تحقيقات وتقارير

«حزب الله» في المربع الأخير: رفع السقوف لتمرير الوقت أو الحصول على ضمانات ومكاسب!

«حزب الله» في المربع الأخير: رفع السقوف لتمرير الوقت أو الحصول على ضمانات ومكاسب!

رلى موفّق

لا يكمن الخوف فقط من تصادم «حزب الله» مع الجيش اللبناني، وإن كان لديه حاضنة شعبية قوية من مختلف الطوائف، بل أيضاً من تصادم اللبنانيين السياسي والشعبي مع «الحزب».

لم يكن مستغرباً تصعيد الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في ذكرى أربعينية الإمام الحسين، فيما إيران تُعيد ترتيب أوراقها المبعثرة في الساحات التي كانت أذرعها فيها هي الفاعل الأكبر قبل أن تُصاب بالنكسات والهزائم المتتالية. جاء أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، عقب تعيينه في هذا المنصب، إلى بغداد وبيروت، بهدف أول هو سبر أغوار حجم التحوُّلات التي حصلت في هاتين الدولتين، فقد سبق أن تغنّى مسؤول إيراني بأن طهران تُسيطر على أربع عواصم عربية هي: صنعاء، وبغداد، ودمشق، وبيروت. أما الهدف الثاني، فهو شدّ عصب الأذرع التي جرى الاستثمار فيها لعقود بالاتكاء على البعد العقائدي الديني في مشروع تصدير الثورة، من أجل حماية إيران إذا ما تعرّض نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية للخطر.
في بيروت، كان «حزب الله»، درَّة تاج الأذرع، صاحب الدور الإقليمي، الأكثر تمدداً وقدرة وخبرة في المنطقة والشبكات العابرة للحدود، الممسك بقرار السلم والحرب في لبنان، صاحب «إمبراطورية الدويلة» في قلب الدولة، ومعادلة «جيش وشعب ومقاومة» التي أضحت شرطاً لازماً في البيانات الوزارية لتأمين الغطاء الشرعي لسلاحه غير الشرعي، ولا سيما منذ انسحاب إسرائيل عام 2000 من جنوب لبنان. فإذا بحاله قد تغيَّر بعد الهزيمة التي تلقاها في أيلول/سبتمبر 2024 عندما انخرط في «حرب الإسناد» في اليوم التالي لهجوم حركة «حماس» في السابع من أكتوبر 2023 على غلاف غزة. جاء ولايتي ليلمس بيده التبدُّل في موقف لبنان الرسمي والسياسي، وحجم تراجع النفوذ الإيراني فيه.
من الصعب الاعتراف بتغيُّر الأحوال والتسليم بانهيار المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة. لم تكن الضربة القاصمة هي هزيمة إسرائيل لـ«الحزب» في لبنان والذهاب إلى وقف إطلاق نار منح تل أبيب حرية الحركة حيثما تعتقد أن هناك خطراً عليها، بل هي سقوط نظام بشار الأسد في سوريا بعد أيام، ما أدى إلى قطع طريق طهران – بيروت، مُشكلاً التحوُّل الأكبر والأهم الذي قطع شريان الحياة لـ«الحزب» وجعله مطوَّقاً بين إسرائيل وسوريا. هذا فيما تُصارع حركة «حماس» في المربّع الأخير، وتئن بغداد تحت وطأة الضغوط وتسير بين النقاط لتجنب لهيب النار وسيف العقوبات، وتجهد لتقطيع المرحلة بأقل الخسائر. ويتزايد القلق مع تصاعد احتمالات الذهاب إلى مواجهة إسرائيلية – إيرانية ثانية.
وجد لاريجاني بيروت على غير ما يعرفها. طريق دمشق – بيروت مقطوعة، وحتى المرور فوق الأجواء السورية غير متاح له. كان عليه أن يحطَّ في مطار رفيق الحريري تحت عدسات الكاميرات، وسط استقبال رسمي من قبل موظف في وزارة الخارجية، واستقبال سياسي هزيل ممن تبقّى من الحلفاء، وآخر شعبي أكثر هزالة. كان الشكل كافياً للإشارة إلى الحالة التي وصلت إليها طهران، لكن مضمون اللقاء مع كل من رئيس الجمهورية العماد جوزف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، شكَّل صدمة مضاعفة للانكسار الدي تمرّ به جمهورية الولي الفقيه. كيف بات في لبنان مسؤولون لا يهابون إيران وذراعها في لبنان؟ كيف بات بإمكان هؤلاء أن يتجرّأوا على الحديث عن القرار اللبناني وعدم القبول بتدخل الآخرين بشؤون لبنان، وبحصرية السلاح بيد الدولة وغياب كل مسميات «المقاومة» وما شابه من القاموس اللبناني؟
كان طبيعياً أن يرفع قاسم سقف خطابه، فحرب إيران – إسرائيل لم تنته بعد. والاستعدادات للمواجهة المقبلة جارية على قدم وساق في كل مكان. تريد طهران أن ترصَّ صفوف ما تبقى لديها من قوة أذرعها. ففي هذه الجولة، والتي يتم التعامل معها على أنها الجولة الأخيرة وحرب وجود، لا بدّ من الذهاب إلى تطبيق سيناريو «وحدة الساحات». لن تنطلق الصواريخ وحدها من إيران بل من ساحات الحلفاء المساندة في اليمن والعراق ولبنان، والصواريخ الدقيقة في لبنان كفيلة بأن تُحدث أضراراً مضاعفة في إسرائيل نظراً إلى قربها ووصولها خلال ثوان، بحيث لا تستطيع الدفاعات الجوية الإسرائيلية التعامل معها بفعالية.
حماية إيران قبل حماية جنوب لبنان والبيئة الشيعية هي هاجس «حزب الله» راهناً. اعتبر «الحزب» أن الحكومة اللبنانية تُنفِّذ الأمر الأمريكي الإسرائيلي بإنهاء ‏المقاومة، ولو أدى ذلك إلى حرب أهلية وفتنة داخلية. وأنها تقوم بخدمة المشروع الإسرائيلي، أكانت تدري أم ‏لا تدري. تستمر تهمة التخوين والعمالة لكل مَن يخالف «حزب الله» ودوره الـ«ما فوق لبناني». ولكن ثمة متغيرات يعرفها «الحزب» جيداً ومن خلفه إيران. لقد حصلت تحوّلات كبرى في المنطقة الذي يتبدَّل وجهها. إنه «الشرق الأوسط الجديد» الذي ترتسم معالمه، ولا تبدو فيه إيران لاعباً كبيراً يُمسك بيده أوراقاً عدة يطرحها بقوة على طاولة المفاوضات. باتت طهران تدرك أن هوامش مناوراتها تضيق ومعها تضيق هوامش مناورة «حزب الله».
فقرار تسليم سلاح «حزب الله» هو قرار إقليمي – دولي كبير، يأتي ليجعل توق اللبنانيين إلى حصر السلاح بيد الشرعية تنفيذاً للدستور أمراً ممكناً. فاللبنانيون يعيشون منذ «اتفاق الطائف» عام 1989 وفقاً لمعادلة «صيف وشتاء تحت سقف واحد». لا يُطبَّق عليهم قانون واحد، وليسوا متساوين أمامه. كل كبيرة وصغيرة يمكن تمريرها تحت عنوان «ضرورات المقاومة» وحمايتها وامتيازاتها، حتى إن الجيش اللبناني كان يضع إمكاناته اللوجستية في خدمة «الحزب»، بالاتكاء على البيانات الوزارية.
يعلم «حزب الله» أن قرار تسليم السلاح لا رجعة عنه. لكنه لن يعمل على تسليمه من دون ثمن مقابل. في المبدأ، السلاح المطلوب تسليمه هو السلاح الدقيق، والذي هو بإمرة إيرانية، ولذلك يعتبر أن البحث لا بدّ أن يكون مع إيران حين تجلس إلى الطاولة قبالة أمريكا. فهذه الورقة ما زالت بيد طهران، وإن كان ثمن استخدامها سيكون كارثياً على «الحزب» وبيئته ومناطقه وعلى لبنان بأكمله. لا مشكلة في أن يكون لبنان من ضمن الأضرار الجانبية في معركة حماية النظام الإيراني الذي هو الهدف الأسمى. كان التعويل، ولا يزال، على أن يكون تسليم السلاح نتيجة توافقات واتفاقات أمريكية – إيرانية، يستحصل من خلالها «حزب الله» على ضمانات يمكن الركون إليها.
في قراءته، أن تسليم السلاح، في ظل اختلال موازين القوى، قد يضعه وبيئته أمام سيناريو من ثلاثة سيناريوهات حصلت في لبنان: إما سيناريو «مجازر صبرا وشاتيلا» التي وقعت بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، أو سيناريو 13 تشرين الأول/اكتوبر 1990، حين واجه الجيش اللبناني بغطاء جوي سوري ما اعتبر حينها تمرداً من قبل ميشال عون في بعبدا)، أو سيناريو «القوات اللبنانية» في العام 1994 حيث جرى زج قائدها سمير جعجع في السجن، وبالتالي تمَّ حلّها وإقصائها عن الحياة السياسية. لا يرى «حزب الله» سوى تلك السيناريوهات، مُتجاهلًا أو مُسقطاً سيناريو العودة إلى الدستور والدولة والتحوُّل إلى العمل السياسي بشروط الدولة، كما هو واقع كل القوى السياسية الأخرى. في غياب هذا الاحتمال، تتحوَّل المعركة بالنسبة لـ«الحزب» إلى معركة وجودية. فالسلاح هو لحماية حضور «الحزب»، وكأنه يقول إن خسرت سلاحي أكون انتهيت، ولا سيما أنه على يقين بأن شبكاته وعملياتها المالية الخارجة عن النظام المالي هي هدف محتوم، وسيتم العمل على حرمانه من مصادر تمويلها غير الشرعي ومن اقتصادها الموازي الذي بناه خلال عقود من الزمن، وسيكون لاحقاً على مؤسساته الاجتماعية وحتى التعليمية أن تكون خاضعة للقوانين اللبنانية.
هدَّد نعيم قاسم اللبنانيين بأنه «نحيا معاً أو نموت معاً». فاته أنه لم يسألهم حين كان يشنّ الحروب ويتدخل في شؤون الدول ويزعزع استقرارها. مشكلة «حزب الله» أنه كان يريد أن يبقى متلطياً خلف الدولة، محتجزاً إياها، قابضاً على قرارها وعلى أعناق اللبنانيين، ويهدِّد بهز الاستقرار الداخلي وخلق الفوضى إذا لم يكن له ما يريد. هو اليوم يعود إلى هذا التهديد للداخل كي يُسمع «الخارج»، فيتفاوض «الخارج» مع الجهة الراعية له ويحصل منها على ضمانات، لا بل مكتسبات، مقابل الحفاظ على استقرار الداخل، ولكن عن أي استقرار يمكن أن يفاوض «حزب الله» ومَن خلفه، حين يكون لبنان واللبنانيون قد فقدوا كل مقاومات الحياة، بفعل «الحزب» وسلاحه ودوره الإقليمي، فبات العنوان اليوم هو «تسليم السلاح مقابل الحفاظ على المصلحة الوطنية لكل فرد لبناني». لا يكمن الخوف فقط من تصادم «حزب الله» مع الجيش اللبناني، وإن كان لديه حاضنة شعبية قوية من مختلف الطوائف، بل أيضاً من تصادم اللبنانيين السياسي والشعبي مع «الحزب» حين تُقفل أمامهم كل سبل الحياة بسبب «وباء» هذا السلاح، وتحاصرهم الإجراءات العقابية على لبنان، وتخفق الدولة في استكمال رسم الخاط الفاصل بينها وبين الدولة وبين السلاح الشرعي وغير الشرعي. أما التهويل بالشارع والتوجّه نحو السفارة الأمريكية في عوكر، فقد يكون من الأحرى التفكير بما إذا كان أنصار «الحزب» قادرين على تجاوز خطوط الطيونة، تلك الخطوط التي كانت سائدة أيام الحرب الأهلية ولا تزال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب