«بوغونيا» ليورغوس لانثيموس: كابوس معاصر بين أوهام المؤامرة وفشل الإنسان في الإنقاذ

«بوغونيا» ليورغوس لانثيموس: كابوس معاصر بين أوهام المؤامرة وفشل الإنسان في الإنقاذ
نسرين سيد أحمد
كاتبة مصرية
البندقية – منذ بزوغ نجمه على الساحة السينمائية، صنع المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس عالماً خاصاً به؛ عالماً بارداً، ساخراً، غريباً، يشعرنا بالانقباض والغربة، لكنه في الوقت ذاته آسر بتفاصيله، يضع فيه البشر تحت عدسة مجهرية لا ترحم.
في فيلمه الجديد «بوغونيا» (Bugonia)المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائي (27 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2025)، يقدّم لانثيموس واحداً من أكثر أفلامه إثارة للجدل، مزيجاً من الكوميديا السوداء والرعب النفسي والتعليق السياسي المباشر، في إطار يبدو أحياناً عبثياً، وأحياناً أخرى مأساوياً حد القسوة. الفيلم مأخوذ عن العمل الكوري الجنوبي «أنقذوا الكوكب الأخضر» (2003) للمخرج جانغ جون – هوان، غير أن لانثيموس لا يكتفي بمجرد إعادة إنتاجه، بل يشبعه بروحه الخاصة، ويغيّر بعض العناصر المفصلية مثل، جنس الشخصية الرئيسية في الشركة الدوائية، ليحوّل النص إلى مواجهة أكثر وضوحاً مع حاضرنا، الذي تملؤه الريبة، وانهيار الثقة بالمؤسسات، ونظريات المؤامرة العابرة.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هو تيدي (جيسي بليمنز)، الذي يعمل في وظيفة بسيطة في شركة دوائية كبرى، ويربي مجموعة من خلايا النحل. يعيش تيدي على هامش المجتمع، محاصرا بهواجس انهيار مستعمرات النحل التي يرى فيها نذيراً بانهيار الأرض نفسها. تيدي ليس مجرد هاوٍ لحماية البيئة، فهو رجل مثخن بالجراح الشخصية. ترقد والدته في غيبوبة بعد مشاركتها في تجربة دوائية فاشلة أنتجتها شركة «أوكسوليث» العملاقة، التي يعمل تيدي كعامل توصيل فيها. هذه الشركة تديرها وترأس مجلس إدارتها ميشيل فولر (إيما ستون)، في أداء مميز. تتحوّل فولر في ذهن تيدي إلى تجسيد للشر المطلق، ليس فقط بسبب فسادها الرأسمالي، بل لأنه يؤمن بأنها ليست بشرية أصلاً، بل كائن فضائي متنكّر جاء لتدمير الكوكب. يستدرج تيدي ابن عمه البسيط دون (إيدن ديلبس) إلى مخطّط يدبر له منذ أمد طويل، وهو خطف ميشيل وتعذيبها حتى تعترف بهويتها ككائن فضائي، وتتعهد بسحب جنسها من الأرض. ومنذ لحظة الخطف، يدخل المشاهد إلى فضاء مغلق، أقرب إلى مسرحية كابوسية، يتنقل فيها بين لحظات سخرية بالغة، ومشاهد عنف جسدي قاسٍ، وصولاً إلى جدل فكري لا يقل قسوة عن أدوات التعذيب.
تتميز إيما ستون، التي باتت ملهمة لانثيموس الثابتة، قدرتها على التنقل بين أدوار نسائية متطرفة في تباينها. هنا، تبتعد كلياً عن جرأة بطلتها في «أشياء مسكينة» (Poor Things)، لتقدم شخصية باردة، متعالية، تُخفي قسوتها بابتسامات مزيّفة أمام الموظفين.
تحضر ميشيل إلى الشركة في الصباح الباكر، بعد تدريباتها الرياضية اليومية، لتلقي محاضرات عن التوازن بين العمل والحياة. تقول كل مصطلحات الصوابية السياسية، وتباهي بأنها تسمح لموظفيها بالمغادرة عند الخامسة والنصف مساء، وكأنها تمنحهم نعمة سماوية، ولكنها في الواقع تمارس ضغوطا بالغة عليهم لتحقيق حصة الإنتاج المقررة. حين تقع ميشيل أسيرة في قبو تيدي، تستخدم كل ما لديها من مقدرة على المراوغة لمحاولة الفرار. تحاول الاستعطاف والغضب والسخرية، وحتى مسايرة تيدي في اعتقاده بأنها كائن فضائي. ستون تتماهى تماماً مع الشخصية، حتى أنها تبدو بشعرها الحليق تماماً وعينيها الواسعتين كما لو أنها حقاً كائن فضائي. أما بليمنز، فيقدّم أحد أبرز أدواره. يبدو نحيلا للغاية، كما لو أنه كان في حمية خاصة نفذها خصيصاً للدور. يبدو كما لو كان في مهمة قتالية، يتدرب يومياً، يتناول عقاقير للقضاء على الشهوة الجنسية، حتى لا يعطله الجسد عن مهمته القتالية. هناك فارق شاسع بين تصور تيدي لذاته كمقاتل في سبيل إنقاذ البشرية، وصورة المريض النفسي الذي يراه الآخرون.
تيدي ليس وحشاً بالمعنى التقليدي، بل تجسيد لتناقضات عصرنا، فهو شخص يبحث عن حقيقة وسط طوفان المعلومات الكاذبة، يجرب كل الأيديولوجيات، من اليمين المتطرف إلى الماركسية، فلا يجد لنفسه هوية سوى نظرية المؤامرة، هو يستمع إلى مقاطع فيديو عن سيطرة الفضائيين على المؤسسات والمناصب الحيوية الرئيسية في الأرض، ويعتقد بهذا أنه مثقف وحظي بالعلم الذي يؤهله لخوض الحرب ضد المؤسسات الفاسدة. أسلوب لانثيموس حاضر بوضوح في الفيلم، يتمثل في نظرة باردة أشبه بمبضع جراح، مسافة ساخرة من الأحداث، ومشاهد عنف نجفل من قسوتها أحياناً، وموسيقى صاخبة تخترق الأذن، كما تمزّق المشاهد الداخلية أحشاء الشخصيات.
غير أن الفيلم، الممتد على ساعتين كاملتين، يعاني أحيانا من الترهل. الكثير من التكرار، الكثير من الدوران حول الفكرة ذاتها: هل ميشيل إنسانية أم فضائية؟ هل تيدي مريض نفسي وعقلي أم مقاتل يسعى لإنقاذ الأرض؟ كان يمكن لنسخة أقصر أن تكون أكثر تركيزاً وتأثيراً، لكن لانثيموس ارتأى أن الإغراق في الحيرة مع مشهد النهاية الكاشف لتحقيق رؤيته. تكمن قوة «بوغونيا» في تقديم صورة لعصرنا، انهيار الثقة في الشركات الكبرى، سطوة الشركات الكبرى، العقاقير التي تروج لها الشركات الدوائية على أنها الحل لمشاكلنا الصحية رغم آثارها الجانبية البالغة، التحولات البيئية وتلوث البيئة، جنون نظريات المؤامرة، هشاشة الديمقراطيات، كل ذلك حاضر. لكن لانثيموس لا يمنح أي طرف نصراً أخلاقياً.
نحن جميعاً عالقون بين الجلاد والضحية، بين إنقاذ العالم والاستسلام لفنائه.
العنوان ذاته «بوغونيا» يحيل إلى أسطورة قديمة عن ولادة النحل من جثة ثور نافق. في رمزية مباشرة، يذكّرنا لانثيموس بأن الحياة تنبع من الفساد، وأن الأمل، وإن وُجد، يولد من العفن ذاته. غير أن هذا الأمل يبقى هشاً، ملتبساً.
إذا كان فيلم لانثيموس السابق «مخلوقات مسكينة» قد كشف جانباً إنسانياً أكثر دفئاً لدى لانثيموس، وإذا كان فيلمه «أنواع من اللطف» قد غاص في ثلاثية من العبث والعدمية، فإن «بوغونيا» يقف بين الاثنين: فيلم يحمل قسوة فيلمه «مقتل غزال مقدس»، وغرابة فيلمه «السلطعون»، لكنه يتطلّع في الوقت نفسه إلى أن يكون رسالة عن حاضرنا. البعض قد يرى فيه انحرافاً نحو المباشرة أو الثقل الوعظي، والبعض الآخر قد يعتبره صياغة سينمائية جريئة لمعضلة إنسانية لا حل لها.
في المشهد الختامي، يقدّم لانثيموس رؤية تجعلنا نرى الأرض كألعوبة في أيادٍ تضمر الشر لكوكبنا المسكين. ويبقى «بوغونيا» عملاً مُربكاً، صاخباً، غير متوازن تماماً، لكنه، ككل أفلام لانثيموس، فيلم لا يمكن تجاهله، ولا يمكن الخروج منه دون شعور بالانقباض والدهشة في الآن نفسه.
«القدس العربي» :