بين الماضي والحاضر والمستقبل في ظل انعدام الثقة وقراءة التاريخ والجغرافيا

بين الماضي والحاضر والمستقبل في ظل انعدام الثقة وقراءة التاريخ والجغرافيا
بقلم:رئيس التحرير
تعيش أمتنا العربية اليوم أزمة ثقة مزدوجة: ثقة بالذات، وثقة بالمستقبل. وبين ماضٍ نغرق في تمجيده، وحاضرٍ نتعثر في تفاصيله، ومستقبلٍ نخشاه قبل أن نصنعه، تبدو المسافة بين التاريخ والواقع أكبر من أي وقت مضى.
لقد أصبحنا أمةً تعيش على أطلال مجدٍ قديم، ونقيس هويتنا بما كان لا بما يكون. نقرأ التاريخ لا لنفهمه، بل لنرتاح من الأسئلة الصعبة التي تطرحها الجغرافيا السياسية الحديثة، وكي نعفي أنفسنا من مسؤولية التفكير والمساءلة.
أزمة الوعي وانعدام الثقة بالذات
كلما ازدادت الأمة ضعفًا وتشرذمًا، ازداد تمسكها بالماضي، وكأنها تبحث في التاريخ عن عزاءٍ لواقعٍ مأزوم. فبدل أن يتحول الماضي إلى منارةٍ تُضيء طريق الحاضر، صار قيدًا يكبل حركة الفكر والإبداع.
لقد فقدنا الثقة بأنفسنا لأننا فقدنا القدرة على قراءة واقعنا بموضوعية. نُكابر في وصف حاضرنا، ونهرب إلى أمجاد التاريخ هربَ العاجز من مرآته، نردد أسماء القادة والعلماء والشعراء، لكننا نغفل عن السؤال الأخطر: أين موقعنا اليوم بين الأمم؟
قراءة التاريخ… بين العبرة والتبرير
التاريخ ليس عبئًا ولا ملاذًا، بل مرآة للعقل الجمعي للأمم. والأمم الحية هي التي تدرسه لتتعلم، لا لتتغنى به. أما نحن، فنقرأه لنرتاح، لا لنتقدم.
تحول التاريخ في وعينا الجمعي إلى “شهادة حسن سلوك حضاري” نبرزها للعالم حين نعجز عن الحاضر، لا كمصدر إلهامٍ للنهضة. نلجأ إليه كلما ضاقت بنا الجغرافيا السياسية، ونستدعي أمجاد الأمس لتغطية عجز اليوم. وهكذا أصبحنا أسرى سرديات تمجد الماضي دون أن تبني الحاضر، وتستحضر البطولات دون أن تنتج بدائل حقيقية.
الجغرافيا الجديدة… وتراجع الفعل العربي
في الوقت الذي تعيد فيه القوى الكبرى رسم خرائط المنطقة، ما زال العالم العربي يفتقد لرؤية جغرافية استراتيجية تعي موقعه ودوره. فالجغرافيا ليست مجرد حدود، بل هي مساحة نفوذ ومصدر قوة.
انعدام الثقة بالذات جعل من أمتنا متلقية للأحداث لا صانعة لها، تابعة للمشاريع الإقليمية والدولية بدل أن تمتلك مشروعها الخاص.
لقد تاهت بوصلتنا بين قراءة التاريخ على نحوٍ انتقائي، وقراءة الجغرافيا من منظورٍ ضيقٍ ومجتزأ، فخسرنا التاريخ مرتين: مرة حين تركنا حاضره، ومرة حين فشلنا في توظيفه لبناء المستقبل.
بين الماضي والمستقبل: سؤال النهضة المؤجل
هل نحن أمة تقتبس من التاريخ لتنهض، أم أمة تبحث فيه عن أعذارٍ لنفسها؟
حين نستحضر صلاح الدين والأندلس وبغداد، هل نفعل ذلك لإحياء قيمهم في واقعٍ جديد؟ أم لأننا نفتقر إلى قيادةٍ ورؤيةٍ تملأ فراغ الحاضر؟
إنّ المجد الحقيقي لا يُستعاد بالحنين، بل يُصنع بالإرادة والعمل والمعرفة. ولا يمكن لأي أمة أن تدخل المستقبل وهي مشدودة إلى الماضي بعُقدٍ لم تُحل وأسئلة لم تُجب.
نحو قراءة جديدة للتاريخ والجغرافيا
المطلوب اليوم هو قراءة نقدية واعية، لا تمجيدية ولا عدائية، لتاريخنا وجغرافيتنا معًا. فالتاريخ يعلّمنا أين كنا، والجغرافيا تحدد أين يمكن أن نكون.
قراءة التاريخ بمعزل عن الجغرافيا جعلتنا نعيش في الحلم، وقراءة الجغرافيا بمعزل عن التاريخ جعلتنا نغرق في الواقع دون بوصلة. النهضة الحقيقية تبدأ حين نزاوج بين الذاكرة والرؤية، بين الأصالة والمعاصرة، بين الفخر بالماضي والقدرة على صناعة الحاضر.
خاتمة
لقد آن لأمتنا أن تتصالح مع نفسها، وأن تفهم أن التاريخ ليس refuge للضعفاء، بل مختبرٌ للأقوياء. وأن الجغرافيا ليست لعنةً فرضتها القوى الكبرى، بل فرصةٌ لصناعة التوازن والمكانة من جديد.
الماضي ملك لمن صنعه، والمستقبل ملك لمن يجرؤ على صناعته.
وحتى نعيد الثقة بأنفسنا، علينا أن نكف عن الغناء للماضي، وأن نبدأ بكتابة فصلٍ جديد من تاريخنا، لا بالحنين إليه، بل بالفعل والوعي والإرادة.
ونختم بالقول ربما لا نحتاج إلى معجزات كي ننهض، بل إلى شجاعة الاعتراف بأننا فقدنا البوصلة بين التاريخ والجغرافيا.
أن نعيد قراءة الماضي بعينٍ نقدية لا دامعة، ونرسم خريطة المستقبل بعقلٍ لا يرتجف من التغيير.
فالأمم التي لا تملك ثقةً بنفسها، لن تصنع تاريخًا جديدًا مهما حفظت من أمجاد قديمة.
🔹 رأي صوت العروبة
إنّ أمتنا لن تنهض ما لم تمتلك الشجاعة لقراءة تاريخها بصدقٍ، وجغرافيتها بوعيٍ، وحاضرها بمسؤولية.
الزمن لا ينتظر المترددين، والمستقبل لا يُمنح لمن يعيش أسير الماضي.
فمن أراد أن يصنع مجده، فليكتب تاريخه بيده، لا بذكريات من رحلوا.