
المغرب الكبير: فنون ودموع وغزوات على السوشيال ميديا

غادة بوشحيط
في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بأخبار أهم الوجهات السياحية لصيف السنة، وما صنع تفردها هنا وهناك، وما حققته من أرقام ومداخيل، ينشغل المغرب الكبير بأخبار الحياة الثقافية، لا قراءة واستماعا، بل جدلا على السوشيل ميديا.
البنت الباكية
«الصغيرة التي بكت» ليس عنوان لوحة ولا فيلم، ولا حتى مسرحية مميزة على الطريقة التونسية، بل فتاة صغيرة بكت فعلا، في مهرجان غنائي في مدينة بنزرت التونسية. الصبية التي أثارت الرأي العام لم تبك جوعا ولا نزوحا، ولو كان كذلك على الأرجح لما اهتم معشر المنشغلين بالسوشيال ميديا بها، تماما كتجاهلهم لصور الغزيين من صبيان ورضع. الغموض الذي لف قضية «البنت الباكية» أثار الجدل، وسرعان ما لفه رواد مواقع التواصل الاجتماعي بأساطير افتراضية وتحول إلى تريند.
وقف المغني السوري المدعو «الشامي» على مسرح المدينة يردد أغانيه، وهو يستقبل بين الحين والآخر معجبين من الأطفال، يأخذون صورا ويلقون تحايا، هو الذي عرف جمهورا كثيفا في بلد يعج صيفه بالمواعيد الفنية. إلا أن أغنية «دكتور» لم يقدر لها أن تعرف شهرة إلا من دموع صغيرة لم تعانق مغنيها هي التي وقفت تردد كلماته مندمجة معها. طبعا ما كاد المقطع الذي أخذ للطفلة دون علم وإذن أهلها أن يدفع نحو الشبكات الافتراضية حتى تحول لمادة إعلامية وأثار جدلا حادا.
«بهذه السن وتتأثر بأغنية حب»، « في زمني كنت أكتفي بحب الوالدين»، «على طفولتي كانت أقصى طموحاتي أن ألعب وأنام» كانت التعليقات شيئا من سيل تهم وجهت إلى الصغيرة ما اضطر عائلتها إلى الخروج عن صمتها وتأكيد تميز «شهد» في المدرسة، من خلال نشر دفاتر علاماتها وتفاصيل أخرى. أدلة كافية أدان من خلالها فريق ثان ما أتاه الفريق الأول: «لم تتجاوز السنوات الثماني بربكم»، «بل إحدى عشرة»، «توفي والداها، إنها يتيمة»، كانت شيئا من دفاع تيار عن تأثر الطفلة، التي لا يحق لأي كان سؤالها أو مساءلتها لحبها أو تفضيلها لأغنية يتيمة كانت أم لا، متأثرة بتفاصيل خاصة أم لا، بل لا يحق لأي كان أن يصورها وينشر صورها دون إذن، ولا أن يحيلها إلى محاكم النوايا، فالطريق لا يزال طويلا ومدونة الأحوال الشخصية والقلبية والسلوكية تعج بما يكفي من مواد تدين النساء قبل أن تحاكمهن، هي التي يحدث أن تبعث نقاشا «عميقا» في فقه تزويج القاصرات!
التريند مأساة أم مهزلة؟
يكرر ما تبقى من يسار فلكلوري عربي مقولة ماركس «التاريخ يعاد مرة كمأساة ومرة كمهزلة» كقانون ثابت، لا تنطبق على الأرجح على التريند الجزائري. الجدل الافتراضي أقوى وأكثر تقلبا من تقلبات البورصة حين يعبث بها ترامب ومن والاه. لم تكن عطلة الجزائريين لتكن ولا تهدأ، إذ عرفت الأسابيع الماضية انتشار فيديوهات ساخرة بالذكاء الاصطناعي ممن يدعوهم اللسان الجماهيري في البلاد بالكهول، والكهل بتعبير السوشيل ميديا ليس شخصا من سن معين، بل فكرة تسيطر على دوائر اتخاذ القرار، وتفرض على الشباب الأكثر «تنورا» والأكثر اندماجا مع العصر (حسبهم) تشريعات وقوانين تجعلهم حبيسي زمن مضى بممارساته ورموزه. طبعا الكهل لا يعرف من السوشيل ميديا سوى فيسبوك، ولا يعرف من المنشورات سوى ما يحاكي زنزانته الزمنية، ثم الكهل لا يصنع التريند إلا كمادة للتجني والغضب، لكن الواقع أثبت العكس.
اقتاتت الحياة الثقافية خلال الأيام القليلة الماضية على جدالات وسجالات افتراضية محمومة لا عميقة، سرعان ما أعادت إلى الواجهة خطابات لا يبدو أن للأجيال الأحدث يدا مباشرة في صنعها، وإن كانت وقودها. من جهة خص رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الكاتب الجزائري الأهم رشيد بوجدرة باستقبال خاص ووسام، ساعات قبل أن يهشم أحدهم تمثال وجه سيدة سطيف. تزامن التريندين لم يثر الانتباه بقدر ما أثاره ما يمكن لمتلازمة «الديجا فو» تفسيره. حلزون الأدب الجزائري العنيد سبق وأن شغل السوشيل ميديا منذ سنوات حين وقع ضحية لبرنامج كاميرا خفية على تلفزيون خاص، وتمثال عين الفوارة العاري استأصل ثدياه منذ سنوات سبع تحديدا.
في الحقيقة ذاكرة مواقع التواصل الاجتماعي أهون من ذاكرة ذبابة، ثم من يهتم بروائي وتمثال في بلد يصرخ شيوخ الكار فيه في وجه الأحدث سنا تهكما من الأعداد الكبيرة من الروايات التي تصدر سنويا دون أن يجرؤوا على التنديد بما يصنع تفاصيل النشر في البلاد، كما تخلو شوارعه مما يصنع جمال تفاصيل الفضاء العام عدا قطع نادرة جدا لها سيرها الخاصة، حقائق تدفع أضعف المؤمنين بنظرية المؤامرة للشك في هوية الجهات التي تقف خلف هذا الجدل أو ذاك.
«مجاهد؟»، «إنه ملحد»، «كيف يجرؤ رئيس الجمهورية على استقبال شخص كهذا؟»، «لقد جاهر بكفره»، «إنه لا يصوم»، «نحن بلد مسلم»، «أدب أم قلة أدب»، شيء من تعليقات أساءت لنفسها أكثر مما أساءت للرجل، على النقيض وقف تيار آخر دفاعا عن الكاتب: «إنه من أهم الأقلام التي صنعت الأدب المغاربي بعد الاستقلال»، «مثقف كبير»، «كاتب عظيم»، «كيف يجرؤ هؤلاء الظلاميون على سب قامة من طينة بوجدرة»، «عبقري يكتب باللغتين» (كتاباته بالفرنسية عبقرية أما باللغة العربية فمشكوك في أمرها)، وبين التيارين وقف عقلاء ممن يتابعون سيرة الرجل: «لا شك أنه دائما ما كان قريبا من دوائر السلطة، وقطعا بالرجل لوثة تهور وربما للسن دور، لكن عبقرية نصوصه لا لبس عليها، لقد وصل بالرواية مطارح لم يلامسها غيره».
«سيدة عارية أمام جامع»، «آخر الرموز الكولونيالية»، «عليهم احترام خصوصيتنا»، «نحن شعب مسلم»، «وجب نقلها إلى متحف»، «لقد فعل هذا الرجل ما فكر فيه كثر ولم يجرؤوا»، كانت تعليقات من بين كثير مرحبة. على الجانب الآخر كرر المستنكرون: «فعلها المجرمون مرة زمن عشرية الدم والغدر، وفعلها أبناء الجيل الذي عاش على ذاكرتها مرتين»، «لم يفلح الظلاميون زمن الأزمة، لن يفلحوا اليوم»، «يبدو أن هناك من لم يرتو من الدم بعد»، «الحالمون بدولة الخلافة يعودون»، كانت تعليقات ترددت على الكثير من المنصات.
يتجاوز الجدلان الافتراضيان اللذان شغلا الجزائريين بمختلف مشاربهم وأعمارهم النقاش العام، ولا حتى توافه الحياة الرقمية، بل يبدوان أقرب لغزوة على الرموز، تتصارع على أطلال، لن يقف في وجه آثارها سوى انفتاح ثقافي وفكري حقيقي بعيدا عن أي ريع.
كاتبة من الجزائر