هوليوود وإسرائيل.. هل نحن على أعتاب انهيار الأسطورة في عقر دار صناعة الأساطير؟

هوليوود وإسرائيل.. هل نحن على أعتاب انهيار الأسطورة في عقر دار صناعة الأساطير؟
منذ نشأتها، أتقنت هوليوود فنّ صناعة الأساطير، فتعيد قصّ التاريخ على مقاس الكادرات التي تختارها، وتسكب على الوقائع طلاءً لامعاً يشي بأن الحكاية الوحيدة الممكنة هي تلك التي قرّرت استوديوهاتها أن تُرويها.
هكذا تحوّلت إسرائيل على الشاشة الغربية من مشروع استعماري فاشي إلى آخر تحرّري غربي ومتحضّر، وخرج الفلسطيني من الكادر أو عاد فيه خصماً فوضوياً بلا اسم. لم يكن هذا محض حبكة سينمائية، بل ثمرة نفوذ طويل الأمد: من حملات نجوم الأربعينيات لتمويل المشروع الصهيوني، إلى أفلام جسّدت احتلال فلسطين كـ”ميلاد بطولي” للرجل الأبيض، ثم إلى سرديات ما بعد 11 سبتمبر التي مزجت بين ما يسمى “الحرب على الإرهاب” وصورة الفلسطيني كتهديد أبدي. فطوال هذه العقود، كانت “الهاسبارا” تراقب النص، تصقل زواياه، وتحرف الروايات ما يخدم الرواية الإسرائيلية.
لكن يبدو أن المشهد يتغيّر اليوم، فغزة، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، شقّت ستارة الاستوديو. فصور المجازر العلنية، التي التقطتها الهواتف الذكية، جعلت من المستحيل دفن الدم أو تلفيق سيناريوهات تناسب إسرائيل، بل وتجرأ نجوم كبار على توقيع بيانات تُسمّي الإبادة باسمها، وظهرت مبادرات ونقابات وأصوات ترفض استعمار المخيلة.
صحيح أن هوليوود المؤسسية لا تزال تميل إلى الاصطفاف القديم، وأن كلفة “قول لا” ما زالت باهظة، لكن التوازن اختلّ: السردية الواحدة تتراجع، ومكان في الشاشة يُنتزع لرواية الفلسطيني وهو يروي قصته.
هل نحن على أعتاب انهيار الأسطورة الإسرائيلية في عقر دار صناعة الأساطير نفسها؟
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجدت هوليوود نفسها في قلب صراع سياسي وثقافي غير مسبوق. بعد عقود من الدعم شبه المطلق لإسرائيل ومعالجة القضايا الفلسطينية بمنطق الإنكار أو التشويه، يشهد قطاع السينما الأميركية اليوم بوادر تمرّد داخلي متصاعد. ففي الأسابيع الأولى من الحرب، بدا المشهد موحّداً خلف الرواية الإسرائيلية؛ الممثلة الإسرائيلية غال غادوت – التي خدمت في جيش الاحتلال – قادت الحملة قائلة عبر إنستغرام: “أنا أقف مع إسرائيل، وعليكم أن تفعلوا ذلك أيضاً”.
حتى النجوم الذين عُرفوا بانتقادهم الحذر لسياسات إسرائيل، مثل الممثلة الأمريكية الإسرائيلية الأصل ناتالي بورتمان، انضموا لموجة التضامن تلك.
نجوم كبار، من مادونا وسارة سيلفرمان إلى جيمي لي كيرتس وإلين ديجينيرس وبونو وغيرهم، نشروا رسائل “نقف مع إسرائيل”. بل إن جيمي لي كيرتس ذهبت أبعد من ذلك؛ فقد نشرت صورة لأطفال مذعورين يفرّون من القصف الإسرائيلي على غزة، وزعمت خطأً أنهم “ضحايا صواريخ حماس”، قبل أن تضطر لاحقاً لحذف منشورها تحت وطأة البروباغندا الإسرائيلية.
لكن مع استمرار الإبادة بلا رادع، وازدياد المجازر الإسرائيلية في غزة، وارتفاع أعداد الشهداء الفلسطينيين، بدأت موجة عكسية لم تكن مألوفة، فوجدت كبرى شركات الإنتاج نفسها أمام انقسام غير مسبوق بين نجومها. فخلال مايو/أيار 2025، وقّع أكثر من 370 فناناً ومخرجاً خطاباً مفتوحاً يندّد بـ”الإبادة الجماعية في غزة”، من بينهم نجوم ثقيلة الوزن مثل واكين فينيكس، وبيدرو باسكال، وريز أحمد، وغيييرمو ديل تورو، وجولييت بينوش، ومارك رافالو، وسوزان ساراندون، ورووني مارا، وخافيير بارديم، وريتشارد غير. وأعلن البيان بوضوح: “لا يمكننا كفنانين أن نصمت بينما تُرتكب إبادة جماعية في غزة. علينا أن نرفض الدعاية التي تستعمر مخيّلاتنا وتشوّه إنسانيتنا”.
وقد سبقتها لحظة أخرى ذات رمزية تمثّلت في خطاب الممثلة الفرنسية جولييت بينوش عند افتتاح مهرجان كان 2025، حين استذكرت المصورة الصحفية الفلسطينية الشهيدة فاطمة حسونة التي قُتلت مع عشرة من أفراد عائلتها بغارة إسرائيلية، قائلة: “كان يجب أن تكون هنا معنا الليلة”. هكذا بدأ تضامن النجوم مع الفلسطينيين يكسر ما كان يُنظر إليه طويلاً باعتباره سردية مقدسة في هوليوود.
جذور الدعم الصهيوني في هوليوود
علاقة هوليوود بالمشروع الصهيوني لم تبدأ كتحالف سياسي واضح، بل كشبكة متداخلة من المصالح الاقتصادية والثقافية.
ففي العقود الأولى من القرن العشرين، كان مؤسسو الاستوديوهات الكبرى في هوليوود – وجلّهم من المهاجرين اليهود الفارين من أوروبا – منشغلين بالاندماج في النسيج الأميركي السائد أكثر من أي أجندة سياسية خارجية.
حرص لويس بي. ماير (مؤسس MGM)، وصامويل غولدوين (شريك تأسيس باراماونت ثم MGM)، وغيرهما على تغيير أسمائهم الأصلية لتبدو غربية أنجلو-ساكسونية، وتجنّبوا إبراز أصولهم أو أي قضايا قد تُضعف قبولهم في مجتمع الأعمال.
قبل أربعينيات القرن الماضي، لم يكن المشروع الصهيوني أولوية لهؤلاء، لكن مع بدايات الأربعينيات شهدت هوليوود تحوّلاً تدريجياً مع تنامي التعاطف الأميركي مع اليهود عقب الحرب العالمية الثانية. في عام 1947، نُشر إعلان على صفحة كاملة في مجلة Variety – المجلة الرئيسية لصناعة السينما – يحيّي جهود الرئيس الأميركي هاري ترومان للضغط على بريطانيا من أجل السماح بزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وضمّت قائمة موقّعي ذلك الإعلان كوكبة من نجوم هوليوود آنذاك، من المغني فرانك سيناترا، والممثل همفري بوغارت، وبيتي ديفيس، وفينسنت برايس، إلى المخرج وليام وايلر وغيرهم، ما مهّد لتبنٍّ أوسع للمشروع الصهيوني في أوساط هوليوود.
خلال هذه الفترة، ومع اقتراب قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، ظهرت نشاطات علنية لهوليوود في دعم الصهيونية. ففي كتابهم “تاريخ هوليوود وإسرائيل“، الصادر عن جامعة كولومبيا في مارس/آذار 2022، يوضح المؤرخان توني شو وجيورا غودمان أنه مع تزايد دعم الصهيونية في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت شركات هوليوود العملاقة تتجه نحو هذه القضية.
وقد لعب الكاتب والمخرج بن هكت دوراً محورياً؛ فقد ضغط بالتعاون مع الناشط الصهيوني بيتر بيرغسون على الاستوديوهات للتبرع بالأموال لصالح الميليشيات الصهيونية، وحثّ كبار المنتجين على ممارسة نفوذهم السياسي في واشنطن لدعم قيام دولة يهودية مستقلة.
أعادت هوليوود صياغة سردية احتلال فلسطين عبر أفلام قصيرة وعروض مسرحية جوالة موّلها نجوم السينما، تم فيها تصوير إرهاب العصابات الصهيونية المسلحة بحق الفلسطينيين كأنه دفاع “يهودي مشروع” يماثل مقاومة اليهود للنازية في أوروبا.

وبحسب الكتاب، مثّلت هذه الدعاية ضغطاً على بريطانيا لـ”وضع الاعتراضات العربية جانباً والسماح فوراً بدخول مئات آلاف اليهود” إلى فلسطين. اللافت أن الدعم لم يقتصر على السينمائيين اليهود؛ فإلى جانب غولدوين ووايلر، وقّع رئيس شركة فوكس آنذاك سبايروس سكورس على إعلانات في الصحف تطالب بريطانيا بـ الرضوخ للمطالب الصهيونية.
كما كان مشاهير، أمثال همفري بوغارت، وبيتي ديفيس، وفرانك سيناترا، ضمن من رعى فعاليات لجمع التبرعات في لوس أنجلوس لدعم إقامة دولة الاحتلال في فلسطين.
حتى التنظيمات الصهيونية المتطرفة وجدت مناصرين في أوساط هوليوود خلال تلك الفترة. فعلى الرغم من أن الصحافة الأميركية نفسها وصفت منظمة إرغون الإرهابية بهذا الوصف بعد تفجيرها فندق الملك داوود عام 1946، وارتكابها مجزرة دير ياسين عام 1948، إلا أن ذلك لم يمنع بعض نجوم هوليوود من دعمها علناً.
المثير أن مارلون براندو – الذي سيشتهر لاحقاً بانتقاده لنفوذ الصهاينة في هوليوود – كان في شبابه أحد المتحدثين المنتظمين في لقاءات جمع التبرعات لصالح إرغون.
كما كتب بن هكت نفسه مقالات وصفت مقاتلي إرغون بـ”مقاومي الاحتلال”، ونشر رسالة تهكمية في نيويورك بوست بعنوان “رسالة إلى الإرهابيين في فلسطين” دفاعاً عنهم.
وهكذا، في الوقت الذي هلّلت فيه هوليوود للعصابات الصهيونية، لم يرد أي ذكر لنكبة الشعب الفلسطيني؛ إذ تجاهلت الصناعة بالكامل مأساة تهجير 750 ألف فلسطيني وتدمير أكثر من 500 قرية خلال 1947–1948، وتبنّت الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن الفلسطينيين “غادروا”، بدلاً من الاعتراف بأنهم اقتُلعوا قسراً من ديارهم.
بعد إعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، تعمّقت الروابط بين هوليوود وإسرائيل، وكان هناك إدراك متبادل لجدوى التعاون: إسرائيل احتاجت العملة الصعبة والاستثمارات الأجنبية، وهوليوود رأت في أرض فلسطين تحت الاحتلال سوقاً واعدة ومواقع تصوير حقيقية للأساطير التوراتية التي كانت رائجة حينها.
فسارعت إسرائيل إلى تقديم حوافز سخية لجذب الإنتاج الأميركي، من إعفاءات ضريبية إلى تسهيلات لوجستية وتصاريح تصوير في مواقع تاريخية.
فوجد صنّاع الأفلام في صحراء النقب والقدس فضاءً مثالياً لإنتاج أفلام العهد القديم، خاصة مع ازدهار موجة الأفلام الملحمية الدينية في الخمسينيات كردّ فعل على منافسة التلفزيون. وهكذا بدأت هوليوود شيئاً فشيئاً تنسج خيوط الأسطورة الصهيونية على الشاشة الذهبية.
كيف صنعت هوليوود أسطورة إسرائيل على الشاشات؟
سرعان ما أصبحت أداة ناعمة للدعاية للصهيونية على مستوى عالمي. إذ يوضح طوني شو وجيورا غودمان في كتابهما أن إسرائيل أولت، منذ البداية، أهمية خاصة لهوليوود في استراتيجيتها الدعائية هاسبارا (Hasbara)، سواء على الشاشة أو خلف الكواليس.
وكلمة هاسبارا في العبرية تعني حرفياً “توضيح” أو “شرح”، وقد مثّلت جهداً سياسياً منظّماً لترجمة الدعاية الإسرائيلية إلى مفاهيم يفهمها العالم الغربي، وتعزيز صورة إسرائيل في أعين الأميركيين.
أدرك القادة الصهاينة باكراً أن ربط روايتهم برموز الثقافة الشعبية الأميركية سيكون سلاحاً فعالاً في كسب التأييد. فهوليوود شكّلت، منذ قيام إسرائيل، بؤرة مركزية للدعاية الإسرائيلية، سواء عبر القصص التي تُروى على الشاشات أو عبر علاقات لوبي الكواليس بين منتجي هوليوود والمسؤولين الإسرائيليين.
انطلقت، على مدار العقود اللاحقة، سلسلة من الإنتاجات السينمائية الضخمة التي قدّمت الرواية الصهيونية كحقيقة تاريخية ورومانسية في آن. في عام 1949، ظهر فيلم Sword in the Desert (سيف في الصحراء) كأول فيلم أميركي يتناول بشكل مباشر احتلال فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية. وروّج الفيلم علناً لـ”حق المستوطنين اليهود” في أرض فلسطين، وصوّر البريطانيين والعرب كعقبة شريرة في طريق هؤلاء الروّاد الشجعان.
تلاه فيلم The Juggler عام 1953، من بطولة كيرك دوغلاس، الذي حاول أن يرسم دراما إنسانية عن لاجئ يهودي نجا من المحرقة ليجد ملاذه في فلسطين المحتلة. هذا الفيلم صُوّر جزئياً في قرية “إقرت” الفلسطينية، بعد خمسة أعوام فقط من تهجير أهلها وتدمير بيوتهم على يد العصابات الإسرائيلية عام 1948.
المفارقة أن طاقم الفيلم استخدم أنقاض إقرت الحقيقية كخلفية تصوير، في تجاهل تام لمأساة من عاشوا هناك.
تشويه صورة العربي والفلسطيني على الشاشة
وقد واكب الدعم المؤسسي لإسرائيل في هوليوود حملة ممنهجة لتشويه صورة العرب والفلسطينيين في الثقافة الشعبية.
فصار “العربي الإرهابي” و”المسلم المتعطش للعنف” مادة ثابتة في سيناريوهات هوليوود، وجرى الخلط عمداً بين أي حركة تحرر عربية والإرهاب الأعمى.
ولعل كتاب العرب الأشرار على الشاشة (2001) للباحث جاك شاهين وثّق كيف قدّمت مئات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية صورة مشوّهة للعرب كأشرار، في حين نادراً ما قُدِّم العربي كشخصية إيجابية إنسانية. لقد خدمت هذه الصور النمطية – التي أنتجتها هوليوود وساعدت إسرائيل في ترويجها عبر الهاسبارا – في ترسيخ قناعة عامة لدى الجمهور الغربي بأن الإسرائيلي يشبهنا (غرب متحضّر ديمقراطي)، بينما العربي آخر متوحّش متخلّف يشكّل تهديداً.
وكانت ذروة تلك الحقبة عام 1960 مع فيلم Exodus (الخروج) للمخرج أوتو برمنغر، المقتبس عن رواية ليون يورس الشهيرة. وتدور القصة حول مجموعة ناجين يهود من المحرقة يصلون إلى فلسطين وينخرطون في أحداث حرب 1948، ليتم تصوير تأسيس الاحتلال الإسرائيلي على أنه ملحمة تحرر وبطولة.
حيث جسّد النجم بول نيومان دور البطل الصهيوني المثالي: “شاب وسيم ذو عينين زرقاوين، يقود شعبه إلى أرض الميعاد”.
وعلى الضفة الأخرى، صُوّر الفلسطينيون والعرب عموماً كجماعات همجية ترفض السلام بلا سبب عقلاني، حيث يظهرون في الفيلم إما غائبين عن المشهد الإنساني تماماً، أو كأعداء متعطّشين للدماء يمارسون العنف لمجرد طبيعتهم “الوحشية”.
حتى إن كاتب الرواية، ليون يورس، كان يجاهر بكراهيته للعرب، إذ اعترف ذات مرة بأنه لو لم يكن متزوجاً لسافر بنفسه إلى فلسطين “ليطلق النار على العرب”.
صحيح أن السيناريو الذي كتبه دالتون ترامبو حاول تلطيف بعض حدّة التطرف في الرواية الأصلية، لكنه في المحصلة كرّس الصورة النمطية ذاتها: العربي شيطان يرفض وجود الصهاينة فقط لشرّ كامن في ذاته، وليس لأن إسرائيل كيان استعماري.
وبحسب النقاد، رسّخ فيلم الخروج بهذا نمطاً عنصرياً أصبح قاسماً مشتركاً في تصوير هوليوود للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لعقود تالية، وامتد لاحقاً ليطال تصوير العرب والمسلمين عموماً في السينما الأميركية.
حيث ساهمت هوليوود أيضاً في إعادة صياغة صورة المستعمِر الأبيض. فبدلاً من أن يظهر الصهيوني كمحتل أوروبي غريب عن الأرض، ظهر على الشاشة كهجين ثقافي مقبول: هو الغربي المحب للسلام، ذو البشرة البيضاء والعيون الزرقاء، المُحاط بـ”متوحشين ملوّنين يتربصون به”، كما وصفهم بعض النقاد. لم تصوِّر الأفلام الأميركيين الذين انضموا إلى الصهاينة كمستعمرين معتدين، بل كشخصيات بطولية نبيلة تساعد شعباً مضطهداً على نيل حريته.
في المقابل، صُوّر الفلسطيني كبدائي يرفض الحداثة والنور الذي يحمله الصهيوني معه. هذا السرد الاستشراقي وضع إسرائيل في موقع رسول الحضارة الغربية وسط بحر من البداوة، وهي فكرة خطيرة برّرت سياسات الاستعمار الاستيطاني في رداء إنساني.
بالطبع، لم يخلُ تاريخ هوليوود من بعض المحاولات الخجولة لتقديم نظرة مختلفة، لكن تلك المحاولات كانت نادرة ومحفوفة بالضغوط. في أعقاب حرب 1967، ومع احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين التاريخية (الضفة وغزة)، إلى جانب سيناء والجولان، بدأ بعض المثقفين في الغرب بطرح تساؤلات حول الدور الإقليمي لإسرائيل كقوة احتلالية.
مع ذلك، لم تُقرّ هذه الأعمال بالمدى الكامل للعنف الاستعماري الذي يواجهه الفلسطينيون. بل إن المسؤولين الإسرائيليين نجحوا في استغلال حتى هذه الأفلام النقدية لمصلحتهم، مُحسّنين صورة البلاد كديمقراطية ليبرالية من خلال الترويج لاستعدادهم للسماح للاستوديوهات بالتصوير والتوزيع في إسرائيل.
وبمساعدة كتّاب سيناريو متعاطفين، تسللت الرواية الصهيونية حتى إلى تفاصيل الحبكات في أفلام لا تبدو سياسية مباشرة. فعلى سبيل المثال، فيلم Cast a Giant Shadow عام 1966، من بطولة جون واين – رمز أفلام الغرب الأميركي – تناول قصة كولونيل أميركي يقاتل إلى جانب الإسرائيليين خلال حرب 1948، في إسقاط واضح يشبّه الاستيطان الصهيوني بتوسع الروّاد الأميركيين في حدود الغرب المتوحش.
ولم يكن جون واين اختياراً عابراً؛ فهذا الممثل الشهير لطالما جسّد في أدواره أسطورة الرجل الأبيض الذي يجلب الحضارة إلى الأراضي الجديدة، وهي نفس الأسطورة التي حاول الفيلم إسقاطها على فلسطين، حتى إن واين وصف الفيلم عند صدوره بأنه “قصة أميركية خالصة”.
الإرهاب الفني
في المقابل، غابت الرواية الفلسطينية تماماً عن شاشة هوليوود طيلة عقود. لم يُسمح لصوت داعم لفلسطين أن يروي حكايتهم على نطاق واسع، ومن تجرأ على محاولة ذلك جوبه بحملات قمع وترهيب، وما يمكن وصفه بـ”إرهاب فني” تمارسه الدوائر الصهيونية في هوليوود لإسكات أي تعاطف مع الفلسطينيين أو انتقاد لإسرائيل.
فأي فنان حاول رفع صوته نصرةً للفلسطينيين، أو حتى انتقاداً معتدلاً لإسرائيل، كان يعلم أنه يعرّض مسيرته المهنية للخطر. ولعل أبرز مثال ما حدث للممثلة البريطانية فانيسا ريدغريف في سبعينيات القرن الماضي.
إذ كانت ريدغريف من أوائل نجوم السينما الغربيين الذين جاهروا بدعمهم العلني للقضية الفلسطينية. ولم تكتفِ بالتصريحات، بل موّلت وأنتجت فيلماً وثائقياً عام 1977 بعنوان الفلسطيني، عرض معاناة الشعب الفلسطيني ونشاطات منظمة التحرير الفلسطينية، وأدان الاحتلال الإسرائيلي بوضوح.
أثار ذلك حنق المنظمات الصهيونية في أميركا، التي رأت في خطوتها تجاوزاً لخطوط حمراء. وعندما ترشّحت ريدغريف لجائزة الأوسكار عن دورها في فيلم جوليا (الذي أدّت فيه شخصية مقاومة للاحتلال النازي)، بدأت حملة شعواء ضدها لمنعها من الفوز بالجائزة أو حتى حضور حفل توزيع الأوسكار.
إذ قادت منظمة الدفاع اليهودية (JDL) – وهي مجموعة صهيونية متطرفة في أميركا – تلك الحملة، فحرّضت ضد منحها الجائزة بزعم أنها معادية للسامية بسبب موقفها الشجاع لوقوفها بجانب الفلسطينيين. وخرج بعض المحتجين في تظاهرات أحرقوا فيها دمى تمثل ريدغريف، وتلقّى منظّمو الأوسكار تهديدات جدية؛ حتى إن متطرفين حاولوا تفجير قاعة سينما كان يُعرض فيها فيلم جوليا انتقاماً منها.
رغم ذلك الترهيب، فازت فانيسا ريدغريف بالأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة عام 1978. وعندما اعتلت المسرح لتسلّم الجائزة، لم تتردد في توجيه صفعة مدوّية للوبي الصهيوني في هوليوود.
وقفت تلك السيدة الشجاعة في قاعة تعجّ بكبار صُنّاع السينما، وقالت في خطابها وهي تمسك التمثال الذهبي: “أشكر الأكاديمية… وأحيي شجاعة كل من رفضوا الخضوع للتهديدات من قِبل حفنة من الصهاينة السفاحين”، كما وصفتهم، وفقاً لموقع Biography.
حينها عمّت القاعة لحظتها حالة من الذهول والغضب؛ أطلقت بعض الشخصيات هتافات استهجان، لكن ريدغريف حينها قد صنعت لحظة تاريخية شجاعة، محاولة فيها كسر تابو الهيمنة الإسرائيلية على خطاب هوليوود، وقد دفعت ثمنها غالياً بتقلّص فرصها في أدوار كبرى لسنوات تالية.
في منتصف التسعينيات، أثار براندو جدلاً واسع النطاق عندما اتهم اليهود بالسيطرة على وسائل الإعلام، وخاصةً هوليوود.
فخلال مقابلة على الهواء في عام 1996 مع المذيع لاري كينغ، قال براندو بصريح العبارة: “هوليوود يحكمها اليهود، هم يملكونها”، ثم أردف مستنكراً كيف أن الأفلام الأميركية أظهرت كل الأعراق بصورة سلبية نمطية – من الأميركيين الأفارقة إلى الآسيويين – “لكننا لم نرَ أبداً شخصية ليهودي [بصورة سيئة] على الشاشة”.
جلبت تعليقاته حينها الهجوم عليه من اللوبيات الصهيونية؛ وسارعت المنظمات اليهودية إلى اتهامه، كالعادة، بمعاداة السامية. وتعرض براندو لضغوط هائلة، فاضطر للاعتذار بعد بضعة أيام، ردّاً على مقابلته مع لاري كينغ.
لكن حتى مع اعتذاره، لم يعد ارتباط براندو بهوليوود كما كان، بينما نشرت مجلة Moments اليهودية في أغسطس 1996 غلافاً بعنوان: “اليهود يديرون هوليوود – وماذا في ذلك؟” كإقرار ساخر بحقيقة النفوذ اليهودي، دون أن يغيّر ذلك من واقع أن من يتفوّه بهكذا حقيقة سيُنبذ. إذ تضرّرت مسيرة براندو، فلم تعد بعد تلك الحادثة كما كانت قبلها، وتناقصت أدواره.
تحالف ما بعد 11 سبتمبر: إسرائيل في قلب سردية الحرب على الإرهاب
مع مطلع الألفية الجديدة، وتحديداً بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، دخلت علاقة هوليوود بإسرائيل مرحلة جديدة من التشابك الأيديولوجي. فقد أصبحت إسرائيل شريكاً أساسياً في السردية الأميركية لما سمّته “بالحرب على الإرهاب”، ووجدت هوليوود نفسها تصوّر حروب الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط من منظور صدام الحضارات، الذي يتزعم فيه الغرب والاحتلال الإسرائيلي معاً جبهة واحدة ضد عدو مشترك.
إذ تعمّقت الشراكات الفنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وظهرت موجة من الإنتاجات التلفزيونية والسينمائية المشتركة التي تروّج لأجندة أمنية معادية للعرب والمسلمين.
أحد أبرز الأمثلة، مسلسل Homeland الأميركي الذي انطلق عام 2011، وهو في الواقع نسخة معرّبة من مسلسل إسرائيلي اسمه أسرى الحرب (Hatufim). تولّى تطوير النسخة الأميركية الكاتب الإسرائيلي جدعون رف، الذي أصبح منتجاً منفذاً للعمل.
حقق المسلسل نجاحاً جماهيرياً كبيراً، لكنه قوبل بانتقادات لاذعة من النقاد، لوصفه بأنه من أكثر الأعمال عنصرية ضد العرب والمسلمين على الشاشات. فالمسلسل يمتلئ بالصور الاستشراقية، مثل “الإرهابي العربي المريض نفسياً والمتعطش للدم”، مقابل عميلة الـCIA (وهي بالمناسبة يهودية في القصة) التي تمثّل دور البطلة المنقذة. هكذا سوّقت هوليوود، عبر التشويق الدرامي، نفس المزاعم الإسرائيلية عن العرب كتهديد إرهابي.
بل وانتقل التعاون أيضاً إلى الإنتاج الإسرائيلي المحلي بدعم أميركي، مثل مسلسل فوضى (Fauda) الإسرائيلي (2015–2018)، والذي حظي بتمويل وعرض عبر منصة نتفليكس العالمية بفضل الشراكة مع شركات أميركية.
يتتبع المسلسل وحدة قوات خاصة إسرائيلية تعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورغم محاولة صنّاعه الإيحاء بتعاطف إنساني تجاه بعض الشخصيات الفلسطينية، فإن الرسالة الضمنية ظلّت متمحورة حول توصيف الفلسطيني كخطر إرهابي مستمر.
أما جنود الاحتلال الإسرائيلي، فيُظهرون – برغم عنفهم – بصورة الطرف الأخلاقي الذي يحاول قدر الإمكان تجنّب الأذى الجانبي!
وفي المقابل، كل مقاوم فلسطيني في المسلسل هو مشروع انتحاري أو قاتل لا يتورّع عن سفك الدماء. وكما وصف ناقد في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، فإن فوضى يقدّم الفلسطينيين كتهديد دائم “لا يُواجه إلا بعنف مضاد مشروع”، ليمنح المشاهد الغربي جرعة أخرى من التطبيع مع عنف الاحتلال على أنه دفاع ضروري.
حتى منصة نتفليكس دعمت فيلم The Red Sea Diving Resort عام 2019، من إخراج رف نفسه، والذي يروي قصة تهريب اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى الأراضي المحتلة في الثمانينيات، مقدّماً الموساد كجهة نبيلة تنقذ أرواح الأبرياء.
وكانت هناك مسلسلات أميركية أخرى من إنتاج إسرائيليين أو بالشراكة مع هوليوود تحمل المضمون ذاته. مثلاً، Tyrant عام 2014، الذي صوّره جدعون رف أيضاً عن دولة عربية خيالية تعيش صراعات دموية، ومسلسل Our Boys عام 2019.
لا يمكن قراءة كل هذه الأعمال بمعزل عن تزاوج سردي بين هوليوود وإسرائيل؛ فكلاهما قدّم نفسيهما في تلك السنوات كشريكين في معركة واحدة ضد “الإرهاب الإسلامي”، لتضخيم رواية الأخطار الأمنية في عقول المشاهدين، وسحق حقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
مع ذلك، ورغم القبضة المحكمة للوبي المؤيد لإسرائيل على هوليوود، بدأت في السنوات القليلة الماضية تظهر شروخ في جدار الصمت.
نجوم في مواجهة الإبادة
مع بداية شن إسرائيل إبادة جماعية على غزة، سارع عدد من نجوم هوليوود إلى إظهار تعاطفهم مع إسرائيل، من بينهم مادونا، إيمي شومر، سارة سيلفرمان، ناتالي بورتمان، كايلي جينر، وغال غادوت، التي كرّست حسابها على إنستغرام لنشر الرواية الإسرائيلية.
لكن مع تصاعد الإبادة، تدفّقت صور آلاف الضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء تحت الأنقاض، بلا انقطاع، على هواتف الناس، بما فيهم المشاهير. هذه الفظائع كسرت، إلى حد بعيد، جدار الدعاية الذي طالما برّر كل أفعال إسرائيل تحت شعار “الدفاع عن النفس”، وجعلت من كل صوت يدعم إسرائيل عرضة لضغط أخلاقي من متابعيه.
ومع ازدياد الغضب الشعبي على وسائل التواصل، تعرّض هؤلاء النجوم لهجوم وانتقادات حادّة. بعضهم لجأ إلى حذف منشوراته، مثل كايلي جينر التي كانت قد كتبت: “الآن ودائماً، نقف مع شعب إسرائيل”، قبل أن تسارع إلى حذفه، فيما حاول آخرون تعديل مواقفهم وإظهار “توازن” في خطابهم.
حتى غال غادوت – الممثلة الإسرائيلية والمجندة السابقة في جيش الاحتلال – كتبت: “قتل المدنيين الفلسطينيين أمر مروّع. وقتل المدنيين الإسرائيليين أمر مروّع. إذا لم تشعروا بالأمرين بالطريقة نفسها، فعليكم أن تسألوا أنفسكم لماذا”. غير أن هذا الموقف جلب عليها هجوماً شرساً من الداخل الإسرائيلي، حتى إن مذيعة شهيرة خاطبتها قائلة: “اصمتي… أنتِ تقلقين على دخلك ومسيرتك، لكنكِ تجاوزتِ الخط هذه المرة.” فحذفت غادوت كلامها، وأعادت التأكيد على ولائها المطلق لإسرائيل.
لكن مع استمرار الإبادة الإسرائيلية، بدأ عدد متزايد من نجوم هوليوود يخرجون عن صمتهم. إذ لم يعد المطالِب بوقف إطلاق النار ووقف حرب الإبادة محصوراً في الأصوات المعروفة بدعمها لفلسطين من قبل، مثل الفنان الإيرلندي ليام كونينغهام – أحد أبطال مسلسل صراع العروش – الذي ظل يرفض الاعتداء على الشعب الفلسطيني في غزة، وشارك، منذ الأيام الأولى للحرب، صوراً وأخباراً متتابعة عبر حساباته الشخصية لاطلاع متابعيه على ما يجري للفلسطينيين.
وإلى جانبه، واصلت سوزان ساراندون تكريس حساباتها على وسائل التواصل لفلسطين، فظهرت في المظاهرات المؤيدة لها، كما انضمت لمحاولة كسر الحصار مع فنانين وناشطين من 44 دولة ضمن “أسطول الصمود العالمي”، الذي انطلق بعشرات السفن المحمّلة بالمساعدات الإنسانية من موانئ البحر الأبيض المتوسط، في أضخم تحدٍّ مدني للحصار الإسرائيلي.
وحتى مع شن إسرائيل حرب إبادة مدمّرة على قطاع غزة، وصف خلالها وزير دفاعها السابق “يوآف غالانت” – المطلوب دولياً بتهم ارتكاب جرائم حرب – الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، وجدت سوزان ساراندون نفسها هدفاً لحملة هجوم شرسة، أعلنت على إثرها وكالة المواهب المتحدة (UTA) التخلي عنها.
كذلك شهدنا طرد الممثلة الصاعدة ميليسا باريرا من بطولة فيلم Scream الجديد، لمجرّد أنها نشرت عبر إنستغرام تعليقات تنتقد المجازر الإسرائيلية في غزة.
رغم ذلك، تزايدت المبادرات الفردية الشجاعة: الممثل بيدرو باسكال – نجم مسلسل The Mandalorian – استمر في نشر عبارات داعمة لغزة، وواجه بدوره هجوماً إلكترونياً من الحملات الموالية لإسرائيل.
أما الممثلة سوزان ساراندون – ورغم فصلها من وكالة المواهب – فلم تتراجع، بل ضاعفت مشاركتها في مظاهرات مطالبة بوقف الحرب على غزة. ومع كل اسم كبير يكسر حاجز الخوف، كانت الجرأة تُلهم مزيداً من الأسماء اللامعة للحاق بالركب.
وسرعان ما تحوّلت هذه التحركات الفردية إلى خطوات جماعية أوسع، ففي مايو/أيار 2025، وقّع أكثر من 370 فناناً ومخرجاً خطاباً مفتوحاً يندد بـ”الإبادة الجماعية في غزة”، من بينهم أسماء ثقيلة الوزن مثل: واكين فينيكس، بيدرو باسكال، ريز أحمد، غيييرمو ديل تورو، مارك رافالو، سوزان ساراندون، رووني مارا، خافيير بارديم، وريتشارد غير. وقد جاء البيان بعبارات قاطعة: “لا يمكننا كفنانين أن نصمت بينما تُرتكب إبادة جماعية في غزة. علينا أن نرفض الدعاية التي تستعمر خيالنا وتشوّه إنسانيتنا”.
وفي سبتمبر/أيلول 2025، بلغ هذا التحول ذروته، حيث وقّع أكثر من 1200 من صُنّاع السينما والتلفزيون حول العالم – بينهم فائزون بجوائز الأوسكار والبافتا والإيمي والسعفة الذهبية – على عريضة تعهّدوا فيها بعدم التعاون مع الشركات والمؤسسات الإسرائيلية المتورطة في الإبادة الجماعية ونظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.
ومن أبرز الأسماء الموقّعة: المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس، والأميركية إيفا ديفورني، والأميركي آدم مكاي، والبريطاني مايك لي. ومن الممثلين: أوليفيا كولمان، إيمي لو وود، جوش أوكونور، مارك رافالو، وسينثيا نيكسون.
وحتى ضمن البنية الصناعية لهوليوود نفسها، بدأت تظهر كيانات مقاومة للهيمنة التقليدية. فمجموعة “عمال الترفيه من أجل فلسطين” (Entertainment Labor for Palestine)، وهو تحالف من العاملين المؤيدين لفلسطين في قطاعَي السينما والتلفزيون، نظّمت اعتصامات واحتجاجات أمام مقرات أكاديمية الأوسكار وغيرها.
في مارس/آذار 2025، اعتصم العشرات أمام مقر الأكاديمية في لوس أنجلوس، مطالبين إياها بإدانة اعتداء المستوطنين الإسرائيليين على المخرج الفلسطيني حمدان بلّال – الذي كان قد فاز بجائزة أوسكار عن فيلمه الوثائقي No Other Land – بعد أن قام مستوطنون بضربه واعتقلته قوات الاحتلال.
ورغم أن الأكاديمية لم تستجب صراحةً للمطلب واكتفت ببيان غامض، وبحسب أحد أعضاء تلك المجموعة (رفض ذكر اسمه خوفاً من انتقام إدارات الاستوديوهات)، فإن “التنفيذيين في هوليوود لم يتنازلوا قيد أنملة منذ بدء الإبادة”، إلا أنه، رغم هذا القمع، نظّم EL4P سلسلة من التحركات المؤيدة لفلسطين في الأشهر الماضية، أربكت أحداثاً كبرى في الصناعة.
ففي فبراير/شباط، تظاهر أعضاؤه في العرض الأول لفيلم Captain America: Brave New World، وأفسدوا فعالية السجادة الحمراء لدرجة أن البث المباشر للحدث أُلغي، بحسب الشهادات. ودعا التحالف إلى مقاطعة الفيلم بسبب إدخال شخصية “سابرا” – بطلة خارقة إسرائيلية – المقتبسة من عميلة في جهاز “الموساد”.
تجاهلت وسائل الإعلام التقليدية الاحتجاج، لكن صحفاً متخصصة مثل Variety تناولته، إلى جانب تغطية واسعة في الإعلام الإسرائيلي.
بينما أعلنت شركة ديزني في مطلع 2025 عن إلغائها العرض الأول في المملكة المتحدة لفيلمها الضخم سنود وايت (بياض الثلج)، وأن العرض الافتتاحي في هوليوود سيكون محدوداً للغاية، بدون سجادة حمراء تقليدية. والسبب؟ خوف الشركة من احتجاجات مؤيدة لفلسطين، كونه من بطولة الممثلة الإسرائيلية غال غادوت.
وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، اهتزّت واحدة من أعرق منصات السينما العالمية بقصة طفلة من غزة، حيث اختُتم مهرجان البندقية السينمائي في سبتمبر/أيلول 2025 بمشهد مؤثر حمل رسالة إلى العالم: فيلم صوت هند رجب (إخراج التونسية كوثر بن هنية) – الذي يجسّد اللحظات الأخيرة في حياة الطفلة الغزّية هند رجب، ذات الخمس سنوات، والتي استشهدت بعد أن صوّب عليها الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 355 رصاصة، بعد أن استنجدت بكل العالم لكن لا أحد تمكّن من إنقاذها – قوبل بعد عرضه الأول بتصفيق حارّ لمدة 22 دقيقة متواصلة، وسط دموع الكثيرين. وقف الحاضرون يهتفون “فلسطين حرّة”، ولوّحوا بالكوفية الفلسطينية.
إن مواجهة هوليوود مع نفسها اليوم ليست حدثاً معزولاً، بل جزء من تحوّل أوسع في الرأي العام العالمي. فإذا كانت هذه الصناعة قد لعبت لعقود دوراً في استعمار المخيلة الجماعية وتغذية رواية زائفة تبرّر الاحتلال والعنف، فإننا نشهد اليوم تصدّعاً في هذا الجدار على يد فنانين ملتزمين وأصوات ضمير حيّة.
صحيح أن هوليوود، كمؤسسة، ما زالت بمعظمها أسيرة دعمها التقليدي لإسرائيل، وأن مراكز القوى فيها – من استوديوهات ضخمة وشركات إنتاج كبرى يرأسها مؤيدون لإسرائيل – لن تتخلى بسهولة عن سياساتها القديمة. لكن ما كان يُعتبر يوماً تابو مطلقاً بدأ يتشقق. ومع كل صورة لطفل تحت الركام، ومع كل صوت فني يرفض الصمت، يتضح أن المخيلة التي طالما استُعمِرت لم تعد قابلة للإخضاع بالطريقة ذاتها.