قيوداً على أي محاولة للإصلاح السياسي أو الاقتصادي.
الحرس الثوري مقابل المدنيين
يلعب الحرس الثوري دوراً متعاظماً على حساب المؤسسات المدنية، بل وحتى على حساب رجال الدين المعتدلين. ومع تزايد نفوذه، تتراجع فرص حدوث تحول سياسي سلمي من داخل النظام.
3. أيديولوجيا الولي الفقيه كعبء استراتيجي
لقد تحولت ايديولوجيا نظام الولي الفقيه التي كانت عنصر تعبئة في الثمانينيات إلى عبء استراتيجي في القرن الحادي والعشرين. إذ لم تعد قادرة على توفير حلول لمشكلات الداخل، ولا على كسب أصدقاء في الخارج.
سادساً: مآلات المشروع الإيراني
الوطن العربي يلفظ المشروع الإيراني
أظهرت السنوات الأخيرة تغيراً في المزاج العربي العام، مع صعود خطاب عربي أكثر صراحة في مواجهة التدخل الإيراني، وتحول حلفاء طهران المفترضين إلى عبء عليها. لبنان يعاني، عراق غاضب، ويمن منهك.
الأمل باستخدام صراع “سني شيعي” ، يفقد زخمه
مع انكشاف الطابع السياسي للتدخل الإيراني، خفتت نبرة الطائفية وافتضحت مراميها، وأصبحت الشعوب تنظر إلى إيران كقوة ” احتلال سياسي واقتصادي”، وليس كداعم للمذهب بل تستخدمه كغطاء .
حتمية المراجعة
مع كل هذا الضغط، يبدو أن النظام الإيراني قد يُجبر عاجلاً أو آجلاً على إجراء مراجعة استراتيجية، سواء عبر اتفاق مع الغرب، أو تهدئة إقليمية، أو حتى تحوّل داخلي تدريجي يُضعف سلطة الحرس الثوري.
خاتمة: إيران بين لحظتين – ثورة الأمس ودولة الغد
تقف إيران اليوم على مفترق طرق حاسم بين الاستمرار في المكابرة بإيديولوجية الولي الفقيه ومشروعها التوسعي، أو الدخول في عملية تحوّل تدريجية نحو دولة وطنية واقعية تقيم علاقاتها على أساس المصالح المشتركة مع جيرانها.
لقد أثبتت العقود الماضية أن ايديولوجيا نظام الولي الفقيه التوسعية وحدها لا تبني اقتصاداً ولا توفّر وظائف، وأن التوسع الخارجي لا يُعوّض عن ضعف الداخل، وأن الحرس الثوري لا يمكنه قمع الغضب الشعبي إلى الأبد.
إن مستقبل إيران – كدولة وشعب – مرهون بقدرتها على التوفيق بين هويتها وواقعها الجغرافي، و ما تزعم انه إرث ” ثوري”، وضرورات الدولة الحديثة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب