مقالات

غزة مقبرة الغزاة بقلم الدكتور  يوسف مكي

بقلم الدكتور  يوسف مكي

غزة مقبرة الغزاة
بقلم الدكتور  يوسف مكي
تاريخ غزة، منذ احتلت أول مرة، في العدوان الثلاثي الغاشم على مصر عام 1956، إلى عدوان الخامس من حزيران/ يونيو 1967، هو تاريخ بطولة وكفاح مستمرين. فقد رفض أهلها الخضوع للاحتلال، وقاوموه، بما يملكون من إمكانيات مادية محدودة، مسنودة بطاقة روحية هائلة، تجعل من العصي على أي محتل احتوائهم.
وحين اندلعت أيقونة الكفاح الفلسطيني، انتفاضة أطفال الحجارة، في الثامن من كانون/ ديسمبر 1987، كان انطلاقها الأول من جباليا بقطاع غزة. لتنتشر كالهشيم، في القطاع والضفة الغربية، والقدس، وليصل فعلها إلى الأراضي الفلسطينية، التي احتلت عام 1947، في شكل مسيرات ومظاهرات تأييد أخذت مكانها في تل أبيب وحيفا والناصرة، وعدد آخر من المدن والبلدات الفلسطينية. وكانت تلك الانتفاضة بحق، حديث العالم بأسره، حيث الأطفال الصغار، يتصدون لألة الحرب الإسرائيلية، في مشهد مهيب نال إعجاب الأحرار في كل زوايا الكرة الأرضية.
وقد دفع عنفوان الانتفاضة وصلابتها، بوزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، اسحق رابين للقول بمرارة أنه وهو يقود أقوى جيش بالمنطقة، عاجز عن إلحاق الهزيمة بأطفال صغار، لا يحملون سلاحا. وفي تعبير عن اليأس والاحباط، قال جملته الشهيرة، أتمنى أن لا أصحو من النوم، إلا وغزة قد غرقت في البحر.
وكان من نتائج تلك الانتفاضة، ان تواصل رابين مع أحد الناشطين في حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح ليطلب منه ابلاغ رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، باستعداده تسليم القطاع للمنظمة. فكان أن اشترط عرفات ضم أريحا لاتفاق انسحاب الاحتلال من غزة. فكان الاتفاق المعروف، باتفاق غزة- أريحا أولا. وليتواصل ذلك لاحقا، ليصل إلى ما بات معروفا باتفاق أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية، بالأراضي التي تم احتلالها عام 1967.
في بداية هذا القرن، حدثت انتفاضة الأقصى، التي نفذتها فتح، احتجاجا على سلوك أرئيل شارون، ودخوله مع مجموعة من المستوطنين للمسجد الأقصى. وقد أدت تلك الانتفاضة، إلى فرض الإقامة الجبرية على عرفات، في مقره برام الله، وقبل رحيله عام 2004 قال مقولته الشهيرة: يريدونني إما أسيرا أو طريدا أو قتيلا، وأنا أقول شهيدا…شهيدا… شهيدا.
ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لا يمكن عزله عن السياسات التوسعية للاحتلال. فقد شهدت الأراضي المحتلة، والضفة الغربية بشكل خاص، بناء العشرات من المستوطنات الإسرائيلية، وجرى هدم البيوت، وتجريف المزارع، وبناء الجدران العازلة، وفرضت حالة طوارئ مستدامة على الفلسطينيين بالأراضي المحتلة.
كثيرون، يتحدثون عن أحداث السابع من أكتوبر، وكأنها عمل معزول، وليست له علاقة، بما يعانيه الفلسطينيون، من ظلم وجور. وتغيب عن الذاكرة، أن استمرار الاحتلال، هو بالضد من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، وبشكل خاص القرار 242، الذي هو في الأصل مشروع بريطاني، طرحه اللورد كارادون، وزير الخارجية في حينه. وقد تبناه مجلس الأمن الدولي. ولم يجر تطبيقه حتى يومنا هذا.
بمعنى آخر، أن أحداث السابع من تشرين/ أكتوبر 2023، لم تأت من فراغ، وما كان لها أن تحدث، لو تم تطبيق القرارات الدولية، المتعلقة بانسحاب القوات الاسرائيلية، من الأراضي المحتلة.
أمام القضية الفلسطينية، والعرب جميعا، تحد كبير، يتمثل في القرار الإسرائيلي، بضم قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. وقد جاء ذلك، بعد حرب إبادة استنكرها العالم بأسره، ولم يساندها سوى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وبعض من أفراد إدارته. وهو سلوك من شأنه قلب الطاولة رأسا على عقب، على سياساته المغرقة في همجيتها وعنصريتها.
في هذا السياق، نذكر بتصريح حكومة الإمارات العربية المتحدة، بأن المشروع الذي عرف بالابراهيمي، بات موضع تساؤل، وأن ضم القطاع لإسرائيل خط أحمر، سينسف كل ما جرى الاتفاق عليه، بين الإمارات وإسرائيل، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية معها. وأن تلك العلاقة نشأت على قاعدة التسليم بقيام دولة فلسطينية مستقلة، فوق الأراضي التي تم احتلالها عام 1967.
إن حكومة بنيامين نتنياهو، تغرق في الوحل أكثر فأكثر، وتزداد يوما بعد يوم، عزلتها الدولية. فعمال الموانئ في إيطاليا يهددون، بالإضراب الشامل، وعدم تقديم الخدمة لأي سفينة تتعامل مع إسرائيل، ما لم يتمكن اسطول المساعدات الغذائية لقطاع غزة، من الوصول بسلام دون أي اعتراض من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ويتزامن هذا الحدث، مع قرار آخر، من عشر دول أوروبية، بفرض عقوبات على إسرائيل، ومنع تزويدها بالسلاح. كما يتزامن مع تحذيرات من مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، من تفاقم الأوضاع في غزة، حيث يمارس جيش الاحتلال، سياسة القتل والتجويع والتعطيش للشعب الفلسطيني.
لقد تجاوز عدد الشهداء في القطاع، ثلاثة وستين ألفا، وأربعة أضعاف هذا العدد من الجرحى، جلهم من المدنيين، شيوخا وأطفالا ونساء. وعلينا أن نتصور، ما سيكون عليه الوضع، في حال بدأت إسرائيل مشروع احتلال القطاع، الذي يتوقع عدد من الضباط بالجيش الاسرائيلي استحالته، في حين يقدر المتفائلون منهم، أن ذلك سيستغرق ثمانية أشهر.
تاريخ غزة، المطرز بالبطولة والكفاح، يؤكد بما لا يقبل الشك، أن أوهام نتنياهو وجوقته، باحتلال القطاع، ستمنى بالفشل والهزيمة والخيبة، وأن شعب غزة، كما كان دائما طيلة تاريخه المعاصر، سيجعل من غزة مقبرة للغزاة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب