فصل جديد في المعركة: «المقاومة السيادية» لـ«الهندسة السياسية» الإسرائيلية

فصل جديد في المعركة: «المقاومة السيادية» لـ«الهندسة السياسية» الإسرائيلية
علي حيدر
يُشكّل قرار حكومة نواف سلام بنزع سلاح حزب الله لحظة سياسية بالغة الحساسيّة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، ويُعدّ، بمضمونه وتوقيته، تتويجاً لمسار طويل بدأ بالتبلور منذ نهاية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان الخريف الماضي.
ورغم أنّ القرار صدر عن سلطة رسمية لبنانية، إلا أنّ سياقاته العميقة تمتدّ إلى المرحلة التي أعقبت وقف الحرب، وتحديداً إلى ما عبّر عنه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو لتبرير إنهاء العدوان.
فنتنياهو لم يزعم أنّ الحرب انتهت بتحقيق أهدافها، بل أشار إلى ثلاثة أسباب دفعت إلى وقفها: الوضع في غزة، وإيران، والأهم – وفق تعبيره – حاجة جيش الاحتلال إلى «الانتعاش والراحة».
مع ذلك، فإنّ المتغيّر الأكثر تأثيراً الذي عزّز الرهانات الإسرائيلية وفتح شهيّة العدو على التصعيد، هو التغيير الجذري الذي طرأ على الساحة السورية، وما نتج عنه من تداعيات لتطويق المقاومة.
ورغم نجاح العدو في توجيه ضربات نوعية وقاسية إلى قدرات حزب الله، طاولت قادته وفي مقدّمهم الأمينان العامّان السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، إلا أنه أدرك بعد معركة «أولي البأس» أنّ خيار التفوّق الجوي والضغط العسكري لم ينجح في تحقيق الهدف الجوهري المتمثّل بتفكيك البنية العسكرية لحزب الله، وبإنهاء دوره كقوة دفاعية قادرة على إلحاق خسائر كبيرة بالعدو في حال اندلاع مواجهة جديدة.
خيارات حزب الله
تقلّص قدرة الحكومة على تنفيذ قرار نزع السلاح من دون التسبّب بانفجار داخلي
نتيجة لذلك، اتّجه التفكير الإستراتيجي للعدو نحو خيارات وأدوات أكثر مرونة وأقلّ كلفة، تقوم على تطويق حزب الله وإضعافه من الداخل اللبناني، عبر السعي إلى تفكيك الحاضنة الوطنية للمقاومة، ودفع الدولة اللبنانية إلى اتّخاذ قرارات تمسّ وجودها وسلاحها، وهي المهمّة التي تولّتها الإدارة الأميركية بشكل مباشر.
في هذا السياق، برز مفهوم «الهندسة السياسية للسيادة اللبنانية»، أي إعادة تعريف مَن هو «الشرعي»، ومَن هو «الخارج عن منطق الدولة»، بما يهدف عملياً إلى وضع حزب الله في خانة التمرّد على الدولة. وجاء القرار الحكومي الأخير – بدفع أميركي مباشر – ليجسّد هذا التصوّر في أوضح صوره، ويؤكّد أنّ النقاش داخل مجلس الوزراء حول «الورقة الأميركية» ليس مجرّد تباين داخلي، بل جزء لا يتجزّأ من إستراتيجية واشنطن وتل أبيب الهادفة إلى صياغة شروط المرحلة السياسية والأمنية المقبلة.
من وجهة النظر الإسرائيلية، لا يُعدّ هذا القرار مجرد مكسب سياسي داخلي فحسب، بل يُمثّل اختراقاً نوعياً للمجال الذي ظلّل المقاومة منذ تسعينات القرن الماضي، ومكّنها من التفرغ لمواجهة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي. أمّا اليوم، فيُنظر إلى القرار كإحدى الخطوات التأسيسية لإسقاط هذا الغطاء، ونقل الصراع إلى الداخل اللبناني، حيث تُزاح المقاومة عن كونها قضيّة وطنية جامعة، لتُحشر في زاوية «التمرّد على الدولة».
لكنّ هذا الرهان لم يمرّ من دون ردّ. فقد جاء بيان حزب الله ليعيد خلط الأوراق سريعاً، واضعاً القرار الحكومي في خانة «اللّاشرعية الميثاقية والدستورية»، ومتمسّكاً بمنطق «السيادة الوطنية» في مواجهة طروحات «نزع السلاح». وقد حدّد الحزب بدقّة موقعه من مسارات المرحلة المقبلة: رفضٌ قاطع للقرار، وعدم الاعتراف به، من دون الذهاب إلى قطيعة مع الدولة أو التورّط في صدام داخلي.
وهي مقاربة تعكس درجة عالية من الانضباط السياسي، إذ يتجنّب الحزب الوقوع في فخّ المواجهة الأهلية، من دون أن يتنازل عن عناصر قوّته، بل يناور ضمن مؤسسات النظام، متسلّحاً بالدستور والبيان الوزاري وشرعية المقاومة التي راكمت مشروعية وطنية على مدى عقود.
في العمق، كانت أمام حزب الله ثلاثة مسارات ممكنة: القبول بالإملاءات الأميركية – الإسرائيلية، أو الدخول في مواجهة مباشرة مع الدولة، أو اعتماد خيار المناورة السياسية من دون الانزلاق إلى صدام. وقد اختار بوضوح المسار الثالث، باعتباره الأكثر توازناً من حيث الكلفة والفاعلية. هذا الخيار يمنحه هامشاً واسعاً للحركة داخل مؤسّسات الدولة، ويُفشل – حتى الآن – رهانات العدو على استدراجه إلى صراع داخلي، كما يتيح له إعادة تأطير النقاش في إطار معركة على السيادة، لا مجرّد جدل حول السلاح.
وتُدرك إسرائيل أنّ هذا الموقف يربك حساباتها، ويقلّص قدرة الحكومة اللبنانية على تنفيذ قرار نزع السلاح من دون التسبّب بانفجار داخلي. لكنّ السؤال الجوهري يبقى: هل تستغلّ إسرائيل قرار حكومة نواف سلام لإضفاء شرعية على عدوانها ضدّ المقاومة؟
الجواب، من زاوية المصالح الإسرائيلية، هو نعم. إذ يتيح لها هذا القرار التدخّل في الشأن اللبناني من دون الحاجة إلى عبور حدود الجنوب، تحت ذريعة دعم «قرار الدولة اللبنانية» و«تعزيز سيادتها». أمّا من زاوية المصالح اللبنانية، فإنّ استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وتزخيمها، سيثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ ثمّة علاقة عضوية بين قرار نزع السلاح وبين إستراتيجية العدو في ما بعد حرب «أولي البأس».
وفي تقدير الموقف، يمكن القول إنّ المرحلة المقبلة مرهونة بتوازن دقيق بين ثلاث قوى فاعلة:
قدرة الحكومة على تنفيذ القرار وسط بيئة سياسية ومجتمعية منقسمة، وقدرة حزب الله على امتصاص الضغوط من دون الانجرار إلى صدام داخلي، وقدرة إسرائيل على البقاء في خلفية المشهد، من دون أن تُتّهم بالتدخّل المباشر، بما يتيح لها استثمار القرار اللبناني في حربها الطويلة ضدّ المقاومة، من دون الحاجة إلى فتح جبهة عسكرية جديدة.
قرار نزع السلاح لم يُغلق المعركة، بل فتح فصلاً جديداً فيها. وما يميّز هذا الفصل أنّ المواجهة لا تُخاض بالرصاص بل بالأدوات الدستورية والسياسية. وفي هذا السياق، اختار حزب الله أن يتموضع مدافعاً عن السيادة الوطنية في مواجهة مشروع خارجي.
في الخلاصة، بين «الهندسة السياسية» التي تفرضها إسرائيل من الخارج، و«المواجهة السيادية» التي يقودها حزب الله من الداخل، يُعاد رسم خطّ التّماس الجديد في لبنان.
هذا الخطّ لا يمرّ هذه المرّة في الجنوب فقط، بل في صلب الدولة: في النصوص الدستورية، وتوازنات الحكومة، وخطاب الشرعية، وفي وجدان الناس الذين يواجهون اليوم سؤالاً حاسماً: مَن هو المدافع الحقيقي عن السيادة، ومن يستدعي القوى الخارجية باسْمها؟