سوريا: زيارة الشرع إلى موسكو وتزايد الاغتيالات مع بطء العدالة الانتقالية

سوريا: زيارة الشرع إلى موسكو وتزايد الاغتيالات مع بطء العدالة الانتقالية
منهل باريش
زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى موسكو كانت مهمة للغاية، وستنعكس على مستقبل الساحل السوري، مع تزايد حوادث الاغتيالات في صفوف أفراد كانوا تابعين لأجهزة النظام البائد.
في تطور أمني مقلق شهدت سوريا ارتفاعًا في معدل الاغتيالات في عموم البلاد. وبخلاف تركزها السابق في حمص وحماة، فقد اغتيل تسعة أشخاص في مدينة حلب وحدها منذ نهاية أيلول (سبتمبر) وحتى 17 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.
استهدفت هذه العمليات شخصيات محلية متهمة بالعمل مع الأجهزة الأمنية أو ميليشيات مرتبطة بالنظام السوري السابق، في تطور يوحي بتفاقم الاضطرابات الأمنية داخل المدينة الخاضعة لسيطرة دمشق. وفقًا لمصادر متقاطعة أفادت «القدس العربي»، بدأ المسلسل بمقتل صالح أحمد ثلجة، المدير السابق لبنك مدينة أريحا، والذي يُشتبه بأنه كان يزوّد الأجهزة الأمنية بتقارير عن سكان المدينة، قبل أن يُستهدف برصاص مجهولين. وفي سياق متصل، في الأحياء الغربية من حلب، قُتل هشام خزامي في حي الفرقان، وتصفه بعض المصادر بأنه كان حلقة وصل محلية للحرس الثوري الإيراني، وهو مسؤول تفاوضي ووسيط في صفقات تبادل الأسرى بين المعارضة السورية وقوات النظام والميليشيات الإيرانية سابقًا.
كما طالت الاغتيالات، في حي السكري، كلا من بلال ساطو، نجل متطوع عسكري برتبة مساعد أول، ومصطفى جميل الركبي، ويُعتقد أنهما كانا يخدمان في صفوف «الفرقة 25» المعروفة باسم «قوات النمر» التي قادها اللواء سهيل الحسن. إضافة إلى ذلك، طالت الاغتيالات غسان الحمدو في حي الفردوس، وهو شخص يُتهم بالعمل لصالح فرع المخابرات الجوية، وعبد اللطيف أبو راس في حي النيرب، وعلي كامل دقماق في حي الشعار. وفي حي الجابرية، قُتل رياض ماردلي المعروف بلقب «أبو جمهور»، وتصفه مصادر محلية بأنه من الدائرة المقربة للقيادي الأمني خالد حزاري.
واختُتمت السلسلة بمقتل عبد الكريم أمين في باب جنين، بعد أن أطلق عليه مسلحون يستقلون دراجة النار من مسافة قريبة. مع ذلك، لم تُعلن أي جهة مسؤوليتها عن هذه العمليات التي نُفّذت جميعها بأسلوب متشابه، ما يثير شبهات بتصفية حسابات أمنية داخلية أو ردود فعل انتقامية فردية.
في المقابل، يربط ناشطون محليون هذه الحوادث بتنامي حالة الفوضى الأمنية والانقسام داخل الأجهزة التابعة للنظام البائد، ولا سيما بين المجموعات المرتبطة بروسيا وتلك المقرّبة من إيران.
في غضون ذلك، اعتبرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن شهري كانون الثاني (يناير) وآذار (مارس) هما الأكثر عنفًا منذ مطلع العام في إدلب، حيث قُتل 52 شخصًا، ما يجعل المحافظة من أكثر المناطق السورية اضطرابًا أمنيًا خلال المرحلة الانتقالية. وفي سياق متصل، شهدت المحافظة في الأسبوع الأخير ثلاث عمليات اغتيال متتالية خلال أقل من 24 ساعة، ما أثار مخاوف من تدهور الوضع الأمني في المنطقة التي يُنظر إليها باعتبارها الخزان البشري للسلطات السورية الجديدة، ولا سيما الأمنية والعسكرية. وفقًا لمصادر محلية، قُتل صدام الحميدي المعروف بـ«الكابتن أبو عدي»، وهو مدرب رياضي عسكري في وزارة الدفاع السورية، بعد استهدافه في مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي.
كما اغتيل هاني الجدعان برصاصة في الرأس شرق معرة النعمان، في حين نجا أبو سعيد رأس الحصن، القيادي السابق في هيئة «تحرير الشام» والعامل حاليًا في وزارة الدفاع، من محاولة اغتيال على طريق سرمدا ـ رأس الحصن في أقصى شمال سوريا.
غياب مسار العدالة يزيد من الانتقام
حول تصاعد عمليات الاغتيال والقتل المنفلت، استطلعت «القدس العربي» آراء محللين أمنيين وعسكريين. من جانبه، رأى الباحث السوري عمار جلو من مركز الحوار للأبحاث والدراسات في واشنطن أن موجة الاغتيالات التي تشهدها البلاد منذ أشهر هي «نتيجة طبيعية لمرحلة انتقالية هشّة»، مشيرًا إلى أن السلطة الجديدة لم تتمكن بعد من فرض سيطرة أمنية متماسكة على كامل الجغرافيا السورية، وبالتالي فتح الفراغ الناتج عن ذلك الباب أمام عمليات تصفية شخصية وسياسية تتخذ طابعًا انتقاميًا.
وقال جلو في تصريح خاص لـ«القدس العربي» إن ما يحدث اليوم «ليس استثناءً سوريًا، بل يتكرر في معظم الدول التي تمر بمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة»، موضحًا أن الانفلات الأمني، وغياب العدالة الاجتماعية، وتأخر إطلاق عملية عدالة انتقالية حقيقية، كلها عوامل تساهم في تفاقم العنف الأهلي والاغتيالات. وأكد أن «تراجع الثقة بالمؤسسات القضائية والأمنية الجديدة دفع كثيرين إلى أخذ حقهم بأيديهم، في ظل شعور عام بتمييع العدالة».
وفي السياق ذاته، يرى الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية محسن المصطفى أن تزايد عمليات القتل والاغتيالات خلال الأسابيع الأخيرة يرتبط مباشرة ببطء مسار العدالة الانتقالية وبالإرث الثقيل للانتهاكات السابقة، إضافة إلى وجود عدد كبير من المتورطين في جرائم لم يُقدَّموا بعد إلى العدالة. ويشير المصطفى إلى أن هذا الواقع دفع بعض المتضررين إلى تنفيذ عمليات قصاص فردية ضد أشخاص ارتكبوا جرائم في الماضي أو دعموا النظام السابق، موضحًا أن غياب الأدلة القانونية وصعوبة الوصول إلى المحاكم جعل الانتقام يتحول إلى بديل شخصي للعدالة، وهو ما ينذر بفتح باب جديد لدورة من العنف يصعب ضبطها.
ويضيف الباحث أن المنطقة تشهد أيضًا جرائم قتل ذات طابع عشائري أو جنائي لا ترتبط مباشرة بالملف السياسي، لكنها تتغذى من حالة الانفلات الأمني وضعف الأجهزة المختصة. ويحذر من أن استمرار هذا الواقع بدون تفعيل آليات قضائية انتقالية فعّالة أو اتفاقات محلية تضبط السلاح وتحدّ من منطق الثأر، قد يؤدي إلى تفشي الفوضى وتكرار مشاهد العنف في مناطق مختلفة من البلاد.
والجدير بالذكر أن زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى موسكو كانت مهمة للغاية، وستنعكس على مستقبل الساحل السوري، الذي شهد تمرّدًا عسكريًا خلال آذار (مارس) الماضي، تسبب بردة فعل عنيفة من قبل السلطة الجديدة، خلفت انتهاكات واسعة خلال أيام قليلة.
وفي معرض حديثه عن الأوضاع في الساحل السوري، شدد جلو على أن القول بقدرة «الفلول» على تنفيذ أعمال مؤثرة هناك هو «مبالغة سلطوية مقصودة»، موضحًا أن «القدرات البشرية والمادية المحدودة، وغياب أي دعم إقليمي أو دولي حقيقي، تجعل هذه الفرضية ضعيفة للغاية».
من جهة أخرى، ميّز الباحث في الشؤون الأمنية والعسكرية نوار شعبان قاقيبو بين فئتين أساسيتين في الساحل السوري، إحداهما اجتماعية والأخرى أمنية، موضحًا أن الفئة الأولى «ذات طابع محلي ومجتمعي كانت تميل، في فترات سابقة، إلى النظر إلى روسيا كجهة يمكن الاتكال عليها أو اللجوء إليها لضبط الإيقاع الأمني بعد أحداث الساحل»، مشيرًا إلى أن الحكومة السورية «حاولت في المرحلة الماضية التقرب من هذه الفئة من خلال مبادرات ومشاريع تهدف إلى امتصاص التوتر».
أما الفئة الثانية، التي يعتبرها قاقيبو «الأخطر والأكثر تأثيرًا أمنيًا»، فهي تلك التي تنشط في أعمال إجرامية أو في هجمات تستهدف وحدات تابعة للحكومة السورية. ويعتقد أن هذه المجموعات كانت تنظر إلى روسيا خلال مراحل سابقة على أنها «الضامن أو القناة التي قد تُعيد فتح خطوط الدعم أو التنظيم معها».
ويرى الباحث أن زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى موسكو، وما رافقها من تغطية إعلامية روسية إيجابية، قد «تحمل انعكاسات مزدوجة، إذ يمكن أن تُفسَّر من قبل بعض الفاعلين المحليين على أنها رسالة دعم، بينما تراها المجموعات المسلحة مؤشرًا على تراجع الضمان الفعلي الذي كانت تراهن عليه».
ويحذّر قاقيبو من أن بعض هذه المجموعات قد تتخلى عن منطق العمل العسكري المنظَّم لتتجه نحو الجريمة المنظمة والابتزاز والتهريب، في محاولة لتعويض خسائرها السياسية والميدانية.
بالرغم من ذلك، إن غياب الضامن الخارجي، وعدم إنجاز استراتيجية أمنية داخلية واضحة من قبل السلطات السورية الوليدة، يفتحان الباب أمام مرحلة حساسة قد تشهد انفلاتًا أمنيًا خطيرًا في الساحل السوري من نوع مختلف عمّا حصل في آذار (مارس)، وهو ما يعزز الدعوات السابقة القائلة بضرورة دمج المجتمعات المحلية في الساحل بمؤسسات الدولة، وإعطاء أدوار اجتماعية أكثر فاعلية، خصوصًا للوجهاء والنخب التي جرى إقصاؤها من قبل نظام الأسد، الأب والابن.