من بيرل هاربر إلى الدوحة: التفاوض تحت النار وإعادة إنتاج مأزق الوساطة الأمريكية بين القانون الدولي والتاريخ السياسي

من بيرل هاربر إلى الدوحة: التفاوض تحت النار وإعادة إنتاج مأزق الوساطة الأمريكية بين القانون الدولي والتاريخ السياسي
بقلم رئيس التحرير
تشير التجارب التاريخية إلى أن التفاوض حين يقترن بالقصف العسكري يفقد أهم مقوماته وهي الثقة المتبادلة وحسن النية، فالدبلوماسية لا يمكن أن تزدهر تحت وقع النار. في السابع من كانون الأول عام 1941 شنت اليابان هجومها المباغت على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية بينما كان وفدها لا يزال يفاوض في واشنطن. ذلك التناقض بين لغة الحوار ووقع القنابل أنهى أي مجال للتفاهم وأجبر الولايات المتحدة على إعلان الحرب، فدخلت مباشرة في أتون الحرب العالمية الثانية وكان ذلك الهجوم نقطة تحول استراتيجية غيرت مسار التاريخ وأكدت أن الجمع بين المفاوضات والعدوان لا يفضي إلا إلى نتائج كارثية على الطرف الذي يتبناه.
اليوم يعاد إنتاج المشهد ولكن في سياق مختلف. في الدوحة تدار جولات تفاوضية برعاية قطرية ومصرية وبمشاركة أمريكية تبحث في ترتيبات وقف إطلاق النار في غزة وإعادة إعمار ما دمرته الحرب. وفي الوقت ذاته تواصل إسرائيل غاراتها الجوية على مقرات ومواقع مرتبطة بحركة حماس، وهو ما يعكس بوضوح سياسة التفاوض تحت النار. هذه السياسة لا تضعف فقط فرص التوصل إلى تسوية، بل تطرح تساؤلات جوهرية حول حياد الوساطة الأمريكية، إذ أن واشنطن التي تؤكد التزامها بالمسار السياسي هي ذاتها التي توفر الغطاء السياسي والعسكري لاستمرار العمليات الإسرائيلية. وهكذا تظهر الولايات المتحدة في موقع الشريك المنحاز أكثر من الوسيط النزيه، الأمر الذي يقوض ثقة الفلسطينيين والإقليم بجدوى أي عملية تفاوضية تجري تحت رعايتها.
من الناحية القانونية، يشكل استمرار القصف أثناء المفاوضات إشكالية خطيرة. فـ اتفاقيات لاهاي لعام 1907 أكدت ضرورة إعلان الأعمال العدائية قبل مباشرتها، كما أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 شددت على حماية المدنيين وضمان احترام حسن النية في أثناء التفاوض. أما ميثاق الأمم المتحدة فقد نص بوضوح في مادته الثانية على حظر استخدام القوة أو التهديد بها بما يقوض السلم والأمن الدوليين. إن استهداف المقرات المدنية والسياسية خلال مسار تفاوضي يضع إسرائيل في مواجهة مباشرة مع هذه المرجعيات القانونية، ويضع الولايات المتحدة بدورها أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية بحكم موقعها كقوة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن.
المقارنة بين بيرل هاربر والدوحة تكشف ملامح استراتيجية متكررة، ففي الحالتين جرى استخدام المفاوضات كغطاء لعمليات عسكرية، وفي الحالتين قُوضت الثقة وأُعيد تشكيل المعادلة السياسية. إلا أن الفارق الأساسي يكمن في رد الفعل الأمريكي، ففي عام 1941 جاء الرد حاسما بإعلان الحرب على اليابان، أما اليوم فتختار الولايات المتحدة إدارة التناقض بين التفاوض والقتال بدلاً من حسمه، وهو ما يضعف مصداقيتها كوسيط دولي ويجعلها في موقع من يسعى لتثبيت معادلات ميدانية أكثر من سعيه لحل النزاع.
النتائج الاستراتيجية لهذا النهج قد لا تكون بعيدة عن دروس التاريخ. فاليابان بعد بيرل هاربر واجهت عزلة دولية وانتهى مسارها إلى الهزيمة. وإسرائيل اليوم تخاطر بأن تقود سياساتها إلى عزلة مشابهة مع اتساع الاعترافات الدولية بدولة فلسطين وتزايد المطالبات بالتحقيق في الانتهاكات أمام المحكمة الجنائية الدولية. وإذا لم تعمد الولايات المتحدة إلى إعادة تموضع حقيقي في دورها كوسيط، يضمن احترام قواعد القانون الدولي ويؤمن بيئة تفاوضية بعيدة عن الضغوط العسكرية، فإن مفاوضات الدوحة قد تتحول بدورها إلى لحظة تاريخية فاصلة تُسجَّل كفشل استراتيجي يفاقم الأزمة بدل أن يفتح أفقا للحل.
المراجع القانونية
- ميثاق الأمم المتحدة، المادة 2/4 بشأن حظر استخدام القوة أو التهديد بها، 1945.
- اتفاقيات لاهاي لعام 1907، الاتفاقية الثالثة بشأن افتتاح الأعمال العدائية، المادة 1.
- اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، لا سيما الاتفاقية الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين.
- البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، المواد 48–51 بشأن حماية المدنيين والأعيان المدنية.
- المحكمة الجنائية الدولية، مكتب المدعي العام، بيانات بشأن الوضع في فلسطين (2024–2025).
- قرارات مجلس الأمن: القرار 242 (1967)، القرار 338 (1973)، القرار 1860 (2009).
المراجع التاريخية والسياسية
- Franklin D. Roosevelt, Day of Infamy Speech, United States Congress Records, December 8, 1941.
- Gordon W. Prange, At Dawn We Slept: The Untold Story of Pearl Harbor, Penguin Books, 1982.
- Roberta Wohlstetter, Pearl Harbor: Warning and Decision, Stanford University Press, 1962.
- John Toland, Infamy: Pearl Harbor and Its Aftermath, Doubleday, 1982.
- Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World, W.W. Norton & Company, 2014.
- Rashid Khalidi, The Hundred Years’ War on Palestine, Metropolitan Books, 2020.
- تقارير الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، 2023–2025.
- بيانات وزارتي الخارجية القطرية والمصرية بشأن مفاوضات الدوحة، 2024–2025.