
أكرم صوراني وجع غزة الضاحك
بقلم زياد خداش
كيف أكتب عن أكرم صوراني، عن “أبو الضحك الرنّان”؟
كيف أبدأ تقديمه؟
أأقدّمه مستعينًا بطريقته في تقديم الحياة والآخرين؟ حسنًا، سأفعل.
أقدّم لكم ضحكة غزّة التي لم تذق لقمة منذ أسبوع.
أقدّمه لكم بضحكة مجنونة أستعيرها من قاموس فمه المليء بالحبّ والامتنان.
كيف أصف حياة “أبو الخيمة الكبيرة” تحت الإبادة والحرّ والبرد والجوع؟
كيف أمرّ على صاحب النصيب الأوفر من الواقعية الحزينة، من دون أن أستحضر حكايته مع بيته الذي عاد إليه بأضرارٍ قليلة، قبل أن يسقط أكرم مع أسرته على بابه مضرجين بنشوة غمضةٍ مركّبةٍ تقطر دمًا؟
تلك “الصحة النفسية” التي كان يتمتّع بها أكرم كانت أساس أدب السخرية الذي يقود أهم اتجاهاته في فلسطين.
حين يُذكر الأدب الفلسطيني الساخر، علينا أن ننطق فورًا باسم أكرم صوراني؛ فأدبه ليس تهريجًا ولا تسلية.
يا له من شخصٍ عجيب! هل هو طبيعي؟
كلّ غزّة تبكي، وهو يضحك.
كلّ بيتٍ ينهار، وهو يعلو بالابتسام.
غابت معالم غزّة، لم تعد كما نعرفها،
وهو يرشُق العالم التافه بالنكات.
نزح مع عائلته من بيته في غزّة إلى الجنوب،
وأرسل لي فيديوهات النزوح وهو يركب مع عائلته عربة خيل.
كان أكرم يغنّي ويضحك. عاش في الخيمة أشهُرًا طويلة،
ولم أسمعه يتذمّر أو يشكو
فأرًا هاجم فمه، أو عقربًا تسلّق أنفه.
لم أره محترقًا بالشمس، ولا مأكولًا بالبرد.
أتّصل به وأنا أرتجف: “يا أكرم، سامحني، كيف أقدّم لك شيئًا؟”
فتهتزّ ضحكته في رأسي: “أطبخْ طعامًا لذيذًا، وصفْ لنا طعمه بأسلوبٍ جذّاب، هكذا تكون قد ساعدتَ جياع غزّة! هاهاهاهاها”.
الكاتب الساخر خفيف الظل، الذي أطلق عليه أحدهم لقب “أمير النص الفلسطيني الساخر”، هل يُخفي دَماره بإحكام وذكاء حتى لا يراه أحد؟ أم يواجهه بالسخرية؟
اقرؤوا ما كتب عن الذباب: “كل ليلة أضع على وجهي البشكير للوقاية من ذباب الشتاء وما تيسّر من صراصير. وهو بالمناسبة ذباب غبي وبليد جدًا، لا يقل بلادة عن الغسيل الذي ننشّفه ولا ينشف… هو من الخوف”.
أسأله عبر الموبايل عن موقفٍ مضحك حدث له في لهيب خيام غزة، سخرتَ فيه من نفسك بسببه، فيجيب: “أكلة ملوخية غزّاوية، أسوأ ملوخية في حياتي، خلطتها العاصفة بالرمل”.
وموقفٌ ثانٍ: “قرّرت الاستحمام في البحر بصابونة وشامبو، البحر ضحك عليّ، وأنا غنيت له: البحر بيضحك ليه؟ طلعت الميّة ما بترغي مع الصابونة”.
نقل الساخر الحبيب سخريته إليّ، فصرتُ أتجرأ وأرسل له أسئلة ومطالب مضحكة: “أكرم، أنت بالبيت؟ بدي أبعث ابني يعطيك شوية قهوة”.
فأجابني: “لا والله، أنا مع العيلة كلها فوق نخلة، بنوكل بلح في دير البلح، تعال كُل معنا”.
وحين وصل أكرم إلى خيمته، كتب لي وهو غارق في ضحكةٍ سائلة: “وصلنا بالسلامة إلى المجهول. حتى استلمت أول كرتونة مساعدات، حينها اكتشفت اسمي الحقيقي: 801067430 رقم هويتي”.
عرّفني أكرم على عائلته الصغيرة،أماني التي رأيتها تبكي وهي تعود إلى البيت الواقف بعد العودة الأولى، أماني التي وعدتني بطبخة دوالي خرافية قرب غزة الجديدة، وأرسلت لي تقول: “هات غاز بس بطبخلك أزكى دوالي، أنا كنت أفكر البصل آخر همي لما أقشره، طلع الحطب ملك الدموع”. ومؤخرًا أُصيبت بشيء سماه الطبيب “ارتجاجًا في السائل الزجاجي”، قالت: “هو أشبه بارتجاجنا في غزة”.
وهناك كارمن الصغيرة التي سميتها “الخيّارة”، تيمّنًا أوحلمًا بالخيار الذي تحبه.
كارمن أصرت على العودة إلى غزة لأن فأرًا ضخمًا كان يتحرّش بأحلامها. فقال لها أكرم: “اختاري، هناك انفجارات، وهنا فئران”.
وهناك خالد، الذي قال لي أكرم عنه إنه يتقن مهارة البرمجة وشغوف بها، وفي الحرب امتلك مهارة توليع الحطب، ومنحناه لقب ملك النار.
تعيش العائلة الصديقة الآن في دير البلح في بيتٍ مستأجر. تركوا بيتهم في غزة بعد الهجمة الأخيرة العنيفة. قبل أيام غادر أكرم وحده بعد عودة النازحين الأخيرة ليتفقد بيته تمهيدًا لعودة جماعية.
الدمار كان كبيرًا هذه المرة، كتب أكرم عن زيارته الأخيرة: “رجعت إلى غزة وشاهدت كل شيء، لكني لم أرَ غزة”.
كانت العبارة جديّة جدًا، لا سخرية أو ضحك فيها.
هل كان أكرم يبكي؟