مقالات

بعد عامين على الإبادة، ماذا بعد؟

بعد عامين على الإبادة، ماذا بعد؟

علي حبيب الله

لم تكشفنا الحرب على الشكل الذي صارت عليه إسرائيل فحسب، بل على الشكل الذي بات عليه المحيط والمنطقة العربية برمّتهما. لقد عرّت الحرب كل شيء. فالصمت، والخذلان، والعجز، وحتى التواطؤ والتآمر، كلّها مظاهر قاهرة لكنها مسبوقة كشفت عنها حروب سابقة…

“إذا عقدتُ سلامًا، فماذا أفعل بقراصنتي؟ إنهم بالتأكيد سيقطعون رأسي”.
(الداي حسن باشا، 1795م)

عامان مرّا على حرب غزّة، وقد ذهبت إلى أبعد من الردّ على هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى حيث إبادة القطاع. ونحن، جيل من بين ثلاثة أجيال تعيش في البلاد، فإنها المرّة الأولى التي نشهد ونشاهد فيها، على مدار سنتين، عملية محو مدينة بأكملها. لم يسبق، في ظلّ تاريخ الصراع مع الصهيونية، أن ارتُكبت مثل هذه الفظائع وهذا السُعار للقتل الجماعي في غزّة. وحتى في عام 1948، حيث نكبة الاقتلاع والتهجير، كان الطرد والقتل وظيفيّين أكثر مما كانا انتقاميّين أو بدافع الإبادة.

كما لم يُخذل الفلسطينيون من قِبل محيطهم العربي–الإسلامي كما خُذل الغزيون في هذه الحرب عليهم، إلّا من رحم ربي. وربّما ما كان لهذه الحرب أن تنحو منحى الإبادة، ليس فقط بسبب الصمت والعجز العربيين، بل بسبب تجاهل الإبادة، كما لو كانت على هامش وجدان “الأمّة”. في المقابل، تغصّ عواصم أوروبية وأميركية–لاتينية بجماهيرها المحتشدة نصرة لغزة وفلسطين ورفضًا للإبادة والصهيونية، وبالملايين. فمن كان يتخيّل، مثلًا، في هولندا، البلد المنحاز تاريخيًا للمشروع الصهيوني، أن يخرج أول أمس، في العاصمة أمستردام، مئات آلاف المناصرين لغزّة!

لم تكشفنا الحرب على الشكل الذي صارت عليه إسرائيل فحسب، بل على الشكل الذي بات عليه المحيط والمنطقة العربية برمّتهما. لقد عرّت الحرب كل شيء. فالصمت، والخذلان، والعجز، وحتى التواطؤ والتآمر، كلّها مظاهر قاهرة لكنها مسبوقة كشفت عنها حروب سابقة. بينما هذه الحرب كشفت عمّا هو أكثر من ذلك: الادّعاء والافتقاد؛ أي عن كيف يفقد مجتمع ما نسيجه الأخلاقيّ في مواجهة تحديات هائلة وخطيرة.

وفق ما نشره المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة أول أمس الأحد، الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2025، فإن نسبة الدمار في القطاع بلغت نحو 90%. دُمّر 38 مستشفى، وتضررت 95% من مدارس القطاع كليًا أو جزئيًا، فيما قارب عدد الشهداء 77 ألفًا، من بينهم 9500 مفقود ما يزال مصيرهم مجهولًا. مع العلم أن المعطيات على الأرض تؤكد أن عدد الشهداء أكثر بكثير مما هو محصي رسميًا، نظرًا لانهيار نظام الإحصاء في القطاع. كما يبلغ عدد المصابين نحو 170 ألفًا، من بينهم 4800 حالة بتر للأطراف، و1200 حالة شلل. لقد مسحت الحرب 2700 أسرة من سجل النفوس بالكامل. وهذا غير حالات الإجهاض التي تجاوزت 12 ألف حالة، بسبب نقص الغذاء والرعاية الصحية. كما قضى نحو 460 غزّيًا بسبب الجوع وسوء التغذية.

وفيما يتطلع الغزيون بحرّ وجوههم إلى أملٍ في انتهاء الحرب، بعد مقترح ترامب الأخير الجاري التفاوض بشأنه في القاهرة، فإن الحرب على مدار سنتيها قد جاءت على ما لم يعد بالإمكان استعادته أو تعويضه. لم تنتهِ غزّة، لكن شكلًا ما من غزّة التي عرفها الغزيون انتهى، وبلا رجعة. وحتى الحرب، التي لم يبقَ لنا إلّا أمل التضرّع بانتهائها، فإن وقف النار فيها لن يعني وقف تداعياتها على القطاع، وذلك من ناحية شروط الحياة الممكنة لاستئنافها بما يهدّد شرط بقاء كثيرين منهم، حتى لو انتهت الحرب. لأن هناك ما يصعب الانتهاء منه بالنسبة للناجين منها، إذا ما نَجَوا.

لم يعد مجديًا العودة إلى يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، والمداومة على تجريمه أو المثابرة على تكريمه، وفق ثنائية فيها مناكفة–كيدية جارية على شبكات التواصل حتى الساعة. لأن الحدث ذاته قد تدفّق، على مدار سنتين، دمًا خرج فيه عن مجرى مصبّه نحو الهزيمة أو النصر. ولكلّ منّا أن يتخيّل حجم بلادة مواقفنا، وهشاشة أسئلتنا ونقاشاتنا حولها، في ظلّ إبادة لم تتّضح مآلاتها بعد.

كان من ناصر يوم السابع من أكتوبر 2023، قد ناصره لأنه رأى فيه تجاوزًا لسؤال الدولة بخطابها ونهجها اللذين قزّما حقوق الفلسطينيين على مدار العقود الأخيرة. بينما اليوم، وبعد سنتين، هو نفسه من ناصر، يتنطّع زافًّا خبر اعتراف الدول بدولة فلسطينية كأحد “بركات الطوفان”!

كان يمكن لحركة حماس أن تتحول إلى نسخة عن سلطة رام الله في غزّة، لكنها آثرت طريقًا آخر، وهذه حقيقة تاريخية. لكن الحركة اليوم لا تفاوض إلّا على شكل وطريقة تحييدها، وهذه حقيقة أخرى.

والموتورون في غزّة من إبادتها لا يُنتجون خطاب هزيمتهم ولا صمودهم؛ إنما يُنتج الغزّي خطاب بقاء أطفاله فقط، لا أكثر.

لقد سال، طوال العامين، حبرٌ بقدر ما سال من دمِ الغزّيين عن إسرائيل وماهيّتها، وتحولات هويّتها الأمنية–العسكرية، وكذلك السياسية والاجتماعية التي كشفتها حرب إبادة القطاع، وفي هذا ما سيظلّ يدعو للسؤال والبحث.

لكن، ماذا عن العرب، والأمّة، وكل هذا الامتداد الذي تقع غزّة في قلبه جغرافيًا، ومن صلبه حضاريًا؟

لقد تغيّرت إسرائيل أقلّ بكثير مما تغيّرت به الأمّة العربية–الإسلامية، دولًا وشعوبًا معًا. ونظن أن هذا ما صار السؤال فيه أكثر إلحاحًا من السؤال في إسرائيل وأشكال اليمين فيها بعد سنتين من الإبادة. وحتى ما يُعرف بـ”المجتمع” الفلسطيني نفسه، بات السؤال في حقيقته أكثر إلحاحًا.

لا توجد حرب في العقود الأخيرة كُتب عنها هذا الكم الكثير، وعُرف عن حقيقتها هذا الكم القليل، مثل حرب إبادة غزّة.

إن المباحثات الجارية هذه الأيام في القاهرة قد تُحقّق لنتنياهو نصف أهدافه من الحرب – إعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين – وقد تُنهي شكلًامن الحرب وليس الحرب ذاتها، طالما أن الخطة المطروحة من قبل ترامب ليست واضحة حتى له شخصيًا. وطالما أن مجرم حرب مثل نتنياهو بات يهجس، أكثر من أي وقتٍ مضى، بالبحر الذي خلفه أكثر مما بـ”العدو” الذي أمامه.

حين حاولت الدبلوماسية الأميركية، في صراعها البحري مع قراصنة إيالة الجزائر وممثلها الداي حسن باشا، استرضاء الأخير بدفع الإتاوة له سنة 1795، تراجع الداي في النهاية قائلًا: “إذا عقدتُ سلامًا، فماذا أفعل بقراصنتي؟ إنهم بالتأكيد سيقطعون رأسي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب