ثقافة وفنون

الروائي المغربي البشير الدامون: ينبغي أن تكون هوية الكاتب الانتماء للإنسانية

الروائي المغربي البشير الدامون: ينبغي أن تكون هوية الكاتب الانتماء للإنسانية

حاوره: عبد اللطيف الوراري

يشهد الإنتاج الروائي المغربي سيرورة حياة متجددة؛ فإلى جانب تعدد المساهمين المتحدرين من حقول ومهن متباعدة، يغتني هذا الإنتاج الجمالي بأفكار جديدة وتراث شعبي وتجارب ومخيالات محلية متنوعة، ومن جغرافياتٍ كانت إلى وقت قريب هامشاً، وهو ما يُمثّل خريطة طريق يشقها بثبات جيلٌ مختلفٌ ومُغاير. لا نعمى داخل هذه الحيوية، عن التراكم النصي كمّاً ونَوْعاً، ولا عن الحساسيات الجديدة التي ابتدعها في ما يشبه محفلاً ناصعاً لصراع القيم والأساليب والرؤى، والأهمّ ـ نتيجة ذلك – تجديد معمار الرواية المغربية بكيفيات لا تخلو من الإبداع وابتكار طرائق جديدة في البحث عن المعنى والنظر إلى العالم، وسط صخب الأسئلة ومآزق النظرية.
ضمن الاتجاهات الأساسية التي تلوذ بها الرواية المغربية راهنا، يمكن أن نذكر السرود التي تستعيد الواقعة التاريخية وتتخذها ذريعةً لتحليل الواقع المعاصر ونقده، على نحو يفصح عن التزامها بهموم المجتمع وتعرض مشكلاته التي تزداد تعقيداً مع ما يدعوها ذلك إلى إبدال جديد في المنظور السردي وآليات إنجازه، مثلما يفصح عن رغبتها في بحث مسألة الهوية، ضمن واقع سوسيوثقافي متدافع يتسم بالاضطراب والتشظي.
ارتبط مشروع الروائي البشير الدامون بهذا الاتجاه، الذي أملته معايشته لجدلية «الواقع المتلاطم والعنيف والأليم» كما يذكر، وإعادة قراءة تاريخ حاضرة تطوان وأحوازها فنّيا، عبر اختيار المادة التاريخية بعناية، ومعالجتها وتمثيل أحداثها بمسؤولية، كأنه يريد أن يبني عليها من أجل التعبير عن تجربته المعاصرة، في تماسّ مع الذاكرة الإنسانية، من أجل صونها وإثرائها. وفي هذا السياق، تنزع رواياته التي انتظمت في الصدور خلال سنوات الألفية الثالثة، إلى مهمة النقد؛ نقد التاريخ والسلطة وقيم الثقافة والمجتمع، بعد تراجع المنابر التقليدية، التي كانت تُناط بها مهمة الإصلاح، بقدر ما تضطلع بوظائف التنوير ومراجعة أعطاب الحياة السياسية والاجتماعية، والمساهمة في النقاش الدائر حول مجموع المشكلات العويصة التي تتخبط فيها مجتمعاتنا.


* جئت من خارج حقل الأدب، وحين نشرت روايتك الأولى «سرير الأسرار» اكتشف القارئ صوتا جديدا في مغامرة الرواية المغربية. لِمَ تأخّرت في النشر؟ وهل كان الدافع إلى السرد شأنا شخصيا لتصفية حسابك مع ذاكرة الطفولة؟ أم تحت تأثير واقع متلاطم كان يُلحّ عليك وقتئذٍ؟
ـ بالفعل فقد كانت دراستي في العلوم الاقتصادية في المرحلة الثانوية والجامعية، وبعد أن اشتغلت بإدارة البريد حصلت على بكالوريا جديدة في الأدب، والتحقت بكلية أصول الدين ثم بكلية الآداب شعبة الأدب الفرنسي. بين هذا وذاك كنت أقضي جل أوقات فراغي في القراءة، خاصة قراءة الروايات وبعض كتب الفكر. لم أكن أفكر يوما في أن أكون كاتبا، إلى أن عشت تجربة نفسية قاسية؛ كنت أقطن في حي شعبي في تطوان، حيث يسود الفقر ويعم العنف المجاني. غير بعيد عن زقاقنا، كان يوجد منزل للدعارة الرخيصة، ومن هناك كنا نعايش العديد من الإساءات المفجعة للمرأة، وفي ليلة تعرضت إحدى النساء لاغتصاب وتعنيف شنيع، حيث تم حشو قطع زجاج مكسورة في أعضاء من جسدها. هزّني هذا الحدث المؤلم فجلست يوما أحاول أن أخفف عن نفسي ما أحسه من ألم، فكانت بداية روايتي «سرير الأسرار» وبداية الكتابة لدي.
أظنّ أن كلتا الحالتين لعبتا دورا في التجائي للكتابة؛ معايشة الواقع المتلاطم والعنيف والأليم، كانت سببا أولا، لأن أتوجه للكتابة لأحكي عن فظاعة هذا الواقع، ثم محاولة التفريغ مما حملت النفس من جراح في الطفولة في تلك البيئة الخربة، مثل معظم الفضاءات الفقيرة والمعطوبة في دول العالم الثالث، كانت سببا ثانيا، طبعا بالإضافة إلى أسباب أخرى منها ما أدركها ومنها ما لا أستطيع إدراكها.
* ارتبط مشروعك الروائي منذ البدء بإعادة قراءة تاريخ مدينة تطوان فنّيا، كما في «سرير الأسرار» و»أرض المدامع» و»هديل سيدة حرّة». إلى أي مدىّ يستطيع الروائي توظيف التخييل السردي لتمثيل الأحداث التاريخية، دون أن يلحق بها ضرراً؟ أو كيف يمكن أن يرجع إلى حدث تاريخي ولّى ويبني عليه من أجل التعبير عن تجربة معاصرة؟
ـ كل رواياتي، حتى التاريخية منها، اتخذت مدينة تطوان وأحوازها فضاء لها. أعتبر مدينة تطوان منجما للأحداث والحكايات؛ فهي مدينة تمتد جذورها في عمق التاريخ، وعرفت حضارات مختلفة؛ وعاش فيها أمازيغ ويهود ورومان وعرب مسلمون وموريسكيون ومسيحيون إسبان… كما أنها مدينة يتعايش فيها فقر مدقع وغنى فاحش، ما يخولها لأن تكون مصدرا لمادة حكائية درامية غنية ومتنوعة، سواء كانت تاريخية أو اجتماعية أو نفسية. الكتابة مسؤولية، وأرى أنّ على الكاتب أن يحيد ما أمكن عن نظرته الانفرادية للحياة، وأن لا يكون منحازا لأيديولوجيا معينة، وأن تكون هويته هي الانتماء للإنسانية، وبالتالي أن لا تمثل كتاباته ضررا بالأحداث التاريخية، وأن يحافظ، صونا للذاكرة الإنسانية، على سرد الأحداث التاريخية الكبرى بموضوعية ونزاهة؛ فمثلا في حالة هزيمة ما، لا يمكن للكاتب أن يقلب الأحوال ويجعلها انتصارا، أما عن مشاعر وأحاسيس المحكي عنهم في الكتابة التاريخية، فالكاتب يملك مساحة واسعة ليكيفها حسب تصوره لبناء الشخصيات نفسيا واجتماعيا. في ما يخص كتاباتي التاريخية، فإنّي أقوم باختيار المادة التاريخية بعناية، بل إني أكتب عن شخصيات لم يُوفِهم التاريخ حقّهم في نظري؛ الأميرة أورانيا والقنصل بطليموس والكنز الغائب في رواية «أرض المدامع»، السيدة الحرة الأميرة الاستثنائية في التاريخ العربي والإسلامي في رواية «هديل سيدة حرة»، الأديب والمفكر والفيلسوف والسياسي والفقيه والصوفي لسان الدين ابن الخطيب، الذي قتل غدرا بتهمة الزندقة والإلحاد، في سيناريو «لسان الدين ابن الخطيب ذو القبرين أو خريف غرناطة»، وما أرغب فيه عبر هذه الكتابات التاريخية هو أن أستشرف المستقبل، ربما حتى لا يكون أمْسُنَا أمْسا، ويومنا أمْسا وغدنا أمْسا.
* تنزع رواياتك إلى مهمة النّقد فيما هي تنحدر إلى الهامش الإنساني وجادّاته الهشة؛ نقد التاريخ والسلطة وقيم الثقافة والمجتمع، كما في رواياتك «حكاية مغربية» و»زهرة الجبال الصمّاء» و»في انتظار الأطباق الطائرة». هل يمكن أن تساهم مثل هذه السرديّات النقدية، لاسيما بعد تراجع المنابر التقليدية التي كانت تُناط بها مهمة الإصلاح، في وظائف التنوير، ومراجعة أعطابنا السياسية والاجتماعية، وفي النقاش الدائر حول مجموع المشكلات العويصة التي تتخبط فيها مجتمعاتنا؟
ـ الكتابة بالنسبة لي هي صرخة أرغب عبرها في أن يشاركني الآخرون (القراء) أحاسيسي وآمالي. إنها تفريغ لما تتخبط فيه النفس. قد تكون دراستي للعلوم الاقتصادية لعبت دورا في توجُّهي إلى الأدب، حيث كانت دراسة نظريات التخلف وكيفية الخروج منه تشكل اهتمامي، وربما أمام عجز هذه النظريات عن بناء تصور قادر على الخروج من مأزق التخلف، لأسباب سياسية وتاريخية واجتماعية وحتى بشرية، اندفعت إلى الأدب علني أجد فيه ما يخفف عن نفسي أثقالها. تخلفنا وما يخلقه التخلف من مآسٍ إنسانية جعلني أكتب سرديات نقدية للحياة.
الرواية، بالنسبة لي، عليها أن تكون حاملة بين طياتها وبطريقة غير مباشرة رسائل إنسانية بكيفية فنية وأدبية. الرواية ليست وعظا وليست حكاية فقط تحكي عن تصور بسيط لما يعاش. الرواية حمالة أسرار، وحمالة أسئلة تعيد التفكير فيما اعتبر مسلمات فكرية واجتماعية، كما أنها حمالة لقيم الجمال. الرواية التي تحكي حكاية دون هذه المقومات، قد تصلح لتكون نصّا لسيناريو تلفزيوني.
الرواية الجيدة هي التي تعتبر أن المتلقي قارئ نبيه، وأنه لن يغادرها بعد قراءتها كما دخلها، بل سيغادرها وهو يحمل قيما جديدة، ورؤى مغايرة تمكنه من مساءلة السائد والثقافات المهيمنة. الرواية التي لا تترك بصمة في ذهن المتلقي وتدعوه للنبش في ما يجعله يفكر من جديد وبطريقة مغايرة، ليست رواية جيدة.
*من داخل مختبرك الإبداعي، ما الإكراهات السردية التي يمارسها الشكل الروائي عليك (اللغة، بناء الشخصيات، إيقاع السرد..)، داخل التوتر بين ما هو تاريخي- واقعي، وما هو فنّي- تخييلي؟
ـ بالنسبة لي، الكتابة مخاض صعب وأَجَلُّ المتع هي متعة القراءة. وأرى أن الإكراهات السردية التي يمارسها الشكل الروائي عليّ، تتمثل في كيفية بناء الشخصيات وضبط العلاقات بينها، وبناء الحكاية وإيقاع السرد وصياغة الحبكة واختيار المادة الحكائية وطريقة التوليف.. في محاولة لإنتاج نص متماسك ومتناسق ولِمَ لا هرموني، لأن الأهم في الكتابة الروائية هو كيف نكتب وليس ماذا نكتب فقط، من بين الإكراهات التي أعيشها كذلك بعد الكتابة والتوليف والرقابة الذاتية، والتي عادة ما تأخذ مني عدة شهور المراجعة اللغوية، وقد تأخذ مني وقتا مهما وتدفعني للاستشارة مع الأصدقاء أساتذة اللغة والآداب العربية.
