عن الجدل حول الذكورة الإسرائيلية في عزّ الحرب

عن الجدل حول الذكورة الإسرائيلية في عزّ الحرب
وسام سعادة
كاتب وصحافي لبناني
كارول جيليجان، فيلسوفة وعالمة نفس أمريكية عمرها 87 عاماً اليوم. اشتهرت في العقود الماضية بطروحها التي تبنى على الاختلاف الجندري بين «أخلاقيات العدل» الأقرب إلى ذهنية الذكور، وبين «أخلاقيات الاهتمام» أو «الرعاية» الأقرب إلى ذهنية الإناث. أخلاقيات «العدل» جافة، قوامها المفاصلة بين تصورات مجردة عن «الحقوق»، في حين أن أخلاقيات الرعاية مبنية على تحسس ملموس لمعاناة الآخرين وما يلزم بالفعل القيام به لتأمين شروط العيش بكرامة.
سال حبر كثير مع وضد قسمتها الجندرية هذه للأخلاق في الماضي، وهي مالت مع الوقت إلى تشكيل قالب نظري أكثر تعقيداً أو مراوغة من طرحها الأول. وهو كطرح لا يُفهَم أساساً إلا في سياق تحسّس جيليجان من أن مبحث الأخلاق يطغى عليه اللون الذكوري، وأن ادعاء ترفع هذا المبحث عن الاختلاف الجندري هو جزء من عدة الشغل البطريركية، وأنه إذا اعتمد منظار «أخلاقيات العدل» وحده فهذا سيسمح بانتشاء نظريات من قبيل أن الذكور هم أكثر أخلاقية بالسليقة من النساء، وهو ما ترفضه تماماً جيلجيان، بل تقلبه لصالح ترجيح المنحى الأخلاقي أكثر للنساء، لأنها تقدّم أخلاقيات الاهتمام والرعاية والمواكبة والرحمة على أخلاقيات العدل الجافة والباردة، بل الصارمة، بل المستدعية للعنف.
تخطّت فلسفة الأخلاق منذ وقت غير قليل حدّية هذا الأخذ والرد بين طرح جيليجان وبين ناقديه، لكنها طورت بشكل أو بآخر فهماً جديداً لما يسميه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير «أخلاقيات المسؤولية» في مقابل «أخلاقيات الاقتناع».
قد لا تنفع جيليجان لتفسير دوافع الهمجية الإسرائيلية، لكنها تنفع، على الأرجح، لفهم المخيال المرافق لهذه الهمجية
بالنسبة إلى فيبير الاختلاف حاصل هنا بين تصور أخلاقي ينهمّ فيه المرء بأن ينفّذ ما تمليه عليه قناعاته، وبين تصور أخلاقي تعطى فيه الأولوية للتبعات.
بالمعنى الفيبيري «أخلاقيات المسؤولية» أكثر بروداً من «أخلاقيات الاقتناع»، أما بالنسبة إلى الفيلسوفة النيويوركية فأخلاقيات المسؤولية، من حيث يحرّكها نازع الرعاية والاهتمام بمن يحتاج لهذه الرعاية وهذا الاهتمام، هي الأكثر دفئاً.
ما كان الحديث ليجرنا إلى جيليجان وفلسفتها ومنظارها السيكولوجي والأخلاقي والنسوي، سوى لأن مقابلة لها مع يائيل بولاك حلاق في جريدة «هآرتس» أثارت موجة من الحنق والاستياء في إسرائيل.
فقد شدّدت جيليجان في المقابلة على أن ما حصل مع هجمات 7 أكتوبر أصاب على نحو حاد «وإذلالي» مركّب الذكورة الإسرائيلي، وأن هذه الذكورة الجريحة لا يمكن تحييدها جانباً لفهم السعار وحجم العنف ضد قطاع غزة.
الردود على كلامها اتسمت بالنقمة، من الموقع الإسرائيلي، على اليهودية الأمريكية التي تحاضر من بعيد، والتي تحاسب إسرائيل من زاوية تقسيمها العنجهي للأخلاقيات بين تلك المبنية على «العدل» المجرّد وبين تلك التي تقصد العناية والرعاية للأفراد والفئات التي تحتاج إلى ذلك.
بعض من الهزل هنا أن هذا المنطق في الرد على جيليجان يتصرف كما لو أن إسرائيل سدّدت قسطها من «أخلاقيات العدل» وبقي عليها التأهل «لأخلاقيات الرعاية».
أيضاً، جرى التهديف على فكرة جيليجان بحجة أنها تسعى إلى دق إسفين بين مركب ذكورة جريح يتسلح بالتصور الإسرائيلي الرجولي «لأخلاقيات العدل»، أو القصاص اللامحدود ضد أهل غزة، وبين الحراك الذي يعطي الأولوية داخل إسرائيل لتحقيق الانفراج في ملف الرهائن، وسيكون في هذه الحالة أقرب للتمثل بأخلاقيات العناية ذات النفحة النسوية. فبمعنى ما، أقامت جيليجان تعارضاً خبيثاً بين المنظومة القيمية للجيش وبين المنظومة القيمية للمجتمع المدني داخل إسرائيل.
كذلك، إذ لم تعد معزوفة «دحض الاستشراق» كيفما كان حكراً على العرب، جرى رمي منظار جيليجان بهذا الاستشراق، وبعدم قدرتها جراء ذلك على وضع نفسها مكان النسوة الإسرائيليات المنكوبات في سديروت وسواها، لا بل التواطؤ في مكان ما مع تصور «فحولي» مضمر لمقاتلي حماس.
وإلا فما معنى أن الهجمات هذه أذلّت الذكورة في إسرائيل، إن لم تكن تهويماً بالذكورة الفلسطينية؟ جنباً إلى جنب مع هذا النوع من الردود الفظة على جيليجان يحضر الصنف الاستشراقي المحض. من نوع أن ثنائية العار والشرف هذه يمكن الاستعانة بها لتفسير سلوكيات الفلسطينيين والعرب، في حين أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي هو مجتمع عقلاني حديث يحدّد عدوه ونطاق العداوة ومآلها على أساس علمي بارد وليس على أساس ذكورة جريحة مذعورة، مرتعدة من «مركّب إخصاء» ومسعورة جراء ذلك ضدّ الفلسطينيين اشتهاء لتجريدهم من الفحولة!
لا قيمة علمية جدية لما قالته جيليجان لهآرتس في نهاية المطاف. فمشكلة هذا النوع من المقولات أنها غير قابلة للتخطئة، إذا ما استعدنا منهج كارل بوبر، وبالتالي ما هو غير قابل للتخطئة غير قابل للتحقق من صحته، ومداها، ومدة صلاحيتها.
في الوقت نفسه، أن تذهب جيليجان إلى التفكير بمركب الذكورة المصدوم في إسرائيل، وأن يكون الرد عليها محتقناً ويعطي حيثية لكلامها بشكل أو بآخر، فهذا يجرنا إلى بعد أساسي، تشدّد عليه مؤرخة التحليل النفسي اليزابيت رودينسكو في كتابها «عود إلى المسألة اليهودية».
فمنظار رودينسكو يشدد على أن الانتقال من معاداة اليهود على أساس ديني إلى معاداتهم على أساس قومي حصل بالتدريج طيلة العصر الوسيط، وأن جزءا أساسيا من هذا الانتقال تحقق من خلال ربط اليهود في نهايات العصر الوسيط بالعمل الدؤوب على تشويه الاختلاف بين الجنسين وترويج سفاح القربى، ووصم ذكورهم بالخنثوية والمثلية ونسائهم بمعاشرة البهائم، واتهام اليهود ككل بتجنيد المصابين بالجذام لحسابهم، لأجل تسميم الآبار، ناهيك عن قتل الأطفال لعجن فطير الفصح بدمائهم.
انتشرت هذه الاعتقادات الشعبية والأفكار المصاغة المساندة لها قبل ظهور اللاسامية الحديثة، وغرفت هذه الأخيرة منها، وبخاصة مع انتشار نظرية الأعراق.
فقد انقسم اللاساميون اجمالاً في زمن نظرية الأعراق هذه بين مدرستين، واحدة ترجع اليهود إلى عرق بعينه، الساميون، وثانية ترفض اعتبارهم عرقاً، بل تندد بهم كفئة تعمل على خلط الحابل بالنابل بين الأعراق و»تلويث» أرقاها. هذا النوع من اللاسامية كانت الأكثر جذرية، ومنه خرجت النازية.
في الوقت نفسه، استعادت اللاسامية فكرة «اليهودي الخنثوي»، لكن اللاسامية الجذرية، المؤدية إلى النازية، زادت عليها أن هذا «اليهودي الخنثوي» يريد إخصاء الرجل الآري.
الحركة الصهيونية نهضت في المقابل على تصور لا يقضي برد كل هذه الثقافة اللاسامية إلى جملة خرافات، بل إلى الإقرار بأن الحياة في الشتات أضعفت بالفعل مركب الذكورة لدى اليهود الرجال، وبالتالي تطبيع الكائن اليهودي، ليصير عادياً مثله مثل سواه، غير ممكنة إلا عندما يقيم في أرض قومية خاصته.
أكثر من ذلك، جرى التصور بأن الأرض، مناخها، نسيمها، زرعها، ثمارها، البحر الذي تطل عليه، كل هذا كفيل بمعالجة هذا الاختلال في مركب الذكورة. نغفل اليوم أن رواد الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر كانوا يشددون على الكينونة كالآخرين وليس على تمييز اليهود عن سواهم، وكانوا يربطون الحاجة إلى الأرض بالحاجة إلى التحرر من العادات السيئة التي اكتسبها اليهود في الشتات! أي أن الصهيونية انبنت على إقرار جدليّ غريب بأن جزءا من الدعاية اللاسامية ضد اليهود لها عناصر واقعية تسندها وينبغي السعي إلى الأرض لأجل بناء مجتمع يهودي معافى من «أمراض» الشتات.
هذا يمكن استدلاله سواء بسواء من كتابات ثيودور هرتسل، كما كتابات حنة ارندت. أما بالنسبة لحركة إقامة المجتمع اليهودي المهاجر فقد جرى النظر الى التنبت في الأرض كالصبار، والتكلم بلسان الأولين من العبرانيين، على أنه سيؤمن مداواة للاختلال في مركب الذكورة! جرت المناقضة بين الطابع التمغيطي للفظ في الييديشية، والطابع الحاسم، الواثق من ذاته، للنطق بالعبرية!
أكثر من هذا اتسمت أعمال الرواد في «أكاديمية بتسلئيل للفنون» مطلع القرن الماضي (تأسست عام 1906) برسم «اشتهائي» للأجساد العربية، وعلى افتراض أن الأجساد اليهودية «الصاعدة إلى صهيون» ستزداد التشبه بأولاد العم الأصحياء من العرب جيلاً بعد جيل.
لا قيمة علمية لكلام جيليجان حول مركب الذكورة الإسرائيلي الكسيح، كما لا قيمة علمية لكلام من نفس النوع يلاك حول الشعوب العربية وسلوكياتها. في الوقت نفسه، غياب القيمة العلمية المباشرة هنا لا يلغي، بل يذكر بتاريخية المسألة، وأن نشدان «الذكورة السوية» لعب دوراً أساسياً في الأيديولوجيا والبناء الصهيونيين. الذي تبدّل مع الوقت هو الارتداد عن منظار هرتسل «أن نكون كالآخرين» وامتداح خصوصية مطلقة، عادت معها «الخشية على الذكورة»، والنظر إلى المعركة على نحو بورنوغرافي على أنها بين ذكورة الإسرائيلي وبين ذكورة الفلسطيني، وأن الصراع على الأرض هو بشكل أو بآخر صراع على «من يخصي من». قد لا تنفع جيليجان لتفسير دوافع الهمجية الإسرائيلية، لكنها تنفع، على الأرجح، لفهم المخيال المرافق لهذه الهمجية.
كاتب لبناني