جريمة الـ«بايجرز»: وهم ضربة قاضية لم تنهِ حزب الله

جريمة الـ«بايجرز»: وهم ضربة قاضية لم تنهِ حزب الله
أرادت إسرائيل من جريمة الـ«بايجرز» أن تكون ضربة قاضية تفوق الخيال. لكن، رغم الخسائر، تمكن حزب الله من سدّ الثغرات سريعاً، وأثبت قدرة على إعادة إنتاج نفسه بسرعة تفوق توقعات حتى أقرب الحلفاء
في الذكرى الأولى لجريمة الـ«البايجرز» واللاسلكي، تتضح أهميتها كإحدى الذروات غير المسبوقة في مسار المواجهة بين المقاومة والعدو الإسرائيلي.
فالاستهداف الواسع لم يكن مجرد عملية عسكرية كبرى، بل خطوة مدروسة لترجمة التفوق التكنولوجي والاستخباري الإسرائيلي إلى سلاح مركّب يضرب الجسد والوعي معاً. وقد جمع بين ثلاثة أبعاد متداخلة: العملي، والنفسي، والردعي. من هذا المنطلق، شكّلت العملية محاولة لإحداث صدمة استراتيجية تشبه في مفاعيلها «أسلحة الدمار الشامل»، لما تحمله من قدرة على إيقاع أذى مادي ونفسي ومعنوي واسع، يحوّل النزيف البشري إلى أداة تمهّد لانقلابات سياسية وميدانية حاسمة.
البعد العملياتي
في التقديرات الإسرائيلية، كان الهدف من الضربة إحداث شلل شبه كامل في بنية المقاومة عبر تحييد آلاف المقاتلين من أصحاب الخبرات المتنوعة. ورغم أن الخسائر كانت كبيرة، وأن الخطة – وفق اعتراف وزير الأمن يوآف غالانت – هدفت إلى القضاء على نحو 15 ألف مقاوم، إلا أن النتائج جاءت مغايرة.
إذ تمكّن حزب الله من سدّ الثغرات سريعاً، وأثبت امتلاكه قاعدة واسعة من الكفاءات المهنية والعقائدية القادرة على استيعاب الصدمة وإعادة تشغيل ماكينة المقاومة في وقت قياسي. هذا التماسك عزز صورة الحزب كمؤسسة مرنة وديناميكية، لا ترتكز على أفراد بل على منظومة متكاملة قادرة على التعلّم والتكيّف. ولم يقتصر الأمر على الحفاظ على الجاهزية، بل استمر النشاط الصاروخي والدعم اللوجستي بمستوى أحدث إرباكاً واضحاً في الحسابات الإسرائيلية لاحقاً.
هذه التجربة أنجبت أيضاً جيلاً جديداً من القادة الميدانيين، صُقلوا تحت النار، وفرضوا معادلات ميدانية جديدة تؤكد أن المقاومة ليست مجرد بنية عملياتية جامدة بل بيئة حية قادرة على التجدد، وأن أي ضربة – حتى لو حملت أبعاداً أسطورية – يمكن أن تتحول إلى درس عملي في البناء وإعادة التموضع، وأن قدرة الحزب على إعادة إنتاج نفسه وبسرعة تفوق توقعات حتى أقرب الحلفاء.
البعد النفسي
كانت إسرائيل تراهن على أن ضربة «تفوق الخيال» ستصيب الجهاز النفسي للمقاومة بالشلل وتزرع الخوف في بيئتها. لكن عقيدة الشهادة قلبت المعادلة. بل إن العملية، بدل أن تزرع الانكفاء، عمّقت الحافزية لمواجهة عدو بدا وكأنه يستهدف البشر لا السلاح، خاصة في موازاة حربه على المدنيين. هذا التوازي خلق سردية جديدة ترى في كل ضربة إسرائيلية اعتداءً على الإنسانية، ما زاد من تعبئة المجتمع المحيط بالمقاومة، وحوّل المأساة إلى مادة ثقافية عززت الشرعية الأخلاقية والالتزام الشعبي.
البعد الردعي
ظنّ العدو أن ضربة بهذا الحجم ستُثبّت معادلة الردع وتفتح الطريق إلى إخضاع المقاومة. لكن بعد عام كامل، تبيّن أن حزب الله لم ينكسر ولم يتراجع عن ثوابته، بل عزّز مناعته الداخلية وأرسى دينامية مواجهة أكثر تعقيداً. واصطدمت إسرائيل بحقيقة أنّ المقاومة ليست مجرد هيكل عملياتي، بل مجتمع عقائدي متماسك.
أثبتت المقاومة امتلاكها
قاعدة واسعة من
الكفاءات القادرة على استيعاب الصدمة في وقت قياسي
واستراتيجياً، مثّلت العملية اختباراً لقدرة المقاومة على تخطّي الجراح، ليتضح أنها حولت كل عنصر من عناصر الضربة إلى فرصة لتطوير قدراتها وبناها التحتية، البشرية واللوجستية والأمنية.
دروس للمستقبل
إلى جانب أبعادها الميدانية والنفسية والردعية، حملت الجريمة رسائل تكنولوجية واستخبارية وأخلاقية عميقة. فقد كشفت عن إدخال أدوات وأشكال مواجهة كانت تبدو حتى زمن قريب أقرب إلى الخيال العلمي، وفي المقابل فتحت للمقاومة آفاقاً لإعادة إنتاج نفسها بما يتناسب مع هذا النمط الجديد من الحرب، ما حوّل الجريمة إلى مختبر واقعي لامتحان القدرة على التكيّف، وصياغة خطط دفاعية وهجومية مبتكرة تتعامل مع الخطر بأدوات وأساليب حديثة.
تُظهر هذه المحطة أنّ التفوق التقني، مهما بلغ من تطوّر، يفقد مفاعيله حين يواجه بنياناً عقائدياً وسياسياً وأخلاقياً صلباً. فقد أرادت إسرائيل أن تُحدث شللاً عملياً وانهياراً نفسياً وردعاً دائماً، فإذا بها تصطدم بواقع مختلف: مقاومة تُحوّل كل ضربة إلى مدرسة، وكل خسارة إلى وقود للبقاء.
هكذا تتجدد المقاومة وتعيد إنتاج نفسها بما يواكب متطلبات المواجهة الحديثة، كاشفة عن استعداد غير محدود للتضحية وإرادة عصيّة على الانكسار أمام «الخيال العلمي» للعدو. ومن هنا يتضح أن الصراع لم يعد مجرّد تبادل ضربات، بل معركة وجود بين منظومة عدائية وشعب جسّدت المقاومة إرادته بتحويل الخسارة إلى طاقة متجددة. وفي هذا التفاعل تتقدّم دينامية التعلّم والتكيّف على وهم «الضربة القاضية»، مؤكدة أن الحرب ليست فقط معركة سلاح، بل معركة وعي وإرادة.