*انفتحتَ على عالم السينما، إمّا بكتابة السيناريو أو بتحويل بعض روايتك إلى أشرطة درامية. ما الذي تغنمه من العلاقة بين الرواية والسينما؟ وهل تضيف هذه التجربة إلى مشروعك ما هو مأمول منه؟
ـ تجربتي الكتابية مع السينما، أي كتابة السيناريو، كانت صدفة بعدما طلب مني أحد المخرجين أن أكتب له سيناريو «تيلي فيلم» من اختياري، فكان فيلمي التلفزيوني الأول «باب الشيطان» الذي لاقى ترحابا كبيرا من قبل المتلقين، شاركت بعد ذلك في صياغة حوار سيناريو الفيلم السينمائي «سرير الأسرار» الذي اقتبس من روايتي التي تحمل العنوان نفسه، وكتبت سيناريو تلفزيوني لسلسلة «مرجانة» مقتبس من روايتي «أرض المدامع»، كما كتبت سيناريو لفيلم سينمائي بعنوان «الحرة»، وهو مقتبس من روايتي «هديل سيدة حرة»، وما زال المخرج يبحث عن تمويل له. كما أنني كتبت السيناريو لسلسلتين تلفزيونيتين لمجموعة من الأفلام الدرامية والكوميدية (بعضها بمعية السيناريست عبد السلام بنعمر) عُرضت في القناة الأولى والثانية المغربيتين، وقد صنفت كل هذه الأعمال ضمن الأعمال الأكثر مشاهدة ومتابعة. السينما فن ماتع وساحر، وفي رأيي إنها من بين أهم الفنون التي اخترعتها البشرية، ويتجلى هذا السحر في كوننا نعلم أن ما نراه في السينما ـ الأفلام التخييلية – هو صناعة، وأن عددا من الكاميرات والأجهزة التقنية والأشخاص يقفون خلف كل مشهد، ورغم ذلك ننفعل؛ نتأثر، نفرح أو نحزن، وقد نحمل أثرا ما من جراء ذلك طيلة حياتنا، وذلك هو سحر الحكي عبر الصورة، سحر السينما. لقد ساهمت مشاهدتي للأفلام العديدة في تكويني الجمالي والمعرفي وذوقي الفني، وفي رؤيتي للحياة، وبالتالي فهي ساهمت وتساهم في تكوين مشروعي الإبداعي إن كان ممكنا تسميته كذلك. السينما بالنسبة لي بقدر ما هي مجال جميل ورائع للمتعة، هي كذلك مجال للمعرفة ومحاولة لفهم العالم والحياة، وأخص بالذكر هنا أفلام المؤلف.
*تاريخ الرواية المغربية حديث العهد بالقياس إلى نظيرتها المشرقية التي كانت تقع تحت تأثيرها. هل استطاعت هذه الرواية أن تحقق التراكم النوعي والكمي ما يجعلها تحوز لنفسها خصوصيات جمالية وثقافية ما؟
ـ بالفعل الرواية المغربية هي حديثة العهد مقارنة بنظيرتها العربية المشرقية، وكلاهما حديثا العهد مقارنة بالرواية الغربية. أظن أن ظهور الرواية ارتبط بتقدم المجتمعات وتطور العلاقات الاجتماعية وبانتشار القراءة، حيث إن القراءة صارت لدى الشعوب المتقدمة ظاهرة مجتمعية شائعة، حتى إنه، كما هو معروف، أصبح القراء ينتظرون صدور النصوص الروائية ويقفون لساعات في طوابير لاقتنائها، وهذا يوضح مدى رقي مجتمع ما، ويتجلى هذا الأمر بصفاء عند مقارنة مبيعات الروايات الورقية أو الإلكترونية في العالم المتقدم بالعالم العربي وبالمغرب، والمسألة في نظري هي مسألة موضوعية تبين الفرق بين مجتمع متقدم ومجتمع متخلف. انطلاقا مما تمت الإشارة إليه، يمكنني القول إن ما راكمته الرواية المغربية يظل ضعيفا على مستوى الكم، وكذلك على مستوى الكيف مقارنة ببلدان أخرى (فرنسا على سبيل المثال)، بحيث أن عدد الروايات التي نشرت في المغرب منذ الإصدارات الروائية الأولى، لا يتعدى ما تنشره فرنسا في سنة واحدة، وهذا الفرق يبقى منطقيا عند رؤية البنية الاجتماعية والثقافية لكل بلد. لكن أرى أن الرواية المغربية تمكنت بالفعل من أن تحوز خصوصيتها الثقافية التي تتجلى بوضوح في معظم الكتابات الروائية المغربية، أما الخصوصية الجمالية فأظنُّ أنه يتعين على نقاد أكفاء العمل على إبراز هذه الخصوصية مقارنة بالإبداعات الروائية العالمية.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب