ثقافة وفنون

فيلم «حادث بسيط» لجعفر بناهي: العدالة بين الانتقام والشك الأخلاقي

فيلم «حادث بسيط» لجعفر بناهي: العدالة بين الانتقام والشك الأخلاقي

نسرين سيد أحمد

كان – كيف يمكن لفيلم أن يحفر عميقاً في جراح أمة، وأن يعيد طرح أسئلة العدالة والذاكرة والمعاناة من دون أن يمنح أي إجابة؟ في «حادث بسيط»، يغوص جعفر بناهي في أكثر زوايا المجتمع الإيراني إيلاماً، حيث تتحوّل الحكاية التي تبدأ كقصة انتقام شخصي، إلى مأزق إنساني وأخلاقي معقّد، يورّط الجميع بلا استثناء. لا مساحة للراحة في هذا السرد المكثف والمحموم، ولا حلول جاهزة في مواجهة نظام يتغذى على القهر. وبين مشهد وآخر، يتصاعد السؤال: هل تُمنح العدالة للمظلومين حقاً، أم أن الألم وحده هو ما يُورث؟
في أحد الطرق على مشارف طهران، يصدم رجل يقود سيارته بصحبة أسرته كلباً، وتصاب السيارة إثر ذلك بالعطب. يذهب الرجل، الذي يبدو عادياً بل لطيفاً يمازح طفلته الصغيرة،  إلى مستودع لإصلاح السيارات. وهناك يسمع وحيد، الرجل الأربعيني الذي يصلح السيارات، صوت عكاز أو ساق اصطناعية تدق الأرض. في لحظة خاطفة، تنفجر ذكرياته الموجعة التي أبقاها حبيسة ذاته منذ أعوام. صوت تلك الساق الاصطناعية تحديداً، مقرونا بنبرة الصوت ذاتها لصاحب السيارة، التي تقطعت بها السبل، هو صوت جحيم وحيد، الذي يتردد في كوابيسه ولا يمكنه نسيانه. إنه صوت سجانه وجلاده ومعذبه في المعتقل، حين كان ينكل به وهو معصوب العينين، ولكنه يسمع بوضوح صوت السجان ووقع ساقه الاصطناعية على الأرض.
يدفعه الصوت إلى فعل لا عقلاني: يختطف الرجل، ويقوده إلى قلب الصحراء، حيث يحفر قبراً لدفنه فيه حياً، لكن الضحية ليس الجلاد ولا يملك عقليته ولا قسوته، ولم يتجرد من الرحمة، أو من الرغبة في تحري الحق والعدل.
وحيد رجل لا يريد أن يتحول إلى وحش طاغٍ، كما كان معذبه، بل يريد للحق أن يأخذ مساره وللعدالة أن تتحقق، ولا يريد أن يكون ظالما كمعذبه وجلاده. الرجل المختطف ينكر كل الاتهامات وينفي أنه يد للنظام يستخدم لتعذيب من يعارض، أو يحتج، ويقول إن إصابته التي بُترت بسببها ساقه حديثة، وإنه لا علاقة له بالمؤسسات الأمنية، يقف وحيد عاجزا عن التيقن هل أمسك بمعذبه أخيرا، أم أن غضبه قاده للقصاص من شخص بريء. ينطلق وحيد، بعد أن يخبئ الرجل في  صندوق خشبي في شاحنته، في رحلة عبر طهران للبحث عن اليقين، وعن رفاق له في المعتقل تجرعوا التعذيب والتنكيل على يد الرجل ذاته، علّهم يتعرفون عليه ويؤكدون شكوكه. ما يبدأ كمحاولة للتحقّق من هوية الحبيس في السيارة يتحوّل إلى رغبة جماعية في القصاص، حيث ينضم إليه آخرون ممن تجرعوا التعذيب. من بينهم مصورة فوتوغرافية تحاول بناء حياتها بعد السجن، وعروس ترفض طيّ صفحة الماضي في يوم زفافها، بعد أن نكل بها الرجل الذي ينقر الأرض نقراً بساقه وعكازه، ورجل غاضب لا يعرف سوى لغة القصاص. تتباين مواقفهم، بعضهم يرى في القصاص راحة وعدالة، وآخرون يرون فيه تكراراً لمنطق النظام القمعي ذاته. وبين الحماس والخوف، تبرز الحقيقة الأهم: لا أحد يعرف الحقيقة كاملة، ولا أحد يملك حق الحكم.
بناهي، الذي أخرج في السنوات الماضية أفلاماً صوّرها سرا أثناء حظره من العمل، يعود هنا بفيلم يحمل من التوتر الكثير، ويحمل نزعته الدائمة للبحث عن الحرية والعدالة. صور العديد من مشاهد  الفيلم في الصحراء القاحلة، التي تشبه الخواء النفسي والألم البالغ الذي يسكن الشخصيات. حتى السيارة، التي طالما استخدمها بناهي كمكان سردي محايد في أفلامه السابقة، تتحول هنا إلى مكان خانق متوتر، يحاكي زنزانة السجن، تنقل الشخصيات بين لحظات المواجهة والاعتراف والانهيار. اللافت في «حادث بسيط» أنه لا يقدّم الجلاد بشكل مباشر. يبقى الجلاد مختطفا حبيس صندوق في جوف الشاحنة، بينما يتركز السرد حول ضحاياه. يركز الفيلم على رغبة الضحايا في تحري الحقيقة، وفي رغبتهم ألا يتحولوا إلى كائن ظالم قاس مجرد من الإنسانية مثل جلادهم.


بناهي لا يطرح إجابات، بل يصنع مرآة متشظية نرى فيها أنفسنا ونحن نرتبك أمام الشر، والانتقام، والتعافي المستحيل. في «حادث بسيط» لا يكمن الجحيم فقط فيمن عذبك، بل في اضطرارك للعيش معه في الحي ذاته، أو داخلك أنت، حيث تبقى آثار تعذيبه كجرح لا يندمل في الروح.
الفيلم لا يخلو من الرمزية، لكنه لا يتورّط في الوعظ. اللحظات التي يتصرف فيها الضحايا، وكأنهم يملكون مفاتيح الحق المطلق، تُصوَّر ككوميديا سوداء عبثية. في أحد المشاهد، يقترح أحدهم أن قتل الرجل، حتى لو كان بريئاً فذلك سيمنحه الشهادة ويضمن له الجنة، كما لو أن العدالة يمكن تأمينها بمنطق الجلادين أنفسهم.
لكن وسط قتامة الرغبة في القصاص ورغم الظلم والتنكيل الذي يتعرض له أشخاص لم يقترفوا شيئاً سوى المطالبة ببعض الحرية والعدالة، تنبت لحظات من التعاطف الإنساني، تربك الجميع، بمن فيهم وحيد نفسه. صوت فتاة صغيرة تطلب النجدة من والدها، الذي يراه الجميع جلادا بالغ القسوة تفجر نبعاً من العذوبة والتعاطف في قلب وحيد ورفاقه. يبدو لنا عنوان الفيلم ساخرا إلى حد الإيلام، فحادث بسيط جداً يمكن أن ينكأ جراحا لم تندمل قط، ويضعنا أمام معضلة أخلاقية تكمن في كيفية مواجهة الظالم ونيل العدالة.

«القدس العربي» :

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب