ثقافة وفنون

«لا بريد إلى غزة»: حين تصبح الجغرافيا محور كل حلم فلسطيني

«لا بريد إلى غزة»: حين تصبح الجغرافيا محور كل حلم فلسطيني

منير الحايك

في كتابه «الثقافة والإمبريالية» يشدّد إدوارد سعيد على أنه «لا أحد منّا خارج الجغرافيا، أو فيما وراءها، لا أحد منا يكون حرّا بالكامل من الصراع على الجغرافيا. ذلك الصراع معقّد ومثير للاهتمام لأنه لا يتعلق فقط بالجنود والمدافع، بل يتعلق أيضا بالأفكار وبالأشكال وبالصور والتخيلات»، والفلسطيني، وهو المقصود بشكل مباشر وغير مباشر في هذا القول، لا يمكن أن يجد بدّا من العودة دائما للحديث عن الجغرافيا، أرضه، حقّه، مهما تنوعت الموضوعات والأفكار التي قرّر أن يخوض فيها أو يطرحها ويعالجها. وفي رواية «لا بريد إلى غزة» (دار الآداب 2025) لمحمد جبعيتي، تأكيد على أنّ الأرض، المسلوبة والمنكوبة، تبقى الحاضر الأبرز والأقوى في أيّ عمل أدبي أو فني لأبناء فلسطين.
«لا بريد إلى غزة» توهم بأنّ رياضة الباركور، التي لا يعرف عنها الكثير معظم الناس، في عالمنا العربي وفي العالم، وهي التي تعتمد على الركض والقفز والمغامرة، ستكون واحدة من الغايات المقصودة، وأنّ من حقّ الغزّيّ أن يحلم بأن يكون رياضيّا محترفا ومشهورا، وهذا يحضر بالفعل في الرواية، ولكننا نكتشف أنه ليس سوى وسيلة، من وسائل كثيرة اعتمدها جبعيتي، في سبيل «السردية الفلسطينية» التي أخذ على عاتقه، من دون أن يدري، أو كان يدري، همّ الدفاع عنها والحفاظ عليها.
جلال، مراهقا وشابّا، بقي الشاب الفلسطيني الغزيّ نفسه الذي يحلم بالتغيير وبالخروج من معتقله الكبير، سجنه وسجن كل أبناء القطاع، ويحلم بأن يدرس ويتخرج ويحبّ ويتزوّج، وأن يصبح رياضيّا مشهورا، ولكن الأمر لا يكون كما يطمح، فتموت الأحلام وتُدفن مع الكثير من الناس والشهداء والأشلاء.. إلى هنا، القصة عادية، أدخل الكاتب رياضة الباركور ليميّز نصه وشخصيته الرئيسية، ولأنه وجد فيها ما يمكن أن يكون رمزا عميقا، فغزّة والدمار والأنقاض، مكان مثالي لممارسة هذه الرياضة، وأن يُصاب جلال بقدمه، لهو أمر عاديّ أيضا من أجل تبرير موت الأحلام،ولكن ما الجديد الذي قدّمه النصّ؟
على صعيد «السردية الفلسطينية» قدّم جبعيتي الكثير، وهو أمر عميق وضروريّ وذكيّ من قبله، فالسردية، التي أصبح كثير من الناس يبدؤونها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، ويحمّلون أحداث ذلك اليوم مسؤولية كل ما وقع، ويقع، وسيقع من مصائب وإبادة وإجرام في حقّ الفلسطيني، غزّيّا كان أم من كامل فلسطين، كان لا بدّ لها من إعادة تذكير بأنها لم تبدأ هناك، وهو، أي جبعيتي، لم يعد بالتاريخ إلى الثلاثينيات والأربعينياتن ليسرد الظلم الذي وقع على الفلسطيني الذي سُرقت أرضه وشُرِّد وقُتِل، بل عاد إلى الماضي القريب، ولعلها صفة، أو ميزة، يتوخّاها الكاتب عن قصد ودراية ودراسة، فقد قام بها في روايته الأسبق «الطاهي الذي التهم قلبه»، أي أن يعود إلى الماضي القريب، ولكن كل ذلك لغاية أساسية، الحفاظ على السردية الصحيحة، التي أخذت تحيد عن مسارها.

غزّة لم تُدَمّر خلال العامين الماضيين، وأهلها لم يتعرّضوا للإبادة منذ ذلك التاريخ، بل كانت تموت وتُدَمّر يوما بعد يوم، والعدو، الذي يدّعي أنه يقوم بما يقوم به لضمان أمنه، لم يتوقّف يوما عن قتل الغزيّ، وقتل أحلامه وطموحاته، وهذا ما قالته لنا الرواية، التي قصد الكاتب أن ينهيها، مع كلّ الشهداء، من عائلة جلال وغيرهم، الذين سقطوا في بداية عام 2023، ليوثّق ويؤكد ما ذكرته سابقا. أعود إلى النصّ، وهي قصة جلال، الذي كان يحادث شخصية وهمية، تختفي تدريجيّا مع نهاية النص، وهنا تناصّ، أو تأثّر بروايات كثيرة فيها هذا الأسلوب، ولك أثناء القراءة كانت تستحضرني «دفاتر الوراق» لجلال برجس، لأنني وجدت تطوّرا في أسلوب جبعيتي، بدأ يقترب من أسلوب برجس السردي، هذه الشخصية كانت أساسية لما وصل إليه جلال من قرارات ومواقف كثيرة، مع أخيه أحمد، وحبيبته سارة، وأخواته، وخصوصا شروق، التي نقرأ قليلا من أوراقها في نهاية الرواية، وهنا أمر أعود إليه لاحقا. أمّا العلاقة مع الأب والأم، فهي من الأمور العادية في الرواية والمتوقّعة، ولكنها كانت رئيسية في خدمة السرد، والسردية، فالغزيّ ليس مقاوما فقط، وليس شهيدا فقط، وليس نازحا ومشرّدا فقط، بل هو إنسان عادي مثلنا جميعا، وهذه من غايات النصّ الأصيلة في الدفاع عن «السردية الفلسطينية».
لغة جبعيتي في هذه الرواية متماسكة حدّ الإبهار، وسلسة حدّ العذوبة والانسيابية، بشكل أراه نقلة كبيرة بين هذا النص وما سبقه، فإنّ جهدا كان يُلاحظ، كي لا أقول تكلّفا، كان يظهر في عبارات كثيرة، يكاد يكون منعدما من الظهور في هذه الرواية، فكأنّ أسلوب الكاتب المتفرّد قد وصل إلى المبتغى الذي يتوخّاه، ومنها بدأ فعلا بطرح نفسه روائيا ساردا من الطراز الأول.
ذكرتُ أنّ السرد والأسلوب فيهما تأثر بكاتب أو بآخر، ولكن «إعادة ترتيب العناصر» الذي قام به الكاتب في الرواية ليس أمرا سهلا، بل إنه من الصعوبة التي لا يمكن لأيّ كان أن يقوم بها، فـ»الحكي» المقصود في الرواية، والإيهام بالاستطراد وإعادة الإمساك بكل عناصر السرد، لهو أمر معقّد لا يمكن لأيّ كاتب اجتيازه بالحِرَفية التي قدّمها جبعيتي.
شروق وزكريّا شخصيتان ثانويتان، وأحمد الأخ، المفقود أو الشهيد، كذلك، ولكن هذه الشخصيات الثلاث كانت أساسا في بناء الرواية، وما نقرأه في أوراق شروق التي تنتهي معها الرواية تقريبا، يحمل من الإجابات غير المتوقّعة الكثير، فالمتلقي الذي ما كان ينتظر إجابات، لأنه لم تكن هنالك أسئلة، جاءت أوراق شروق، وبلعبة ذكية وغير متوقّعة، فيها تكمن الجدّة والبراعة، حيث كان يمكن للرواية أن تسلك مسلكا آخر لو أننا سمعنا صوت شروق في البداية أو في الوسط، ولكن جبعيتي جعلها تظهر ونحن في أعلى درجات التفاعل الشعوريّ، لتقول إنّ الحقيقة ليست دائما ما تسمع، وهذه من أهم غايات الرواية، التي حققتها بعمق ووعي وإتقان، فالسرد والحكي والميديا والكذب الذي يتحكم فيها في مواجهة الحقيقة التي تُحجَب عن أهل غزة، وعن كلّ المظلومين من أهل بلادنا، لا بدّ أن تُفتَح معها أوراق «شروق» في كلّ زمان ومكان، لنسمع وجهات النظر الأخرى.
«لا بريد إلى غزة» رواية مؤلمة، ولكنها تحمل الألم الضروري في زمن أصبحت مشاهد الموت والقتل عادية، ومشاهد المجازر في حقّ أبناء البلاد خبزا يوميّا، أخبارا عاجلة، متفرقات غير أساسية، كلها بسبب «الجغرافيا» التي تحدث عنها إدوارد سعيد، والمثقف، هو الذي يعرف كيف يوظّف إبداعه وثقافته ومعارفه، في سبيل الدفاع عن أيّ حقّ، بالحكي أو بالبندقية، لا فرق.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب