قمّة الدوحة بين الرمزية المكرورة وغياب الإرادة الفاعلة

قمّة الدوحة بين الرمزية المكرورة وغياب الإرادة الفاعلة
لم يكن سوى تكرارٍ آخر لواحدٍ من أكثر المشاهد التي أرهقت الوعي العربي والإسلامي: القمم الطارئة التي ترفع الشعارات وتفيض بالبيانات، لكنها سرعان ما تتبخر في هواء السياسة الدولية الصلد، حيث لا يُبقي ولا يذر. القمّة العربية ــ الإسلامية في قطر جاءت على وقع اعتداء إسرائيلي فجّ، طال السيادة القطرية نفسها، في رسالة بالغة الوقاحة، مفادها أن إسرائيل قادرة على خرق أي حدود، حتى حدود الدولة التي تمثّل أحد أبرز الوسطاء في ملف غزة.
غير أنّ وقع هذا الاعتداء لم يُترجم إلى قرارات بحجم الخطر، بل ظلّ في دائرة الإدانة الإنشائية، التي باتت بضاعة راكدة في أسواق الديبلوماسية العربية.
أولاً: ضعف الإجراءات العملية
البيان الختامي، رغم لغته الحادة، خلا من أي آلية ردع أو عقوبات محددة. لم نسمع عن لجنة تحقيق دولية، ولا عن خطوات عقابية اقتصادية أو ديبلوماسية يمكن أن تضع إسرائيل في زاوية ضيقة. هكذا تُرك الموقف في إطار الرمزية المكرورة، وكأن شعوب الأمّة مطالبة بالاكتفاء بالتصفيق لمفردات رنانة، بلا أدوات تنفيذية على الأرض.
ثانياً: التناقض بين الوساطة والخرق
المفارقة الكبرى أن قطر، التي جعلت من الوساطة رسالتها السياسية منذ اندلاع حرب غزة، تستضيف القمّة بعد أن تعرّضت أرضها لانتهاك مباشر. التهديدات الإسرائيلية بأن «حماس» ستُلاحق «حيثما وُجدت» لم تُواجَه بحزم يليق بخطورة التصريح. أي معنى يبقى للوساطة إذا كانت الدولة الوسيطة نفسها غير مصونة من العدوان؟
ثالثاً: غياب ضمانات التنفيذ
التجربة مع القمم السابقة علّمتنا أن الإدانة وحدها لا تُسقط طائرة، ولا تحمي طفلاً تحت الأنقاض. القمّة لم تُرفق كلماتها بآليات متابعة: مَن سيُحاسِب؟ مَن سيرفع الدعوى أمام محكمة الجنايات الدولية؟ مَن سيلاحق مجرمي الحرب؟ الأسئلة مفتوحة، والإجابات غائبة، والشعوب تكتوي بلهيب الغياب.
لقد أراد الناس «خطوات بحجم المأساة»، فجاءهم «بيان بحجم الورق». وفي هذا الفارق الضخم تكمن مأساة السياسة العربية الراهنة
رابعاً: المأزق القانوني والديبلوماسي
الهجوم الإسرائيلي مثّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولسيادة دولة مستقلة. ومع ذلك، لم تُطرح خطوات قانونية جدّية، لا على صعيد محكمة العدل الدولية ولا عبر مجلس الأمن. بدت القمّة وكأنها تتهيّب مواجهة الغرب خشيةً من تداعيات ديبلوماسية، ففضّلت أن تحتمي وراء العبارات الرمزية بدلاً من اقتحام ميادين القانون الدولي حيث المعركة الأشدّ تأثيراً.
خامساً: القمّة كعرض رمزي لا أكثر
منذ الساعات الأولى، حُكم على القمّة أن تكون مظاهرة معنوية، أكثر منها خطة سياسية متكاملة. الشعوب كانت تنتظر وقفاً لإطلاق النار، آلية لحماية المدنيين، رؤية جديدة توقف نزيف الدم في غزة. لكن ما صدر لا يعدو كونه ترديداً لصدى قديم: إدانات، شجب، استنكار. وبينما تنتهي الكلمات، تستمر المعاناة.
صدى الداخل العربي: نقد بلا هوادة
الانتقادات لم تأتِ فقط من المحللين الدوليين، بل من قلب الشارع العربي والإسلامي. النشطاء وصفوا البيان بأنه ضعيف، لا يرقى إلى مستوى التحدّي. آخرون دعوا إلى خطوات ملموسة: تجميد التطبيع، مقاطعة اقتصادية، سحب السفراء. هناك من تساءل علناً: هل تملك الحكومات العربية الإرادة السياسية للتضحية بمصالحها مع واشنطن وتل أبيب؟ أم أنّ القمّة مجرّد محاولة لتسكين الغضب الشعبي؟
الأدهى أنّ بعض التقارير تحدّثت عن وجود «تنسيق ضمني» مع الولايات المتحدة في صياغة بنود القرار، ما فتح الباب واسعاً أمام اتهامات بأنّ البيان خضع للتخفيف، وأنه صيغ بحيث يرضي الحلفاء الغربيين أكثر ممّا يواسي شعوب المنطقة. وهنا تتجلّى المعضلة: كيف نقنع شعوبنا أننا مستقلّون في قرارنا، بينما نصوصنا السياسية تعكس موازين قوى خارجية أكثر مما تعكس وجدان الأمة؟
بين الحلم والواقع
قمّة الدوحة، في جوهرها، لم تكن سوى مرآة لما نعانيه منذ عقود: انفصال بين الشعارات والقرارات، بين الطموحات والقدرة على التنفيذ. لقد أراد الناس «خطوات بحجم المأساة»، فجاءهم «بيان بحجم الورق». وفي هذا الفارق الضخم تكمن مأساة السياسة العربية الراهنة.
إن لم تتحوّل هذه القمم إلى أدوات عملية للتأثير في موازين القوى، فستبقى مجرّد مهرجانات خطابية، تسجّل في دفاتر التاريخ على أنها «لحظات رمزية» لا تغيّر من صلب الواقع شيئاً. ولعلّ السؤال المؤلم الذي يفرض نفسه: كم قمّة أخرى يجب أن نعقد، قبل أن ندرك أن تحرير الإرادة السياسية هو الخطوة الأولى لتحرير الأرض والإنسان؟
*باحث ونائب سابق في البرلمان البحريني