ثقافة وفنونمقالات
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلادُ ينتظراني بقلم خالد ضياء الدين
بقلم خالد ضياء الدين -طليعة لبنان -

أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلادُ ينتظراني
بقلم خالد ضياء الدين
في ذات لحظة تاخذك بعيداً عن ضجيج الحرب لتلقي بك قريبًا من زنازين الطغاة ومقاصلهم، كتب لي الأستاذ عثمان إدريس أبوراس رسالة يعرض ويفصل فيها واحدةً من أروع القصائد “ذائعة الصيت” التي كتبها الشاعر المناضل هاشم الرفاعي قبل ليلة تنفيذ حكم الإعدام فيه شنقًا، في زمن الرئيس جمال عبدالناصر.
ولأن التواصل مع أستاذنا أبو راس ليس ككل تواصل، كثيرًا ما أشرككم معي فيه لتعم الفائدة فكنزه يكفي الجميع وثماره المشبعة ليست حكرًا على شخص أو مجموعة، ولأن كانز المعرفة مثل كانز الذهب والفضة سيكوى بها، أجد مشاركتكم منجية لي.



العزيز أبوضياء.. أدهشتنا في صبانا قصيدة ليلة التنفيذ للشاعر هاشم الرفاعي،
الذي أُعدم شنقًا، بعهد عبدالناصر.. فحفظناها عن ظهر قلب وأعطيناها مكانة تفوق المعلقات السبع.. أعادت إلى مقاربة ما حل بشعبنا
من المحيط إلى الخليج مما هو دون الانحطاط سواء على مستوى الحكام أو المحكومين.. علي النقيض مما تفردت بها نخب طلبت السماء ولم تغرهم غرارة العبوس الأرض.. فامتدت أناملي للعم قوقل ليكمل ما أسقطه الدهر مما حفظناها.. فله الشكر على ذاكرته، التي لم تصدأ بل وتتجدد وتتقدم فلم تتبدد ولم تتقادم.. تشرئب نفوسنا لترقى لمشاعر هاشم…
وأدناه ما حبانا به الذاكر قوقل..
*****
*علمنا التاريخ الأدبي أن الشعراء الموهوبين يرزقون القدرة على أن يخترقوا الحجب، ويستشرفوا نهاياتهم بطريقة تقترب من الواقع أو تلامسه، ويبدو أن هذا هو ما حدث مع الشاعر هاشم الرفاعي وهو ينظم قصيدته عن الليلة السابقة على ليلة تنفيذ حكم الإعدام فيه، وكنا قد تحدثنا في مدونة سابقة عن مكانة هاشم الرفاعي المرموقة ونقده الواضح الصريح لطغيان عبد الناصر مما جعله كما قلنا في عنوان المدونة ثاني الشعراء، الذين قتلتهم ثورة 23 يوليو.
يخاطب هاشم الرفاعي أباه، معبرًا عن تجربة شاعر وطني مؤمن محكوم عليه بالإعدام يتفاعل مع قلقه وحيرته وهو ينتظر تنفيذ الحكم الظالم عليه بالإعدام شنقًا وهو يحاول أن يتجاوز ما فرضته عليه الظروف من سوداويته وهو عاكف على نفسه في زنزانة صخرية يرى ظلامها الدامس كفنًا له فيقول:
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني والحبلُ والجلادُ ينتظراني
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني
سَتَمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في هذا وتَحمِلُ بعدَها جُثماني
ثم هو يتحدث عن مكانة الإيمان في نفسه ووجدانه مستبشرًا بما كان يحفظه من القرآن، الذي يراه حافظًا له وهيئًا لراحة نفسه:
الليلُ مِنْ حَولي هُدوءٌ قاتِلٌ والذكرياتُ تَمورُ في وِجْداني
وَيَهُدُّني أَلمي فأنْشُدُ راحَتي في بِضْعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ
والنَّفْسُ بينَ جوانِحي شفَّافةٌ دَبَّ الخُشوعُ بها فَهَزَّ كَياني
قَدْ عِشْتُ أُومِنُ بالإلهِ ولم أَذُقْ إلاَّ أخيراً لذَّةَ الإيمانِ
شكرًا لهم أنا لا أريد طعامهم فليرفعوه فلست بالجوعان
هذا الطعام المر ما صنعته لي أمي ولا وضعوه فوق خوان
كلا ولم يشهده يا أبتي معي أخوان جاءاه يستبقان
وهو يجيد وصف قسوة الطغاة، الذين يمدون له من دمه طعامًا فيرفضه على حين يعبث السجان بالسلاسل وهو يراقبه وكأنه الشيطان المتنمر بصيده بينما الشاعر لا يعيره اهتمامًا ولا حقدًا معطيًا له العذر في قسوته عليه ويتصوره قادرًا على استعادة إنسانيته يومًا ما:
مدوا إلي به يدًا مصبوغة بدمي وهذه غاية الإحسان
والصَّمتُ يقطعُهُ رَنينُ سَلاسِلٍ عَبَثَتْ بِهِنَّ أَصابعُ السَّجَّانِ
ما بَيْنَ آوِنةٍ تَمُرُّ وأختها يرنو إليَّ بمقلتيْ شيطانِ
مِنْ كُوَّةٍ بِالبابِ يَرْقُبُ صَيْدَهُ وَيَعُودُ في أَمْنٍ إلى الدَّوَرَانِ
أَنا لا أُحِسُّ بِأيِّ حِقْدٍ نَحْوَهُ ماذا جَنَى فَتَمَسُّه أَضْغاني
هُوَ طيِّبُ الأخلاقِ مثلُكَ يا أبي لم يَبْدُ في ظَمَأٍ إلى العُدوانِ
لكنَّهُ إِنْ نامَ عَنِّي لَحظةً ذاقَ العَيالُ مَرارةَ الحِرْمانِ
فلَرُبَّما وهُوَ المُرَوِّعُ سحنةً لو كانَ مِثْلي شاعراً لَرَثاني
أوْ عادَ – مَنْ يدري – إلى أولادِهِ يَوماً تَذكَّرَ صُورتي فَبكاني
ثم إن هذا الشاب المؤمن، الذي يروي هاشم الرفاعي قصته في تلك الليلة العصيبة يتأمل في نافذة الجدار الغليظة، التي ترمز لحياة الخارج وما فيها من غليان وثورة مكبوتة تعبر عن نفسها بالهمس فيتساءل هو نفسه عن سبب ثورته على الظلم ويبدأ في لوم نفسه، التي دفعته لأن يسيل دمه بينما كان الإذعان كفيلًا بنجاته، فسيتوقف قلبه بينما الظلم باق وصاحب الطغيان يسير في ضلاله وغيه بلا اكتراث بالأرواح:
وَعلى الجِدارِ الصُّلبِ نافذةٌ بها معنى الحياةِ غليظةُ القُضْبانِ
قَدْ طالَما شارَفْتُها مُتَأَمِّلاً في الثَّائرينَ على الأسى اليَقْظانِ
فَأَرَى وُجوماً كالضَّبابِ مُصَوِّراً ما في قُلوبِ النَّاسِ مِنْ غَلَيانِ
نَفْسُ الشُّعورِ لَدى الجميعِ وَإِنْ هُمُو كَتموا وكانَ المَوْتُ في إِعْلاني
وَيدورُ هَمْسٌ في الجَوانِحِ ما الَّذي بِالثَّوْرَةِ الحَمْقاءِ قَدْ أَغْراني؟
أَوَ لَمْ يَكُنْ خَيْراً لِنفسي أَنْ أُرَى مثلَ الجُموعِ أَسيرُ في إِذْعانِ؟
ما ضَرَّني لَوْ قَدْ سَكَتُّ وَكُلَّما غَلَبَ الأسى بالَغْتُ في الكِتْمانِ؟
هذا دَمِي سَيَسِيلُ يَجْرِي مُطْفِئاً ما ثارَ في جَنْبَيَّ مِنْ نِيرانِ
وَفؤاديَ المَوَّارُ في نَبَضاتِهِ سَيَكُفُّ في غَدِهِ عَنِ الْخَفَقانِ
وَالظُّلْمُ باقٍ لَنْ يُحَطِّمَ قَيْدَهُ مَوْتي وَلَنْ يُودِي بِهِ قُرْباني
وَيَسيرُ رَكْبُ الْبَغْيِ لَيْسَ يَضِيرُهُ شاةٌ إِذا اْجْتُثَّتْ مِنَ القِطْعانِ
ويجيب الشاب نفسه عما طرحته من تساؤلات في مونولوجها السابق بما يليق ويتوافق مع سمو روحه العالية المضحية المستشرفة للنصر والمتيقنة من فيضانه القادم، وهو يقدم وصفًا دقيقًا لمتانة عقيدته المؤمنة بالنصر والواثقة فيه من خلال مجموعة من الصور الفنية البديعة والمتفردة وغير المسبوقة في تتابع رائع ومذهل:
هذا حَديثُ النَّفْسِ حينَ تَشُفُّ عَنْ بَشَرِيَّتي وَتَمُورُ بَعْدَ ثَوانِ