فلسطين

44 ألف مهجّر منذ تسعة أشهر: كيف يعيش فلسطينيّو المخيمات؟

44 ألف مهجّر منذ تسعة أشهر: كيف يعيش فلسطينيّو المخيمات؟

يعيش 44 ألف مهجّر من مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس في أوضاع قاسية، فيما يواصل الاحتلال محو هويتها وفرض شروط تقطع الطريق على حق العودة.

أحمد العبد

رام الله | بعد قرابة 9 أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي عليها، تحوّلت مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس إلى ما يشبه «مدن الأشباح»؛ إذ لا يزال يفرض جيش الاحتلال حصاراً كاملاً عليها، مانعاً سكانها من العودة إليها والمؤسّسات التي كانت قائمة فيها من استئناف نشاطها هناك. واضطرّ أكثر من 44 ألف فلسطيني هُجّروا من تلك المخيمات، إلى العيش في بعض القرى والبلدات المحيطة، في ظروف معيشية غاية في الصعوبة والضيق، بعد أن فقدوا جميع ممتلكاتهم.

وتقول عضوة «اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين»، ورئيسة جمعية «كي لا ننسى»، فرحة أبو الهيجا، لـ«الأخبار»، إن «نحو 22 ألف لاجئ نزحوا من مخيم جنين منذ 9 أشهر، بشكل قسري ومؤلم، أثر على أوضاعهم النفسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث كانت هناك صعوبة في إيجاد مأوى لهم». وتلفت أبو الهيجا إلى أن «النازحين يعيشون اليوم في إسكانات الجامعة العربية الأمريكية في قرية الزبابدة وأحياء المدينة والقرى والبلدات المحيطة والقريبة منها، وهم يعانون من واقع صعب، فقد فقدوا منازلهم وأعمالهم ومشاريعهم الصغيرة».

ومع انطلاق العام الدراسي الجديد في أيلول، وجد أطفال المخيمات أنفسهم بعيدين من مدارس «الأونروا» التي يلتحقون بها عادة، وهو ما دفع إلى استضافتهم في مدارس الحكومة بواقع 3 أيام في الأسبوع. لكن أبو الهيجا تؤكد أن «العملية التعليمية منقوصة، وهذا سيؤثر على الطلاب من ناحية مستوى تحصيلهم الأكاديمي، كما إن الأطفال وذويهم يواجهون صعوبات بالغة بسبب نقلهم الأطفال من مناطق النزوح إلى المدارس، والذي يجعلهم يعيشون في توتر وخوف دائمين على أطفالهم، خاصة أن قوات الاحتلال دائمة التواجد في المدينة والمخيم وتعتدي على السكان».

وتشير أبو الهيجا إلى أن «مخيم جنين محاصر بالكامل من قوات الاحتلال، التي نصبت 4 بوابات عسكرية حديد على مداخله كافة، ولا تسمح نهائياً لأي أحد بالاقتراب من أطرافه ومداخله، بينما نسمع يومياً أصوات انفجارات وإطلاق نار، ما يعني استمرار عمليات التدمير للمخيم ومنازله».

وإذ تعمل أبو الهيجا، عبر جمعية «كي لا ننسى»، على تقديم دعم نفسي واجتماعي للأطفال والنساء كونهم الأكثر تضرّراً من العدوان، ويعانون أوضاعاً صعبة صحياً، فضلاً عن أن بعضهم لديه أمراض مزمنة ومنها السرطان، فهي تؤكد أن «المعاناة تبقى أكبر من قدراتنا»، مضيفةً أن «ما نقدّمه اليوم من مساعدات إغاثية وطرود غذائية وصحية وملابس، يظلّ محدوداً قياساً بعدد النازحين».

وتتحدث عن «وجود أزمات نفسية لدى الطلاب الذين يرفضون الالتحاق بالمدارس، ويصرّون على العودة إلى مدارسهم في المخيم»، متابعة أن «هذا الأمر ولّد نوعاً من العنف لدى الأطفال». وتقول: «فوجئنا بأن عدداً كبيراً من الطلاب، خلال توجههم إلى المدرسة، كانوا يقصدون مداخل المخيم حيث كان جنود الاحتلال يطلقون النار عليهم، ما أسفر عن استشهاد طفلين قبل أيام».

وتصف أبو الهيجا الواقع الأمني بأنه «صعب جداً»، موضحةً أن «قوات الاحتلال، الراجلة والمحمولة على السواء، تتحرّك على مدار الساعة داخل المخيم وفي أحياء المدينة، وسط عمليات استيلاء على الأراضي المحيطة به وأعمال تجريف، إلى جانب الانتهاكات والاعتداءات التي تطاول المواطنين والمارّة والمحال التجارية». وإذ تشير إلى أنه لا يوجد حتى الآن «تصوّر حقيقي عمّا جرى في داخل مخيم جنين، بفعل منع الاحتلال الدخول إليه»، فهي تستدرك بأن بعض الصور الملتقطة له تُظهر أن معالمه تغيّرت بالكامل؛ وبحسب شهادات بعض المواطنين الذين تمكّنوا من الدخول إليه، فإنهم صُدموا وذُهلوا ممّا شاهدوه، حيث بدت «معظم المنازل مهدّمة أو محروقة، والبنية التحتية مدمّرة بالكامل، وكذلك المؤسسات والعيادات والمدارس».

ما حصل في العملية العسكرية الأخيرة «كان شاملاً وغير مسبوق»

وإزاء ذلك، تقول أبو الهيجا إن ما حصل في العملية العسكرية الأخيرة «كان شاملاً وغير مسبوق، مقارنةً بحجم الدمار الذي جرى خلال الانتفاضة الثانية عام 2002، حين اجتاحت قوات الاحتلال المخيم، ودمّرت جزءاً كبيراً منه». وتلفت إلى أن «أكثر من 70% من المنازل دُمّرت بالكامل، وما تبقى آيل إلى الانهيار ولا يصلح للسكن، إلى جانب ما جرى من تجريف لشقّ شوارع واسعة»، مؤكدة أن «هذا هو الهدف الأساسي من عملية التهجير: منع الأهالي من العودة وتغيير معالم المخيم، إذ يفقد هويته وتتغيّر ملامحه حتى لو جرى التوصل إلى حلول مستقبلية».

على أن فكرة محو المخيمات «ليست جديدة على العقلية الإسرائيلية»، بحسب أبو الهيجا التي تذكّر بأنه «دائماً ما تعرضت المخيمات لمجازر وعمليات عسكرية واجتياحات، نظراً إلى أن قضية اللاجئين التي تشكّل جوهر الصراع والقضية كانت محطّ استهداف دوماً». وتخلص إلى أن الوضع حالياً «لا يبشر خيراً وتصعب معه إعادة البناء»، مستدركة بأن «الناس يصرّون بشدة على عودتهم إلى المخيم ولو على شبر من الأرض وفي خيمة، ويرفضون أي حلول أخرى، وهم متمسكون بالمخيم كمحطة انتظار حتّى العودة إلى قراهم».

نور شمس وطولكرم: 79 مليون دولار خسائر

 

أما حول مخيّمَي نور شمس وطولكرم، فيقول رئيس «لجنة الخدمات الشعبية في نور شمس»، نهاد الشاويش، إن الاحتلال «أعدمهما بشكل كامل، حتى أصبحا خاليين من السكان والخدمات، وخاضعَين للاحتلال العسكري الدائم»، موضحاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أنه «بعد مرور تسعة أشهر على اجتياح المخيمين، يعيش النازحون في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، ويقبع جزء كبير منهم تحت خط الفقر وهم في حاجة إلى كلّ شيء»؛ علماً أنهم موزّعون «إمّا في مراكز النزوح (المدارس أو المساجد) التي قصدوها، أو في المنازل التي لجأوا إليها، وسط تأخّر البعض عن دفع إيجارات المنازل».

وتشمل تلك الاحتياجات الجوانب الإغاثية والطبية وحتى التعليمية، بحسب الشاويش، الذي يبيّن أن «طلبة الثانوية الناجحين يفترض أن يلتحقوا بالجامعات، ولكنّ ذويهم عاجزون عن تغطية التكاليف»، وهذا ما ينسحب أيضاً على طلبة المدارس، الذين تمّ تخصيص ثلاث مدارس حكومية في المحافظة لاستيعابهم، غير أن «نقلهم إليها يواجه صعوبات كبيرة». ويلفت إلى أن «قوات الاحتلال تنتشر بشكل دائم في نور شمس عبر نقاط عسكرية أنشئت في بعض المناطق، وتسيير دوريات مشاة وآليات، إلى جانب الطائرات المسيّرة، فضلاً عن نصب كاميرات مراقبة مرتبطة بتلك النقاط».

وعن حجم الدمار داخل المخيم، يقول الشاويش إن «تقديراتنا تشير إلى أن القيمة الإجمالية لما جرى تدميره تبلغ نحو 79 مليون دولار؛ إذ دُمِّرت المحال التجارية بالكامل، ونحو 400 وحدة سكنية هُدمت لشقّ شوارع واسعة، فيما أُحرقت قرابة 80 وحدة سكنية. وفي المحصلة، لم يَسلم أيّ منزل في نور شمس من دمار الاحتلال، إذ تضرّرت كلّ المنازل إمّا كلياً أو جزئياً».

وحول مستقبل المخيم، يذكّر الشاويش بأن «الوفد الأميركي الذي زار المخيم قبل شهرين بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، أبلغ الأخيرة بالشروط الإسرائيلية للانسحاب منه، وأبرزها: منع أيّ نشاط سياسي داخله، وإخضاع العائدين لفحص أمني إسرئيلي، ومنع وكالة الأونروا من العمل فيه، والموافقة على التغييرات فيه بما فيها توسيع الشوارع. وفي حال عدم الالتزام بهذه الشروط، هدّد الاحتلال بتنفيذ اقتحام جديد في أيّ وقت»، ويؤكّد الشاويش، في الوقت نفسه، أن «الأهالي والمؤسسات يرفضون هذه الشروط التي تستهدف إنهاء قضية اللاجئين وتحويل المخيمات إلى ضواحٍ للمدن، بما يكرّس سياسة تصفية حقّ العودة».

تفكيك المخيمات كأداة للردع
من جهته، يؤكد المحلّل السياسي، سليمان بشارات، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الاحتلال بات يعمل وفق مخطّط شامل لإعادة هيكلة مخيمات الضفة الغربية، بدءاً ممّا نفّذه في العملية العسكرية في الشمال وصولاً إلى بقية المخيمات في مختلف مناطق الضفة». وبحسبه، فإن المستهدَف ليس المخيمات وحدها، إنما هي «المرحلة الأولى والعنوان الأبرز، فيما القرى والمدن أيضاً في دائرة الاستهداف». ويستدلّ على ذلك بـ«ما شاهدناه في الأيام الأخيرة من نصب الاحتلال لعشرات البوابات العسكرية على مداخل القرى والبلدات، ما حوّلها إلى سجون معزولة عن محيطها، في محاولة لإعادة رسم جغرافيا الضفة بما يسهّل السيطرة عليها والتحكم فيها».

وتترافق عملية إعادة رسم الجغرافيا تلك، مع إعادة هيكلة للبنية الفكرية والنفسية للفلسطينيين لإجبارهم على تقبّل الاحتلال كأمر واقع، وفقاً لبشارات، الذي يشير إلى أن «هذا ما يسعى الاحتلال إلى تكريسه عبر التواجد الدائم في جنين وطولكرم، واقتحاماته للمدن، من مثل رام الله ونابلس في وضح النهار، فضلاً عن إقامة الحواجز داخل المدن، بهدف تكريس وجوده كأمر «اعتيادي»، وإعادة الأوضاع إلى الحالة العسكرية المباشرة التي كانت قائمة قبل الانتفاضة الأولى».

ويعتبر بشارات أن ما يجري في المخيمات هو «تنفيذ عملي لما ورد في «صفقة القرن» – وإنْ من دون إعلان – التي لا يقتصر تطبيقها على تفكيك البنية الجغرافية والديموغرافية الفلسطينية فحسب، إنما تشمل أيضاً إنهاء العنوان السياسي الفلسطيني عبر هدم البنية المؤسساتية، ومحاربة الهوية الوطنية التي تمثل المخيمات رأس حربتها ورمزيتها ومكانتها على المستويين الفلسطيني والدولي». وبالتالي، إن ما يجري في المخيمات «ليس أمراً عرضياً، بل مخطّط ذو أبعاد إستراتيجية»، بحسب بشارات، الذي يلفت إلى أنه «كان في إمكان الاحتلال أن ينفّذ ما يريد في غضون أشهر قليلة ثم ينسحب، ولكنّ بقاءه داخل المخيمات، ومواصلته عمليات الهدم، يهدفان إلى إزالة الهوية التي تجسّد الحالة النضالية والسياسية الفلسطينية».

وينبّه بشارات إلى أن «ما طُبّق في جنين وطولكرم يمكن أن يُطبّق في بقية المخيمات»، مبيّناً أن «الاحتلال أراد من هذَين النموذجين أن يؤسّس لآلية يمكن تعميمها لاحقاً، ولكن التنفيذ يبقى رهناً بعوامل عدّة، أهمّها مدى نجاحه في تدجين الفلسطينيين على القبول بالأمر الواقع». ويشير، في الوقت نفسه، إلى أن «الاحتلال يسعى عبر هذين النموذجين إلى تحويل الفلسطيني إلى شخص مردوع»، موضحاً أن «عمليات التدمير والتهجير في بعض المخيمات ستجعل المواطنين في المخيمات الأخرى مردوعين، كما ستدفع المنظومة السياسية الفلسطينية إلى الخشية من تكرار التجربة، ثمّ تطويع نفسها لرغبات الاحتلال، ما يتيح للأخير تحقيق أهدافه من دون خوض عمليات عسكرية أخرى».

وعلى أي حال، ستبقى المخيمات في «دائرة الاستهداف»، لأن «بقاءها بطابعها الديموغرافي يعني استمرارها كحاضنة لأيّ عمل مقاوم». ولذلك، يرى بشارات أن الاحتلال «سيحاول تفكيكها، سواء عبر عمليات عسكرية مركّزة كما في جنين، أو عبر حملات اعتقال واغتيال، أو عبر سياسات التضييق المستمرّة».

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب