مع تواصل القطيعة مع الداخل والخارج الانقسام السياسي يفاقم التحديات والرهانات في تونس

مع تواصل القطيعة مع الداخل والخارج الانقسام السياسي يفاقم التحديات والرهانات في تونس
روعة قاسم
تنامت الخشية من صدامات قد تؤثر سلبا على مجمل الأوضاع في البلاد مع إصرار نقابات التعليم والصحة وغيرها من القطاعات على تنفيذ إضراباتها ومع إصرار السلطة على التصدي لها.
تونس ـ لا تزال تونس تعيش على وقع انقسام سياسي حاد لدى المكونات السياسية والحقوقية من دون التوصل لمساعي فعلية لتوحيد الرؤى والخروج من الأزمة المستعصية بأقل الأضرار. ويبدو أن البلاد ستواصل هذا النهج من الركود السياسي مع بداية السنة السياسية الجديدة بكل ما تفرضه من تحديات ورهانات.
وأثارت تصريحات الرئيس قيس سعيد خلال ترؤسه لمجلس الوزراء الأخير والتي تعرض فيها إلى جملة من المسائل ردود فعل واسعة، إذ مثلت دليلا قاطعا بالنسبة للكثيرين على أن السنة السياسية في تونس لن تشهد تغييرات جذرية خاصة فيما يتعلق بعلاقة السلطة بالمعارضة. إذ بدا لهؤلاء أن دار لقمان باقية على حالها ولا مجال للحديث عن انفراج في الوضع السياسي ولا عن حوار جامع لا يقصي أحدا مثلما تطالب بذلك أطياف من المعارضة وعدد من منظمات المجتمع المدني وفئة هامة من عموم التونسيين أيضا.
في الأثناء تواصل المعارضة وقفاتها الاحتجاجية تضامنا مع الموقوفين حيث نظمت «جبهة الخلاص الوطني» وقفة بالشارع الرئيسي للعاصمة تضامنا مع المعتقلين. وأكدت الشعارات المرفوعة في هذه الوقفة التزام المتظاهرين بمواصلة الدفاع عن المعتقلين وتمسّكهم بما سموه «النضال الديمقراطي من أجل إطلاق سراحهم».
من جانبها تؤكد السلطة في تونس بأنه لا يوجد معتقلون سياسيون في البلاد وأن عهد الاعتقالات السياسية قد ولى بدون رجعة وأنه لا بد للمعارضة أن تغير المصطلحات والأساليب التي كانت تستعملها ضد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، لأن الزمن غير الزمن والنظام غير النظام. ويؤكد الموالون بأن الموقوفين في السجون التونسية من سياسيين وإعلاميين ورجال قانون وغيرهم يحاكمون في جرائم حق عام على غرار التآمر على أمن الدولة والفساد وغيرها.
واعتبر رئيس الجمهورية قيس سعيد في الاجتماع الوزاري بقصر قرطاج أن تونس تعيش اليوم صراعا بين مؤسسات الدولة من جهة، وبين منظومة تحاول استرجاع نفسها من جهة أخرى. وبدا للكثيرين، من خلال هذه التلميحات، أن سعيد يتهم الذين حكموا قبله بالوقوف وراء الأزمات التي وصفها بأنها «تتوالى رغم عديد الإجراءات التي تم اتخاذها والتشريعات التي تم سنّها».
ولمح الرئيس أيضا خلال إشرافه على اجتماع مجلس الوزراء إلى أن هذه الأطراف، ومن خلال الموالين لها في الإدارة هي التي تعطل سير دواليب الدولة وما زالت تتصرف كما لو أنّها في ظل دستور 2014 أو ما سبقه.
ويبدو أن هناك توجها عاما للتخلص تدريجيا من هؤلاء داخل الإدارة وتعويضهم بالعاطلين عن العمل من حملة الشهادات العلمية والذين وعد الرئيس في وقت سابق بإدماجهم في الوظيفة العمومية. ولم تُضبط معايير الانتداب بعد والتي يُخشى أن تتضمن معيارا واحدا هو الموالاة وليس الكفاءة مثلما كان يحصل مع المنظومات السابقة حتى باتت الإدارة التونسية حكرا على الموالين في كل العهود.
اتهامات متبادلة
ومع كل هذه الانتقادات والاتهامات الشديدة، لا يبدو أن هناك ما ينبئ بقرب نهاية هذه القطيعة التامة بين السلطة والمعارضة وهذا النهج المتشدد من قبل السلطة الحاكمة إزاء معارضيها. بل أن هناك توقعات بمزيد الملاحقات للمحسوبين على المعارضة سواء من خلال التتبعات القضائية، أو من خلال الإقصاء من الوظائف من الإدارات والمؤسسات العمومية.
وتعرض ساكن قرطاج أيضا إلى الاتحاد العام التونسي الشغل تلميحا، وإلى الإضرابات التي تعتزم بعض النقابات القيام بها خلال الفترة المقبلة بطريقة بدت متشددة للكثيرين ما ينبئ بتواصل التنافر بين السلطة الحاكمة والمركزية النقابية خلال السنة السياسية الحالية. فقد أشار رئيس الجمهورية إلى أنه لن يتردد في محاسبة كل من يستغل المرافق العمومية للإضرار بالمواطنين أو للمتاجرة بحقوقهم في التعليم أو الصحة أو غيرها من القطاعات الحيوية.
وبالتالي فقد تنامت الخشية من صدامات قد تؤثر سلبا على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد مع إصرار نقابات التعليم والصحة وغيرها من القطاعات الحيوية على تنفيذ إضراباتها ومع إصرار السلطة على التصدي لها. فالتونسيون خبروا في الماضي صلابة الاتحاد العام التونسي للشغل وخبروا أيضا سلطاتهم التي كثيرا ما تصدت بشراسة للتحركات النقابية على غرار ما حصل فيما عرف بأحداث 18 كانون الثاني/يناير 1978، أو أحداث الخميس الأسود.
وكان الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري قد أكد في تصريحات إعلامية بان الحكومة ما تزال متمسكة بغلق باب الحوار وسط تواصل توتر المناخ الاجتماعي. وقال إن تداعيات تنقيح قانون مجلة الشغل ما زالت متواصلة وآلاف العمال يعانون نتائج هذا التنقيح، حيث أن العديد من العمال لن يتم ترسيمهم بل بالعكس تم طردهم إلى جانب تدهور المقدرة الشرائية للموظفين والعمال وارتفاع الأسعار. وحذر الطاهري من أن المناخ الاجتماعي ما زال متوترا ومرشحا لمزيد التوتر أمام تواصل الحكومة غلق باب الحوار.
غياب الثقة
ولعل الجديد في هذا الخطاب، بنظر البعض، هو الدعوة إلى ضرورة إجراء محاكمات عادلة وشفافة ترتكز على القانون وحده من دون فتح المجال لتصفية الحسابات. فالمحاكمات الأخيرة التي طالت سياسيين ورجال قانون وإعلاميين وغيرهم لاقت انتقادات واسعة داخليا وخارجيا. فهل يتم الذهاب أكثر نحو توفير كل شروط المحاكمة العادلة في الأطوار القضائية القادمة في هذه المحاكمات؟
أغلب ردود أفعال المعارضين لحكم الرئيس سعيد ذهبت باتجاه أن ما تم التأكيد عليه من قبل الرئيس لن يجد طريقه إلى التطبيق الفعلي، لعدة أسباب لعل أهمها برأيهم النهج الإقصائي للمعارضة الذي برز في السنوات الأخيرة والذي لا يبدو أن هناك ما ينبئ بإمكانية التراجع عنه في هذه الفترة على الأقل.
كما انتقد سعيد قوى كبرى على تدخلها في الشأن التونسي معتبرا أنها ما زالت تتعامل مع البلاد وكأنها «محمية أو مستعمرة أو تحت الانتداب»، وهو ما لن يُسمح بقبوله مطلقا على حد تعبيره. وبدا للبعض أن سعيد يقصد تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية التي سيتم فيها خلال الأيام القادمة تقديم ما يعرف بـ«مشروع قانون استعادة الديمقراطية في تونس» والذي أثار الكثير من الجدل.
والمبادرة المشار إليها تقدم بها نائبان ينتميان إلى الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلى رئاسة مجلس النواب الأمريكي، في انتظار إحالتها إلى لجنتي العلاقات الخارجية والقضائية لمناقشتها، تمهيدا لإقرارها وعرضها على الجلسة العامة. وتدعو هذه المبادرة إلى إجراء انتخابات في تونس وفقا لدستور 2014، الذي تم إلغاؤه، وإلا فإن تونس ستخضع لعقوبات على غرار قطع المساعدات عن المؤسسة العسكرية، والأجهزة المتورطة في عملية «الانتكاس الديمقراطي» حسب التعبير الوارد في مبادرة النائبين.
كما تتضمن العقوبات الواردة بمشروع القانون حجز الممتلكات والأرصدة التونسية الموجودة بالولايات المتحدة الأمريكية. وتتضمن أيضا رفض تأشيرات الدخول للولايات المتحدة الأمريكية، بالنسبة لمن وصفتهم المبادرة بـ«المسؤولين المتورطين في المسار الاستبدادي».
ويرى الباحث السياسي التونسي مروان السراي في حديثه لـ«القدس العربي» أن السنة السياسية الجديدة ومن خلال تصريحات الرئيس قيس سعيد لن تعرف تغييرات مقارنة بالسنوات القليلة الماضية. فالقطيعة بين السلطة والمعارضة ستتواصل على ما يبدو، وهو ما يستشف من خلال التصريحات الصادرة عن الرئيس والتي تتضمن تهديدات شديدة اللهجة للمعارضة التي تم اتهامها بتعطيل دواليب الدولة وعرقلة الإصلاحات.
ويضيف محدثنا قائلا: «التشدد ذاته سيتواصل في علاقة بالمنظمات الوطنية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل وقد نشهد تفعيلا لمشروع قانون الجمعيات الجديد الذي تعطل في مجلس النواب، وذلك باتجاه مزيد التضييق على نشاط المجتمع المدني. ومن المرجح أن تشهد تونس المزيد من التصلب في المواقف في مواجهة القوى الدولية الفاعلة التي شكلت في الماضي القريب حليفا استراتيجيا لتونس وداعما لها على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، التي يسعى فيها نائبان لتمرير مشروع قانون يتضمن عقوبات قاسية على البلاد.
وبالتالي لن يتغير الكثير في المشهد السياسي التونسي على المدى القريب لأنه لا توجد نوايا لطي صفحة الماضي والبدء بمسار جديد يتشارك فيه الجميع في إدارة الشأن العام مثلما ترغب بذلك بعض الأطراف المعتدلة في المعارضة. فكل المؤشرات تشير أن هذه السنة السياسية ستكون نسخة مطابقة للأصل من السنوات القليلة التي سبقتها وذلك مع إصرار النظام على نهجه الإقصائي للمعارضة وتحميلها المسؤولية عن الخراب الذي طال البلاد حين كانت في الحكم، ومع إصرار أحزابها وتياراتها الراديكالية على عدم التراجع في نهجها الذي تدعو فيه إلى إنهاء حكم الرئيس سعيد واعتبار ما قام به يوم 25 تموز/يوليو 2021 انقلابا على الدستور والمؤسسات المنبثقة عنه».
وفي خضم كل هذه المستجدات يبدو أن المرحلة المقبلة في تونس ستكون أصعب مع استمرار الأزمة السياسية والاجتماعية وغياب أي مؤشر لحوار قريب يجمع السلطة وأطياف المعارضة للخروج من حالة الاستعصاء.
«القدس العربي»: