تحقيقات وتقارير

قابس التونسية: أزمة متصاعدةواحتجاجات شعبية تطالب بوقف مخاطر التلوث الصناعي

قابس التونسية: أزمة متصاعدةواحتجاجات شعبية تطالب بوقف مخاطر التلوث الصناعي

روعة قاسم

تحولت قابس إلى مدينة منفرة لسكانها بعد التلوث الذي طالها مسببا في أمراض عديدة من بينها السرطان وهشاشة العظام وغيرها. ومنذ سنوات والسكان يطالبون بإيجاد حل لمعضلة المجمع الكيميائي

.
تونس ـ «القدس العربي»: تصدرت مدينة قابس المشهد في تونس إثر تسارع وتيرة الاحتجاجات الشعبية للمطالبة بوقف التلوث المتأتي من المجمع الكيميائي. وقد وصل التلوث إلى مستوى غير مسبوق أدى إلى تسجيل حالات اختناق في المدرسة الإعدادية شط السلام في صفوف بعض التلاميذ، نتيجة تسرب غازات من المجمع الكيميائي الصناعي التونسي. وكانت المدينة شهدت في وقت سابق تسربات غازية سامة من المجمع نفسه كان ضحيتها مواطنون وأخرى كان ضحيتها تلاميذ من إعدادية شط السلام نفسها التي تكرر فيها الحادث مرتين.

ونتيجة لهذه الحوادث الخطيرة التي مست حق مواطني مدينة قابس في العيش في بيئة سليمة، اندلعت احتجاجات أمام مقر المجمع الكيميائي رفعت شعار «قابس تختنق»، كما تم تنظيم حملة عنوانها «أوقفوا التلوث». وقامت قوات الأمن بتفريق المحتجين وذلك بعد أن تعرضت أجزاء من مقر الإدارة الجهوية للمجمع الكيميائي الصناعي بقابس إلى الحرق والعبث ببعض المحتويات.
ونددت جمعيات ومنظمات حقوقية تونسية بما أسمته «استعمالا للقوة والغاز المسيل للدموع» من قبل قوات الأمن لتفريق الاحتجاجات، واعتبرت ذلك منعا للمواطنين من الحق في إيقاف عمل الوحدات الملوثة للمجمع الكيميائي الصناعي. وطالبت هذه المنظمات والجمعيات أيضا بفتح حوار جهوي ووطني حقيقي حول المنوال التنموي يكون مرفوقا برأيها بقرارات فورية يُؤسس لها ويُشارك في صياغتها المواطنون المتضرّرون في ميادين الفلاحة والصيد البحري وفي القطاع الصناعي وأيضا الحرفيون. وطالبت هذه المنظمات بالتنفيذ الفوري للقرار الوزاري القاضي بتفكيك الوحدات الملوِّثة الصادر منذ شهر حزيران/يونيو 2017 ولم يقع تنفيذه إلى اليوم رغم خطورة الأوضاع.
ودخل الاتحاد العام التونسي للشغل على الخط من خلال فرعه الجهوي بقابس الذي أكد على أن ما حصل في قابس هو «إغتيال للبيئة» و«جريمة دولة» متعاقبة لعدة عقود على حد تعبيره. كما هدد الاتحاد الجهوي للشغل بقابس بالإضراب العام دفاعا عن حق الجهة في بيئة سليمة في حال عدم التدخل السريع من قبل الدولة لإيجاد الحلول الجذرية لهذه الكارثة البيئية.
وأكد الاتحاد الجهوي بأن قابس أصبحت حقيقة منكوبة وعلى فوهة قنبلة موقوتة أمام عدم التدخّل الجدّي والعاجل لصيانة القنوات والتجهيزات والمعدات داخل المجمع الكيميائي وتغييرها. واعتبر الاتحاد أيضا أنه، ومع تكرار ظاهرة الاختناق جراء تسرب الغاز من المجمع الكيميائي الصناعي، وبعد التثبت من الأسباب الحقيقية، تبين أنه إهتراء معدّات المجمع وانتهاء عمرها الافتراضي.

مسؤولية تقصيرية

يرجع البعض ما حصل إما إلى وجود إخلالات في عمليات الصيانة والتّشغيل للمجمع الكيميائي الصناعي أدت إلى تسرب الغاز، أو إلى عدم إجراء الاختبارات المطلوبة على المعدّات في المواعيد المحدّدة من قبل المختصّين. وفي الحالتين يرى هؤلاء أن هناك تقصيرا وأن هناك مسؤوليات يجب أن يتم تحديدها ومحاسبة المذنبين الذين لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لتجنب هذه الكارثة.
وفي انتقادهم لرد الفعل الرسمي إزاء هذه الأزمة يرى هؤلاء أنه لا يجب على الدولة أن تنظر إلى كل أزمة اجتماعية أو اقتصادية وكأنها حدث عرضي أو مؤامرة فيتم من خلالها تحميل المسؤولية لهذا الطرف السياسي أو ذاك. وبالتالي وجب الاعتراف، حسب هؤلاء، بأن الأمر يتعلق بأزمات اقتصادية واجتماعية وبعدم ضمان الحق في البيئة السليمة والمستوى الصحي المرموق. وهي استحقاقات، برأيهم، لم تعد قابلة للتأجيل أو التجزئة، ومعالجتها من قبل الدولة من منطلق ردّ الفعل لم يعد كافيًا لاحتوائها.
كما دعت أصوات عديدة إلى الإسراع بوضع خطّة قابلة للتطبيق على أرض الواقع ويتم تنفيذها، ولا تبقى حبرا على ورق مثلما حصل مع الخطط السابقة، وذلك لوضع حدّ نهائي لهذه الكارثة البيئيّة التي طالت أكثر من اللزوم. ويجب أن يشارك المواطنون برأيهم في صياغة هذه الخطة لأنهم الأدرى بمشاكل جهتهم من الناحيتين البيئية والتنموية، خاصة وأن بعضهم قدم في وقت سابق حلولا لمعضلة التلوث الذي تسبب فيه المجمع الكيميائي الصناعي لكن لم يقع أخذها بعين الإعتبار.
ويؤكد هؤلاء على أن تجاوز هذه الأزمة البيئية وغيرها من الأزمات التي لا تنفصل عنها، يحتاج إلى البحث عن حلول حقيقية وجذرية وليست ظرفية، وإلى بناء علاقة جديدة مع المواطن تقوم على الثقة. فما يحتاجه التونسيون اليوم، برأي هؤلاء، هو دولة قوية قادرة على تفعيل القرارات التي يتم اتخاذها ومدركة أن عليها استحقاقات عاجلة لا تحتمل التأجيل. ومن بين هذه الإستحقاقات ضمان الحق في الحياة والصحة وفي بيئة سليمة خالية من التلوث سواء في قابس وفي غيرها.
وللإشارة فإن المجمع الكيميائي الصناعي هو من أهم المنشآت العمومية الصناعية في تونس إن لم يكن أهمها على الإطلاق باعتباره من يقوم بثمين الفوسفات التونسي ويجعل الخضراء تصدره مصنعا لا خاما فتزيد قيمته المضافة. ومن بين منتوجات المجمع الكيميائي الصناعي التونسي الحامض الفسفوري وسماد ثاني فسفات الأمونيوم وغيره من المنتوجات الكيميائية الصناعية الهامة التي تشهد إقبالا واسعا ويزداد عليها الطلب عالميا.
وبالتالي فالقيمة الاقتصادية للمجمع على غاية كبيرة من الأهمية وهو من أعمدة الاقتصاد التونسي الذي ساهم توقف نشاطه في وقت ما بعد الثورة في تدهور الاقتصاد وبعودته للإنتاج تحسنت المؤشرات الاقتصادية. ولعل ذلك هو ما يفسر عدم قيام الحكومات المتعاقبة بتعطيل نشاط هذا المجمع الصناعي طيلة عقود، وذلك رغم إضراره بالبيئة في مدينة قابس والمناطق المجاورة لها والتابعة إداريا لولاياتها.
لقد تضرر من المخلفات الصناعية للمجمع الكيميائي خليج قابس البحري المتوسطي الذي يعتبر واحدا من أهم محاضن الأسماك في العالم حيث تجلب بيئته المتميزة أنواعا هامة من أسماك البحار والمحيطات لوضع بيضها لتتشكل فيه ثم تعود إلى مواطنها الأصلية إذا لم تطلها شباك الصيادين التونسيين. كما أضر المجمع بالهواء النقي الذي ميز قابس في الماضي وهي التي اشتهرت بواحات نخيلها وأشجار رمانها ومياهها العذبة وبحرها الساحر وهوائها الصافي.
لقد تحولت قابس اليوم إلى مدينة منفرة لسكانها وذلك بعد التلوث الذي طالها والذي تسبب في تفشي أمراض عديدة من بينها السرطان وهشاشة العظام وغيرها. ومنذ سنوات والسكان يطالبون بإيجاد حل لهذه المعضلة إما بتفكيك المجمع ونقله إلى مكان آخر أو من خلال إصلاح الأعطاب الفنية التي سببها تقادم التجهيزات في مواقع الإنتاج.
صحيح أن مساهمة هذا المجمع ومساهمة قطاع صناعة الفوسفات بوجه عام في الاقتصاد التونسي هامة جدا ولا يمكن الاستغناء عنها، إلا أن سلامة المواطنين من خلال ضمان حقهم في بيئة نظيفة وسليمة تضمن لهم بدورها الحق في الحياة، أمر أساسي ولا يمكن التغاضي عنه. وبالتالي على الدولة أن تبادر إلى تطبيق خطة تراعي حاجتها إلى مداخيل المجمع وكذلك السلامة الجسدية لمواطنيها وحقهم في العيش في بيئة نظيفة خالية من التلوث.
ويرى الكاتب والباحث السياسي هشام الحاجي في حديثه لـ”القدس العربي” أن الحكومة الحالية سارت على منوال الحكومات السابقة في تجاهل هذا الملف الخطير. فهناك قرارات تم اتخاذها ولم تجد طريقها إلى التنفيذ وبالتالي وجبت محاسبة من ثبت تهاونهم على المستويين الحكومي والإداري”.
ويضيف محدثنا قائلا: “على السلطة أن تجد الحلول بعيدا عن خطاب التخوين واتهام جهات معارضة أو خارجية بالوقوف وراء الأحداث التي شهدتها مدينة قابس. فعلى فرض أن هناك من حرك الشارع للاحتجاج فإن ذلك لا ينفي أن هناك مشكلة وجب إيجاد الحلول لها وهي التي يجب أن تحظى بالأولوية في الخطاب الرسمي”. ويضيف: “والحلول تكمن في العمل على التقليص الأقصى من التلوث الناجم عن الاستخراج والتحويل والابتعاد عن المناطق السكنية وهذا يتطلب رؤية متكاملة للخروج من عنق الزجاجة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب