منوعات

عين دراهم التونسية: معقل الجمال وملهمة الشابي

عين دراهم التونسية: معقل الجمال وملهمة الشابي

روعة قاسم

تونس ـ
مدينة عين دراهم التونسية هي سحر الطبيعة والجمال في أبهى تجلياته بجبالها العالية وغاباتها الكثيفة الممتدة على مرمى البصر، وبحيراتها الجميلة التي تصب فيها الأنهار والجداول وعيون المياه العذبة والصافية. ينتاب زائرها شعور غريب للوهلة الأولى بأنه في جنة أرضية اقتُطعت من الجنان السماوية واندمجت في محيطها التونسي الخلاب المتنوع بشتى أشكال الجمال والسحر الرباني.

جغرافيا استثنائية

تقع مدينة عين دراهم في الشمال الغربي للبلاد ضمن سلسلة جبال خمير التي هي جزء من جبال الأطلس الشمال أفريقية، وتتبع إداريا ولاية جندوبة التي تتميز كل مدنها وقراها بجمال استثنائي وبأرض فلاحية خصبة وبتوفر كميات هامة جدا من المياه السطحية والجوفية. وتسجل عين دراهم درجات حرارة معتدلة صيفا بسبب الارتفاع عن سطح البحر وكثافة الغطاء النباتي والغابي. وتعرف المنطقة شتاء باردا ورطبا تُسجل فيه أعلى النسب الوطنية في تساقط الأمطار في حدود 1534 مليمترا، كما تشهد المنطقة تهاطل الثلوج بكميات كبيرة وتنزل فيها درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر.
وبالتالي توجد في عين دراهم لوحتان تشكيليتان رائعتان ومشهدان مختلفان بين الشتاء والصيف، وكلاهما يخطف الأبصار ويبهج الزائرين والسكان الذين عشقوا مدينتهم الخلابة وأحبوها وتحدوا قساوة التضاريس. ففي فصل الصيف تبرز الغابات الخضراء التي تغطي الجبال الشاهقة المترامية على مد البصر، وفي قلب الغابة شيدت المباني ذات الأسطح المثلثة والمغطاة أسقفها بالقرميد الأحمر، بينما شتاء تكسو الثلوج الجبال والغابات والمباني والطرقات والبحيرات وكل شيء، فيعم البياض في كل مكان في مشهد مهيب.
كما تضم عين دراهم ومحيطها سدودا وبحيرات جميلة على مدار العام، سواء في فصل الصيف والأشجار الخضراء تطوقها من كل حدب وصوب أو شتاء بياض الثلوج يكسوها مثلما يكسو محيطها. ورغم انخفاض منسوب المياه في هذه البحيرات في السنوات الأخيرة بفعل الجفاف الذي عرفته تونس وبفعل السطو غير القانوني على المياه المشتركة من قبل بعض البلدان، إلا أنها حافظت على جمالها وسحرها في تماسها مع الأشجار الوارفة.
وتتميز غابات عين دراهم بتنوع أشجارها على غرار الصنوبر والبلوط والفلين والزان والفرنان والزان المقلوب، وهو شجرة جاءت حصيلة تفاعل بين شجرتي الفرنان والزان وهو ما أنتج شجرة فريدة جمعت بين النوعيتين في آن واحد. كما توجد بغاباتها نباتات غابية مثل الإكليل والزعتر وأخرى طبية وعطرية تستخرج منها أجود العطورات التجميلية والزيوت الروحية التي يتم تصديرها إلى خارج البلاد.
وأصبحت أماكن كثيرة في هذه الغابات اللامتناهية التي تنعت بأنها رئة تونس، محميات طبيعية منها محمية «دار فاطمة» و«عين الزانة». وتعيش في غابات عين دراهم أنواع كثيرة من الحيوانات البرية منها الأيل التونسي صاحب القرون المتشابكة والذئب والثعلب والخنزير الوحشي، والطيور الجارحة مثل النسر والصقر. وهناك حيوانات أخرى كانت تعيش في هذه الغابات وانقرضت ومن ذلك أسد الأطلس، وقد شوهد آخر أسد أطلسي في تونس سنة 1920 بعد أن أرداه مستوطن فرنسي قتيلا، وكذلك القرد الشمال أفريقي والفيل الذي استعمله القرطاجيون في غزو روما والمدن الإيطالية وغيره.

عراقة تاريخية

يرجح البعض أن تسمية عين دراهم متأتية من اسم نبع مائي غني بالمعادن يوجد بتلك الربوع تتدفق منه المياه العذبة بألوان هذه المعادن وكأنها قطع نقدية (دراهم) وذلك في جغرافيا تُعرف بكثرة العيون المائية والمنابع الصافية الغنية بالمعادن. وتمثل هذه العيون مصدرا هاما لمياه الشرب بالمنطقة ويحبذ شربها سكان المدينة وكذا زوارها وعابري سبيلها وقد أقيمت حول بعضها اليوم الاستراحات والمطاعم والمشاوي لسماع خرير مياهها وهي تتدفق من باطن الأرض ولشرب قدر منها مع تناول اللحم المشوي مع مختلف أنواع السلطات التونسية.
وسكن الإنسان ربوع عين دراهم منذ العصور القديمة وكون تجمعاته السكنية، وحكم المنطقة القرطاجيون بالخصوص في طبرقة القريبة، وبعدهم النوميديون خصوصا في بيلاريجيا الملكية وشمتو المحاذيتين. وخضعت المنطقة لاحقا للاحتلال الروماني ثم لمملكة الوندال التي اتخذت من مدينة قرطاج عاصمة لها، ثم احتلها البيزنطيون إلى أن أخضع القائد الأموي حسان بن النعمان شمال تونس إلى الدولة الإسلامية الناشئة بعد أن سيطر قبله عقبة بن نافع على وسط وجنوب تونس وذلك بعد سنوات طويلة من محاولات الإخضاع بدأت في زمن الخليفة عثمان بن عفان وانتهت في بدايات العصر الأموي.
وحكمت المنطقة كل الدول الإسلامية التي عرفتها البلاد التونسية، أو أفريقية كما كانت تسمى في عهود الإسلام، وتحديدا منهم الأغالبة والفاطميون والصنهاجيون والموحدون والحفصيون والعثمانيون والمراديون والحسينيون. وخلال فترة الاستعمار الفرنسي تم إنشاء قاعدة عسكرية فرنسية في عين دراهم وتم جلب مستوطنين فرنسيين وتجهيز المدينة بمرافق عديدة لضمان توطينهم لكنهم رحلوا بالنهاية بعد استقلال تونس وانتفع التونسيون بتلك المرافق.
وللإشارة فقد تأسست في عين دراهم بلدية منذ سنة 1892 وهي من أولى البلديات التونسية ما يدل على عراقة الجانب المدني لهذه المدينة رغم وقوعها في قلب الغابات والجبال. وكانت قبائل خمير التي يتشكل منها أغلب سكان الجهة أول من تصدى لجيوش المستعمر الفرنسي وهي تدخل إلى التراب التونسي من الجزائر التي تحولت إلى مقاطعة فرنسية منذ 1830 ومنها تم احتلال المملكة التونسية بعد 51 عاما من التاريخ المشار إليه.

متعة الزيارة

تضم عين دراهم أماكن عديدة يمكن زيارتها ومن ذلك مبانيها الجميلة بطابعها المميز الخاص، بأسقفها المثلثة المغطاة بالقرميد الأحمر والتي بنيت على تلك الشاكلة حتى لا تعلق بها التساقطات سواء الأمطار أو الثلوج أو البرد، لأن المنطقة كثيرة التساقطات شتاء وأيضا في فصلي الخريف والربيع وإن بدرجة أقل. والقرميد الأحمر، الذي يميز مباني ربوع الشمال الغربي التونسي وليس فقط عين دراهم، هو من مواد البناء يصنع من الطين الذي يتم تحضيره في أفران خاصة، ويتم طليه بالرصاص والنحاس والرمل، وقد كان فيما مضى من الصناعات التقليدية الخزفية.
كما يمكن زيارة صخرة أبي القاسم الشابي وهي الصخرة المرتفعة في الجبل التي كان يجلس عليها شاعر الخضراء أبي القاسم الشابي ويتأمل في جمال الطبيعة فيبدع شعرا عذبا شهد بفصاحته وجمال صوره الشعرية القاصي والداني. والشابي هو أصيل قرية الشابية من ولاية توزر بالجنوب الغربي التونسي المعروفة بصحرائها وواحات نخيلها، وقد انتقل إلى عين دراهم بالشمال الغربي بعد أن نصحه الأطباء حين مرض بالاستفادة من هوائها ورائحة أشجارها العطرة فألهمته شعرا وتغنى بجمال الطبيعة في ربوعها وكانت سببا في إبداعه وشهرته.
ونقش على الصخرة اليوم صدر من بيت من قصيدة للشابي جاء فيه: «ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر» يقرؤه كل من ذهب إلى عين الماء التي تقع في أسفل الصخرة العالية ليروي ظمأه. وتقع الصخرة تحديدا بمنطقة فج الأطلال بعين دراهم حيث توجد أيضا إقامة كان يقضي فيها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة فترة من الوقت عندما كان يزور عين دراهم خاصة للعلاج بمنطقة حمام بورقيبة القريبة.
ويمكن زيارة قرية بني مطير وسدها وشلالها الجميل الذي تتدفق منه المياه العذبة والصافية سواء في فصل الصيف أو في الشتاء والأفضل في الفصلين معا لرؤية مشهدين مختلفين. كما أن لبحيرة السد سحرها الخاص، فهناك يشعر المرء بهيبة المكان وعظمته ورهبته مع الجبال العالية المترامية والبحيرة العملاقة والسد الكبير الذي يحول دون تدفق مياهها.
كما يمكن لزائر عين دراهم الاستمتاع بمعروضات الصناعات التقليدية من المنحوتات الخشبية والصناعات اليدوية الأخرى التي تحمل رائحة الغابة وعبق الأشجار التي صنعت منها. في هذه المحلات يحتار المرء ماذا سيقتني كهدايا وتذكارات تدفعه إلى التفكير في إعادة الزيارة مجددا كلما وقع بصره عليها، فالخيارات كبيرة والإبداع فاق الحدود.
وبإمكان زائر عين دراهم أيضا أن يتناول فطور الصباح أو الغداء أو أن يحتسي قهوة أو مشروبا وهو يستمتع بمنظر الغابة والجبال الشاهقة وسط الهدوء والسكينة، أو وهو يستمع إلى خرير مياه الينابيع والجداول وزقزقة العصافير. وتوفر مطاعم ومقاهي وفنادق عين دراهم هذه المتعة التي لا تضاهيها متعة أخرى وتمكن الزائر منها بأسعار تبدو في المتناول مقارنة بمناطق أخرى من العالم توفر خدمات مشابهة أو أقل قيمة مما توفره عين دراهم لزوارها.

أنشطة متنوعة

تتوفر عين دراهم على مسالك صحية ورياضية يمكن أن يمارس فيها الزائر المقيم في فنادقها السياحية كل أنواع الرياضة، من ركوب الدراجات والخيول والدراجات النارية الرباعية والمشي والعدو. كما تعتبر عين دراهم معقلا هاما للسياحة الرياضية والاستشفائية ففيها مركز هام لمعسكرات الأندية الرياضية والمنتخبات الذين يقصدونها من تونس ومن البلدان المغاربية ومن بلدان المشرق العربي والخليج والقارة الأوروبية.
فالارتفاع عن سطح البحر في عين دراهم يساعد على تحسين اللياقة البدنية للرياضيين في مختلف الاختصاصات، كما يساعدهم على الإعداد للمواسم الرياضية. ويساعد الرياضيين أيضا على تحسين لياقتهم نقاء الهواء في عين دراهم وتوفر المرافق اللازمة من ملاعب وقاعات رياضة وقاعات لتقوية العضلات واللياقة وحتى المحطات الاستشفائية.
كما أن مطار مدينة طبرقة القريبة يساعد الرياضيين والسياح الأجانب على الوصول إلى هذه الوجهة التونسية الخلابة في أفضل الظروف للابتعاد عن ضوضاء المدن الكبرى وعن التلوث الهوائي الذي يميز هذه المدن التي يفر منها رياضيوها إلى عين دراهم. وتتكامل المدينة بغاباتها الجميلة مع مدينة طبرقة ببحرها الساحر مع مدن بلاريجيا وشمتو وغيرها من المدن الأثرية بولاية جندوبة ومحميات مدينة غار الدماء لتشكل جميعا قطبا سياحيا تونسيا مندمجا ومميزا يختلف عن باقي الأقطاب السياحية الأخرى في البلاد سواء المختصة في سياحة البحر أو السياحة الصحراوية أو السياحة الثقافية والأثرية.
لذلك يطالب سكان هذه الربوع باستغلال منطقتهم سياحيا الاستغلال الأمثل بمزيد تطوير البنى التحتية وإعادة الحياة إلى المطار الذي توقفت رحلاته المنظمة والربط الذي كان له مع مدن أوروبية عديدة وذلك مع الثورة. حيث يكتفي اليوم بالرحلات الخاصة مثل رحلات الأندية والمنتخبات الرياضية القادمة من الخارج للتربص والإعداد، ورحلات الحج، وغيرها.
كما تجلب عين دراهم هواة الصيد من التونسيين والأجانب بالنظر إلى اتساع غاباتها وامتدادها على مساحات شاسعة، وإلى تواجد عدد لا يحصى من الحيوانات البرية والطيور المستقرة والمهاجرة بها. لذلك فهي قبلة الصيادين ووجهتهم المفضلة التي يجدون فيها ضالتهم ولا يملون من التنقل بين أحراشها الغابية وتضاريسها الجبلية الوعرة وجداولها المتدفقة التي ألهمت الشابي شعرا عذبا وهام بها عشقا.

مهد السياحة البيئية

وتعتبر عين دراهم من أبرز أقطاب السياحة البيئية في تونس خاصة في الشمال الغربي الذي يرتكز على السياحة الجبلية والبيئية. ومن أبرز الاقامات التي تعتمد السياحة البيئية أو البديلة نجد إقامة «ديسكوفري عين دراهم» أي اكتشف عين دراهم التي تقع في قلب هذه المنطقة وتتمتع بإطلالة ساحرة على الجبال والغابات الممتدة والتي يخيل للمرء وكأنها في تماس أبدي مع السماء. ومن وحي الطبيعة الخالصة لعين دراهم تم بناء هذا النزل ليكون بمثابة البوابة الكبيرة إلى عالم الغابات بعيدا عن صخب الحياة وضوضاء المدينة. ويتحدث مدير إقامة ديسكوفري عين دراهم نعمان عزيزي المختص في التصرف في النزل والسياحة في حديثه لـ«القدس العربي» عن أهمية السياحة الإيكولوجية في عين دراهم باعتبارها مهد هذا النوع من السياحة بالنظر إلى طبيعتها الغابية. ويوضح بالقول: «لدينا سياحة المؤتمرات والأنشطة الموسمية التي تتماشى مع السياحة مثل موسم الصيد البري وذروة موسمنا السياحي في الشتاء أي في موسم الأمطار والثلوج حيث تزدهر خلاله الأنشطة الرياضية مثل التخييم والتجوال في الغابات». ويتابع محدثنا: نوفر كل الخدمات الارشادية السياحية للجولات الغابية. وكذلك خدمات في الرياضة الجبلية مثل الدراجات الجبلية وقمنا بتأمين المسالك الجبلية بالشراكة مع منظمات عالمية مثل المنظمة العالمية لصون الطبيعة من أجل تثمين المسالك الغابية وحمايتها والتعريف بها وتوفير الخدمة للسائح بما فيها المرافق والمرشد الغابي. أغلب المسالك الجبلية تقع بين عين دراهم وبني مطير مرورا بشلالات بني مطير والعين الاستشفائية حمام القوايدية. وهناك مواقع وبحيرات جبلية فيها إطلالة بانورامية وعيون جبلية مثل بحيرة الملاح بين طبرقة وعين دراهم والعيون الجبلية الاستشفائية عين القوايدية وهي أسخن عين كبريتية في تونس تصل حرارتها إلى 80 درجة مئوية وتسمى أيضا حمام الصالحين ربما للمكانة الروحية التي تتمتع بها المنطقة». ويضيف محدثنا: «وهناك مواقع معروفة بالتخييم مثل وادي الزان وبني مطير ومخيم المريج. ويبدأ نشاط التخييم من شهر أيلول/سبتمبر حتى فصل الربيع».
ويلحظ الزائر أن هذا النزل مختص بالأكواخ أي السكن الايكولوجي المستوحى من الطبيعة ومن خشب مرسكل من شجرة السرول ولا يضرّ بالطبيعة. وهو ما يلفت السائح سواء الداخلي أو الخارجي وما يميز طبيعة عين دراهم.

فن النحت

وبالإضافة إلى براعتهم في تقطير مختلف النباتات والأزهار الغابية واستخراج أجود الزيوت والعطور منها، برع أهالي عين دراهم في فن النحت على الخشب وهم فنانون في هذا المجال بكل ما للكلمة من معنى، حيث نحتوا تماثيل خشبية لحيوانات الغابة وطيورها وصنعوا الأواني الخشبية والمناضد والكراسي والسلال وغيرها. ولا يمكن لزائر عين دراهم أن لا يقتني هذه التحف الفنية والأواني والسلال المصنوعة من خشب الغابة التي تصنف ضمن الصناعات التقليدية للمنطقة، كما لا يمكنهم العودة دون اقتناء ما تيسر من زيوت وعطور النباتات الغابية والتي تستخدم لأغراض طبية وتجميلية.
لقد صنع أهالي مدينة عين دراهم المشكلين بالأساس من قبائل خمير، نسور الشمال الغربي التونسي وحراسه، اقتصادهم من الغابة واستغلوها كما يجب وارتبطوا بها ارتباطا وثيقا، ففيها حياتهم ومعاشهم ورزقهم. لقد عشقوا ربوعهم وتمسكوا بها ولم يغادروها إلى صخب المدن الكبرى مثلما فعل غيرهم فلا يوجد بنظرهم مكان أجمل من تلك الربى الساحرة ويؤكد لهم زوارهم ذلك أيضا.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب