مقالات

اليسار التركي و»صقور فلسطين»

اليسار التركي و»صقور فلسطين»

توران قشلاقجي

كاتب وصحافي تركي

قضية فلسطين، بتاريخها الممتد لما يقارب القرنين، ليست مجرد حكاية مقاومة، تركت أثرا عميقا في ضمير الشرق الأوسط فحسب، بل في ضمير العالم بأسره. غير أن هذه المعركة ليست حكرا على الفلسطينيين وحدهم، بل أصبحت قضية كل صاحب ضمير، وقف في وجه الظلم في كل بقاع الأرض. ففي تركيا، تبنّت الحركات اليسارية والاشتراكية، ولا سيما في سبعينيات القرن الماضي، المقاومة الفلسطينية باعتبارها نضالا مناهضا للإمبريالية، وأقامت معها علاقة تضامن وثيقة. ويُسلّط كتاب «صقور فلسطين»، الصادر حديثا، الضوء على جانب تاريخي مهم من هذا التضامن، لم يكن معروفا بما فيه الكفاية عند الرأي العام.
أعدّت هذا الكتاب الكاتبة سربيل تشيلينك غوفنتش والصحافية سلطان أوزَر، مستندتين إلى أرشيف المحامي الراحل خالد تشيلينك، ويتناول قصة 4 مقاتلين فلسطينيين اقتحموا السفارة المصرية في أنقرة عام 1979، والإجراءات القضائية التي تلت ذلك. لا يعتمد الكتاب فقط على الوثائق الأرشيفية والالتماسات القانونية، بل يثرى أيضا بمقابلات مع شهود عاصروا تلك الأحداث. وتُضفي شهادتا السفير الفلسطيني الأسبق في تركيا أبو فراس، ووزير الداخلية التركي آنذاك حسن فهمي غونش، بعدا متعددا على هذه الحقبة التاريخية.
عملية اقتحام السفارة في 13 يوليو 1979 أحدثت صدمة في الرأي العام، إلا أن السياق السياسي للحدث، يكشف أن هذا الاقتحام لم يكن مجرد عمل دبلوماسي، بل كان نداء دوليا باسم الشعب الفلسطيني، وبيانا سياسيا يحمل رسالة احتجاج على اتفاقية كامب ديفيد وخطوة مصر نحو التطبيع مع إسرائيل. شكّلت هذه العملية إعلانا عن نقطة الانكسار في التضامن العربي، وأثمرت في تركيا عن افتتاح مكتب تمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولقيت صدى واسعا في الأوساط التقدمية. وفي المحاكمة التي أعقبت العملية، مثّل خالد تشيلينك المقاتلين الفلسطينيين، في موقف أظهر أن اليسار التركي لم يكتفِ بالتضامن في الشارع، بل وقف جنبا إلى جنب مع المقاومة حتى في الميدان القانوني. تحوّلت المرافعات القانونية، والرسائل المُرسلة إلى السجن، وصور سجن سينوب، إلى وثائق تاريخية تُظهر كيف لامست قضية شعبٍ ضمير شعبٍ آخر.

إحياء الالتزام بقضية فلسطين هو السبيل لإحياء القيم الإنسانية التي تتآكل عالميا مثل حقوق الإنسان والعدالة والحرية، فقضية فلسطين مسؤولية تاريخية ينبغي النهوض بها باسم كرامة الإنسانية

الكتاب لا يقدّم سردا محليا فحسب، بل يعرض تطور المقاومة الفلسطينية تاريخيا؛ من أزمة السويس عام 1956، إلى حروب 1967 و1973، و»أيلول الأسود» في الأردن، وصولا إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. في هذا المسار، كانت المقاومة الفلسطينية ساحة للدعم الإقليمي والضغوط الإمبريالية على حد سواء. فبينما تلقّى الفلسطينيون دعما لوجستيا من الاتحاد السوفييتي وبعض الدول العربية، واجهوا في المقابل خيانات إقليمية وسياسات عزل دوليّة قاسية.
مع نهاية الحرب الباردة، تفكّك الحراك الاشتراكي العالمي، وانكمش التيار القومي العربي، وتراجعت نبرة الصراع الطبقي. وأدى ذلك إلى تعاظم عزلة المقاومة الفلسطينية إقليميا ودوليا. وتجسّد هذا المسار في اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي اعتُبرت من قبل الكثيرين وثيقة تصفية للمقاومة، حيث وقّع ياسر عرفات اتفاقا مع إسرائيل، مقابل وعود فارغة لا تحمل ضمانات ملموسة. ومع تراجع تأثير حركة فتح، برزت حركة حماس لتشكّل خطا جديدا للمقاومة، غير أن هذا التحوّل مثّل أيضا تراجعا للخط الثوري العلماني اليساري. وفي هذا السياق، اتجه كثير من مثقفي اليسار العربي، مثل منير شفيق، إلى الخط الإسلامي، ما ساهم في تغيير البنية الأيديولوجية للمقاومة الفلسطينية.
أما الهجمات الإسرائيلية الجديدة التي بدأت في أكتوبر 2023، فقد أسفرت عن مذبحة راح ضحيتها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ودمّرت غزة بالكامل، وسط صمت دولي وصفه البعض بأنه تواطؤ مع إبادة جماعية تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم. وجاء صدور كتاب «صقور فلسطين» في هذه اللحظة المفصلية ليؤكّد أن التاريخ يعيد نفسه، وأن المقاومة الفلسطينية لم تنتهِ بعد.
وللأسف، فإن جزءا كبيرا من اليسار التركي يتعامل اليوم مع قضية فلسطين إما بنظرة رومانسية ماضوية، أو بصمت مريب. في حين أن فلسطين لا تزال تمثّل رمزا للمقاومة في وجه الإمبريالية والعنصرية ووحشية الرأسمالية. إن عملية عام 1979 لم تكن مجرد حدث عابر، بل نداء لا يزال يتردّد صداه إلى اليوم. والاستجابة لهذا النداء لم تعد مسؤولية الماضي، بل هي واجب الحاضر.
إن كتاب «صقور فلسطين» لا يكتفي بفتح صفحة منسية من الماضي، بل يمنح فرصة لاتخاذ موقف أخلاقي في وجه الظلم، الذي يُرتكب اليوم تحت أنظار العالم. فإعادة إحياء الالتزام بقضية فلسطين هي السبيل لإحياء القيم الإنسانية التي تتآكل عالميا مثل حقوق الإنسان والعدالة والحرية والمساواة الاجتماعية. فقضية فلسطين ليست حنينا رومانسيا إلى ماضٍ بعيد، بل مسؤولية تاريخية ينبغي النهوض بها باسم كرامة الإنسانية. وهذه المسؤولية لا يجوز أن تُدفن في رفوف الأرشيفات المغبرة، ولا أن تُكتم في ضمائر صامتة. فالصمت أمام واحدة من أكبر المجازر في التاريخ الحديث هو خيانة للضمير الإنساني الجمعي. قضية فلسطين يجب أن تعود حيّة في القلوب، في الساحات، وفي كل جبهات المقاومة.
كاتب تركي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب