ثقافة وفنون

«الحدت آمنة»… والطائفية نخرت العالم الافتراضي

«الحدت آمنة»… والطائفية نخرت العالم الافتراضي

نزار نمر

نزار نمر

ليس مستغرباً اعتماد حملات انتخابية في لبنان على الطائفية، إذ تربّت الأجيال على هذا المشهد عند كلّ استحقاق. عندما تغيب المشاريع والرؤى، يصبح شدّ العصب البديل الناجع من أجل نيل الأصوات. ومع اقتراب أوّل انتخابات بلدية منذ قرابة العقد، يعود شدّ العصب للتسويق للوائح، مع المكمّلات العائلية والمناطقية التي ترافق هذا الاستحقاق بالتحديد.

لكن أن يظهر إعلان على مواقع التواصل الاجتماعي، مشبع بالطائفية والمناطقية وحتّى الصهيونية، شيء آخر. غالباً ما تكون المنشورات الطائفية الآتية من جهات غير فردية بمنزلة «نقزة»، وتشكّل محطّ جدل. هذه هي حال «تضامن شباب الحدت» (الحدث ـ قضاء بعبدا ـ محافظة جبل لبنان)، وهي لائحة رئيس بلدية الحدث الحالي جورج ادوار عون، المرشّح لولاية جديدة.

كما باقي اللوائح، أخذت «تضامن شباب الحدت» إلى منصّات التواصل الاجتماعي للتسويق لنفسها ولعون، مستندةً إلى «إنجازاته» في البلدية، وعنها نشرت مقاطع على مختلف المنصّات، بما فيها تيك توك، إضافة إلى «وثائقي» صغير. كلّ شيء على ما يُرام حتّى الآن، فلا مانع من أن يكون استعراض الإنجازات ودعم الأهالي مادّةً للتسويق والتنعّم بـ«خيرات» التواصل الاجتماعي.

«الحدت آمنة ومأمّنة»

مع تصفّح المقاطع القصيرة، يصل المرء إلى واحد تحت عنوان «الحدت آمنة ومأمّنة»، فيرتاح، إذ يخيّل له أنّ الأمن مستتبّ والعصافير تزقزق في اليوتوبيا «المستحدتة». ما هي إلّا لحظات، حتّى يكتشف أنّها آمنة من… اللبنانيّين. لكن مهلاً، نحن هنا «نتحدّت» عن لبنانيّين آخرين، «ما بيشبهونا»، هم سبب الويلات والمصائب، بما فيها القصف الإسرائيلي الذي جلبوه على أنفسهم!

تغاضت لائحة «شباب الحدث» عن استهداف إسرائيل الكنائس والأديرة في الجنوب والبقاع والضاحية

«بِوَقت الأرض كانت سلعة تاجروا فِيا، أرض الحدت بِقْيِت وبْتِبقى لأهلها». هكذا يبدأ المقطع بصوت امرأة «تتحدّت» بالعامّية، مع إبراز هذا «الشعار» على الشاشة بالخطّ الكبير كي يتسنّى للمشاهد الرؤية على الشاشة الصغيرة ولا يفوته شيء في حال لم تصله موجات صوت، وهي المصيرية في حشد موجات الصوت الجماهيرية.

شعار رنّان، فبقاء أصحاب الأرض في أرضهم خبر سارّ حتماً. نتمنّى لو أنّها «تعيدها كمان»، ولكن سرعان ما يتّضح الهدف من قولها وتفقد عندئذ «رنّتها».

يستعرض المقطع قرارَين اتّخذتهما البلدية سابقاً، أحدهما دائماً ما أثار الجدل في الإعلام وبين الناس، وهو منع «الغرباء»، أي لبنانيّين من طوائف أخرى غير تلك «المسيطرة» في البلدة البعبداوية، من الاستملاك والسكن فيها. أمّا الثاني، فيتعلّق بالتضييق على النازحين السوريّين، وهذا من شيَم معظم بلديّات لبنان. «أمن وأمان الحدت ما إجا بالصدفة؛ هيدا نتيجة قرارَين كبار وحازمِين»، يكمل الصوت الأنثوي، مع عدم إلمام واضح بأصول جمع المثنّى، معقّباً: «الأوّل هو أرض وهوية الحدت مش للبيع، والبلدية مش رح تمضي».

إسباغ الشرعية على السردية الصهيونية

هنا نصل إلى لبّ الموضوع. وكما يُقال في عالم المسرح لدعوة الممثّل إلى الخشبة: ادخلي صهيَنة (enter). مع مشهد صليب «كنيسة سيّدة الحدث» المضاء في شموخ سماء إحدى الليالي الطويلة، وخلفه نيران القصف الصهيوني على الضاحية التي «لا تشبهنا»، تُنزِل غمام المتحدّثةِ الصاعقةَ مثلما تُنزل طائرات العدوّ غاراتها: «وبالحرب الأخيرة، تأكّدنا قدّيش القرار كان حامي للحدت».

هكذا، وبكلّ سخافة واستخفاف وتفاهة، تُسبَغ الشرعية على السردية الصهيونية، على الطريقة الشمولية ذاتها التي تبدأ الجمل بـ«الكلّ يعرف» أو «اللبنانيّون كذا وكذا».

نعود إلى كذبة أنّ «إسرائيل» حمل وديع لا تستهدف سوى مَن «يزعجها»، ولو كان ذاك «المزعج» طائفة بأكملها! الأنكى أنّ ما قيل ينزع النزعة الوطنية والإنسانية عمّا يرتكبه الاحتلال بحقّ لبنان وفلسطين وباقي دول المنطقة، ويختزل القضية بإشكال طائفي لا يهدّد الكيان اللبناني والمنطقة برمّتهما.

هكذا، يُصوَّر لبنانيّون على أنّهم أخطر من العدوّ المتربّص المعتدي على لبنان، فيما يُعطى العدوّ «الحقّ» في الاعتداء، علماً أنّه لا يحقّ له التطاول على أيّ شبر من لبنان، ووجوده غير شرعي من الأساس.

فوق ذلك، يتغاضى «المستفرغون» عن أنّ العدوّ استهدف ودنّس كنائس وأديرة عدّة في الجنوب والبقاع والضاحية، وقتل مسيحيّين من بينهم رجال دين، واحتلّ مناطق في قرى حدودية مسيحية… فهذا عدوّ لا يفرّق بين دين وآخر، وهذه عقيدته المتطرّفة، ومن المؤسف أنّ علينا الانجرار إلى توضيحات من هذا النوع فقط لإبراز ذلك! أمّا الأسوأ، فهو إشهار عدم الاكتراث للبنانيّين يتعرّضون لشكل من أشكال الإبادة، والتبجّح بـ«طردهم»!

التنميط مستمرّ بنجاح كبير

طبعاً، لا يكتمل المقطع من دون التنميط الذي يلاحق النازحين السوريّين، فيكمل الصوت الأنثوي المهيب أنّ «القرار التاني هوّي الحدت يعني صفر نازح، وتطبيق فعلي مش بالحكي. والنتيجة سوق عمل من دون مزاحمة وسرقات، وجريمة أقلّ».

ومن التبجّح بالعنصرية تجاه لبنانيّين إلى التبجّح بها تجاه أشقّائهم، يصوَّر السوريّون على أنّهم «سارقون» و«مجرمون». فالجريمة ملازمة لأيّ موجة لجوء أو نزوح، خصوصاً عندما يتمّ التعاطي معها بالاستهتار الذي اتّبعته الحكومات اللبنانية المتعاقبة طوال سنوات.

لكن كان يمكن استعراض هذه النقطة من دون هذا النفور في رفض الآخر وتصويره على أنّه وحش ينوي التهام البلدة، بل كان يمكن الاكتفاء بالتباهي بدور الشرطة البلدية والحرّاس الليليّين، وهو ما شكّل النقطة الأخيرة في المقطع.

في بلد «عادي»، يكون عنوان «الشرطة البلدية والحرّاس الليليون» هو الأساسي في مقطع يتحدّث عن الأمن. و«العادي» هنا ليس بالضرورة «المتطوّر» الذي نظنّ به عندما نلجأ إلى مقارنة بلدنا بـ«بلدان برّا» بنظرة استشراقية وتحقير للذات، خصوصاً أنّ «بلدان برّا» تتّجه من سيّئ إلى أسوأ، بل بشكل أدقّ من يمين إلى أيمن.

لكن هنا حيث تنخر الطائفية، وتسرح وتمرح العنصرية، نتفاخر بسوء معاملة أبناء بلدنا أيضاً، وليس فقط اللاجئين. تُصبح سردية عدوّ بلدنا مسيطرة إلى حدّ استخدامها في حملات انتخابية، فأيّ بلد هذا يعتمد على عدوّه ضدّ «خصومه»، وهم ليسوا كذلك سوى بسبب طائفتهم؟

غالباً ما نستعيد في حالات مماثلة أغنية «يا زمان الطائفية». لكن بحسب ما تبدو عليه الأمور لأربعة عقود سبقت صدور الأغنية ومثلها تلتها، فكلّ الأزمنة أزمنة الطائفية. في الواقع، ستبقى الطائفية «حديت» البلد «لحدية» الأبد، بل يمكننا «التحدّت» عن الحدت على أنّها صورة مصغّرة عن البلد. فأهلاً بكم في جمهورية الحدت!

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب