دراساتمقالات

نحو عقلانية قومية نقدية:الفلسفة كأداة لتحرير الأيديولوجيا في مشروع حسن خليل غريب ومقارنتها بالرؤى القومية الكلاسيكية

حسن خليل غريب -طيعة لبنان -

نحو عقلانية قومية نقدية:الفلسفة كأداة لتحرير الأيديولوجيا في مشروع حسن خليل غريب ومقارنتها بالرؤى القومية الكلاسيكية
أُنجز البحث بمساعدة الذكاء الاصطناعي
مقدمة:
شهد الفكر القومي العربي منذ نشأته تباينًا في الرؤى والمنهجيات، بين من تبنّى خطابًا تعبويًا يستند إلى الروح التاريخية والدينية، ومن انطلق من مقاربات عقلانية نقدية تسعى إلى تفكيك الأنساق الأيديولوجية المغلقة. وفي هذا السياق، يبرز مشروع حسن خليل غريب بوصفه محاولة فكرية لتأسيس عقلانية قومية متجددة، تتجاوز الجمود الأيديولوجي وتعيد ربط الفكر القومي بالواقع الاجتماعي والتاريخي من خلال أدوات الفلسفة النقدية ( ).
يتميّز موقف غريب من العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا برفضه تحويل الفكر القومي إلى عقيدة مغلقة، ودعوته إلى عقلنته عبر تفكيك مفاهيمه وربطها بالتحليل العقلاني. وهو بذلك يلتقي جزئيًا مع أطروحات محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، ويختلف عن طه عبد الرحمن الذي يدعو إلى فلسفة إيمانية تنطلق من المرجعية الإسلامية. كما يتباين مع المفكرين القوميين الكلاسيكيين مثل ميشيل عفلق، ساطع الحصري، وقسطنطين زريق، الذين ركّزوا على التأسيس التعبوي أو التنظيمي للفكر القومي، دون إعمال أدوات النقد الفلسفي بالقدر ذاته.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم خطة فكرية للتوفيق بين رؤية حسن خليل غريب ورؤى المفكرين القوميين العرب، من خلال تحليل الأسس المعرفية لكل اتجاه، وبناء أرضية معرفية مشتركة تُمكّن من صياغة مشروع قومي عربي عقلاني، متعدد الأبعاد، يجمع بين الروح النقدية، البعد الثقافي، المرجعية الروحية، والتنظيم التربوي.
القسم الأول
الفلسفة كأداة لتحرير الأيديولوجيا:
قراءة في مشروع حسن خليل غريب النقدي
مقدمة:
يسعى حسن خليل غريب إلى عقلنة الأيديولوجيا القومية والدينية عبر توظيف الفلسفة كأداة نقدية لفهمها وتفكيكها، وربطها بالواقع التاريخي والاجتماعي. في كتاباته، لا سيما محنة الأيديولوجيا في التاريخ العربي المعاصر، يقدّم مشروعًا فكريًا يهدف إلى تحرير العقل العربي من التبعية والانغلاق، وتأسيس خطاب عقلاني منفتح على الحوار والتجديد.
ولهذا إليك خطة العمل إنجاز هذا البحث:
-أولًا: الفلسفة في مواجهة الأيديولوجيا القومية
-ثانيًا: نقد الأيديولوجيا الدينية في “الردة في الإسلام”
-ثالثًا: الماركسية والليبرالية من منظور قومي عقلاني
-رابعًا: مقارنة مع مفكرين قوميين كلاسيكيين
-أولًا: الفلسفة في مواجهة الأيديولوجيا القومية
يستفيد حسن خليل غريب من الفلسفة لعقلنة الأيديولوجيا القومية عبر تفكيكها نقديًا وربطها بالواقع التاريخي والاجتماعي، مما يمنحها طابعًا عقلانيًا بعيدًا عن التقديس والانغلاق.
1- توظيف الفلسفة في عقلنة الأيديولوجيا
-نقد الأسس الميتافيزيقية للأيديولوجيا: يرفض غريب التعامل مع الأيديولوجيا القومية كحقائق مطلقة أو مقدسة، ويستخدم الفلسفة لتفكيك هذه التصورات، مبرزًا أنها نتاج تاريخي واجتماعي قابل للتغيير.
-تحليل المفاهيم القومية بمنهج عقلاني: يستعين بالفلسفة لتوضيح أن المفاهيم القومية ليست جوهرانية، بل تتشكل ضمن سياقات سياسية وثقافية، ما يفتح المجال لإعادة صياغتها بما يخدم الواقع العربي.
-تمييز بين الفكر القومي والإسلام السياسي: في كتاباته حول العلاقة بين الفكر القومي والإسلامي، يستخدم أدوات فلسفية لتحديد الحدود بينهما، مؤكدًا أن الرابطة القومية يجب أن تُفهم كإطار مدني عقلاني لا يتعارض مع الدين، بل يتجاوزه نحو مشروع سياسي جامع.
2-إعادة تعريف الأيديولوجيا
-يرى أن الأيديولوجيا ليست مجرد شعارات سياسية، بل هي نسق فكري يجب أن يخضع للنقد والتطوير. ويؤكد أن الأيديولوجيا القومية يجب أن تكون منفتحة على التغيير، لا أن تُفرض كقالب جامد.
-يطرح أربعة مفاهيم للأيديولوجيا في السياق العربي، منها المفهوم الأممي الوضعي، الذي يعتبره فاشلاً لأنه خسر الأمة ولم يربح الأممية، ما يعكس رؤيته الفلسفية التي تربط الفكر بالنتائج الواقعية.
3-الفلسفة كأداة للحوار والتجديد:
-يدعو إلى الحوار بين القوى الفكرية والسياسية، ويعتبر أن الفلسفة تتيح هذا الحوار عبر تجاوز الانغلاق الأيديولوجي.
-يرفض الانحياز المطلق لأي تيار، ويؤمن بأن الفلسفة تساعد على بناء موقف نقدي متوازن، يراعي تعقيدات الواقع العربي.
-ثانيًا: نقد الأيديولوجيا الدينية في “الردة في الإسلام”
-كتاب “الردة في الإسلام” لحسن خليل غريب هو دراسة نقدية تاريخية وفكرية تفضح استخدام مفهوم الردة كأداة سياسية لقمع الفكر الحر، بينما يعكس موقفه من الماركسية والليبرالية نزعة نقدية مزدوجة: ينتقد انغلاق الماركسية الأممية ويشكك في نجاعة الليبرالية الغربية في السياق العربي.
الكتاب يحمل عنوانًا فرعيًا: قراءة تاريخية وفكرية في الأصول والاتجاهات، ويقع في صلب مشروع غريب النقدي الذي يربط بين الفكر الديني والسياسي.
أبرز الأفكار:
-الردة كأداة سياسية: يرى غريب أن مفهوم الردة لم يُستخدم في الإسلام الأول كعقيدة دينية بقدر ما كان وسيلة لضبط الجماعة السياسية، خاصة في عهد الخلفاء الراشدين.
-نقد الفقه التقليدي: ينتقد الفقهاء الذين رسخوا لعقوبة القتل بحق المرتد، معتبرًا أن ذلك يتعارض مع مبدأ “لا إكراه في الدين”.
-الردة والفكر الحر: يعتبر أن تجريم الردة أدى إلى تجميد العقل الإسلامي ومنع تطور الفكر، مما ساهم في تراجع الحضارة الإسلامية.
-دعوة لإعادة التأويل: يدعو إلى قراءة النصوص الدينية في ضوء السياق التاريخي والاجتماعي، وتحريرها من التفسيرات السلطوية التي كرّست العنف باسم الدين.
-ثالثًا: الماركسية والليبرالية من منظور قومي عقلاني
1-في كتابه “الماركسية بين الأمة والأممية”، يقدّم غريب نقدًا داخليًا للماركسية من موقع قومي عقلاني.
أبرز مواقفه:
-نقد الأممية الماركسية: يرى أن الماركسية الكلاسيكية، خاصة في نسختها اللينينية، تغفل الخصوصيات القومية وتذيبها في مشروع أممي لا يراعي الواقع المحلي.
-إعادة تأويل الماركسية: لا يرفض غريب الماركسية كمنهج تحليلي، بل يدعو إلى توطينها ضمن السياق العربي، بحيث تخدم مشروع التحرر القومي لا أن تتجاوزه.
-التحذير من التبعية الفكرية: يعتبر أن بعض الماركسيين العرب وقعوا في فخ التبعية للمرجعيات السوفييتية، مما أفقدهم القدرة على فهم الواقع العربي بعمق.
2-موقفه من الليبرالية:
رغم عدم تخصيصه كتابًا مستقلاً لليبرالية، إلا أن مواقفه النقدية تتضح من خلال مقالاته وتحليلاته الفكرية.
أبرز ملامح نقده:
-الليبرالية كأداة هيمنة: يرى أن الليبرالية الغربية، كما تُصدَّر إلى العالم العربي، ليست مشروعًا تحرريًا بل أداة ناعمة للهيمنة الثقافية والسياسية.
-فشلها في بناء مشروع نهضوي عربي: ينتقد الليبراليين العرب الذين يتبنون النموذج الغربي دون نقد، معتبرًا أن ذلك يؤدي إلى قطيعة مع الهوية الثقافية.
-الدعوة إلى عقلانية نقدية بديلة: يطرح بديلاً يقوم على عقلانية قومية منفتحة، تستفيد من منجزات الحداثة دون أن تذوب في نماذجها الغربية.
3-كيف يترجم رؤيته في العلاقة بيتهما من كتابيه الردة والعلاقة السليمة:
في كتابيه “الردة في الإسلام” و*”في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام”*، يقدّم غريب مشروعًا فكريًا يسعى إلى عقلنة الخطاب الأيديولوجي، سواء كان دينيًا أو قوميًّا، من خلال أدوات الفلسفة النقدية والتاريخية:
أ- الردة في الإسلام – الفلسفة ضد التقديس
-نقد الأيديولوجيا الدينية: يستخدم غريب الفلسفة لتفكيك مفهوم الردة، الذي تحوّل في التراث الفقهي إلى أداة قمع فكري. يرى أن هذا المفهوم تم توظيفه سياسيًا أكثر من كونه عقيدة دينية.
-تحرير العقل من الخوف: يدعو إلى إعادة قراءة النصوص الدينية بمنهج عقلاني تاريخي، يحرر الفكر الإسلامي من سلطوية الفقهاء ومنطق التكفير.
-الفلسفة كأداة تأويلية: يرفض التفسير الحرفي للنصوص، ويؤمن أن الفهم الفلسفي يتيح تأويلًا إنسانيًا يراعي السياق ويعزز حرية الفكر.
بـ- في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام – الفلسفة لتفكيك التداخل الأيديولوجي
-نقد العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام: يرى أن التداخل بينهما أدى إلى إشكاليات فكرية وسياسية، حيث تم تديين القومية أو تسييس الدين.
-الفلسفة لفصل المفاهيم: يستخدم المنهج الفلسفي لفصل العروبة كهوية ثقافية عن الإسلام كدين، دون أن ينكر تأثير كل منهما في الآخر.
-دعوة إلى عقلانية قومية: يطرح مشروعًا يقوم على عقلانية قومية منفتحة، لا تنغلق على التراث ولا تذوب في النموذج الغربي، بل تستفيد من الفلسفة لتجديد الفكر القومي.
خلاصة رؤيته الفلسفية
-الفلسفة ليست نقيضًا للأيديولوجيا، بل أداة لتقويمها: غريب لا يرفض الأيديولوجيا، بل يدعو إلى تعقيلها وتحريرها من التقديس.
-العقل هو مركز المشروع النهضوي: يؤمن أن تحرير العقل العربي من التبعية الدينية أو الغربية هو شرط أساسي للنهضة.
-التاريخ كمرآة للفكر: يوظف الفلسفة لفهم التاريخ، لا لتبريره، ويعتبر أن إعادة قراءة الماضي ضرورية لبناء مستقبل فكري حر.
جـ-لدى حسن خليل غريب عدة نصوص أخرى تعالج العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا، أبرزها: محنة الأيديولوجيا في التاريخ العربي المعاصر، الماركسية بين الأمة والأممية، والبعد الإيماني في الفكر القومي العربي. في هذه الأعمال، يستخدم الفلسفة كأداة نقدية لفهم الأيديولوجيا وتحريرها من الجمود، مع التركيز على السياق العربي.
إليك أبرز النصوص التي تتناول هذه العلاقة، مع استخلاص أهم الأفكار:
يعتبر أن الأيديولوجيا ليست عقيدة ثابتة، بل نسق فكري قابل للتغيير. ولذلك يدعو إلى نقد الأيديولوجيات المغلقة التي تعيق الحوار والتجديد. ويميز بين أربعة مفاهيم للأيديولوجيا، منها المفهوم الأممي الوضعي الذي “خسر الأمة ولم يربح الأممية”، ما يعكس موقفًا فلسفيًا نقديًا تجاه الماركسية التقليدية. بحيث ينقد العلاقة بين الفكر الماركسي والمشروع القومي العربي. وهو يستخدم أدوات الفلسفة السياسية لتفكيك التناقض بين الأممية الماركسية والخصوصية القومية. ويدعو إلى توطين الماركسية ضمن السياق العربي، بحيث تخدم مشروع التحرر القومي. كما يرفض التبعية الفكرية للنماذج الغربية، ويؤمن أن الفلسفة تساعد على بناء موقف نقدي مستقل.
د-في كتاب (البعد الإيماني في الفكر القومي العربي) بعالج فيه العلاقة بين الدين والقومية. ويسعى إلى تأصيل البعد الإيماني في الفكر القومي دون الوقوع في فخ الأصولية. ويستخدم الفلسفة لتوضيح أن الإيمان لا يتناقض مع العقلانية القومية، بل يمكن أن يكون جزءًا منها. وهو في الوقت ذاته يرفض تديين الأيديولوجيا القومية، ويدعو إلى فصل الدين عن السياسة دون إقصاءه ثقافيًا.
هـ- خلاصة العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا في مشروعه:
-الفلسفة أداة نقد وتحرير: لا يتعامل مع الأيديولوجيا كحقائق مطلقة، بل كأنساق قابلة للنقد والتجديد.
-الأيديولوجيا يجب أن تُعقلَن: يدعو إلى تحرير الأيديولوجيا من التقديس، سواء كانت دينية أو قومية أو أممية.
-العقل هو مركز النهضة: يرى أن النهضة العربية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر مشروع عقلاني نقدي، يستفيد من الفلسفة لفهم الواقع وتغييره.
القسم الثاني:
مقارنة مشروع حسن خليل غريب
مع مشاريع مفكرين قوميين كلاسيكيين
يمتاز موقف حسن خليل غريب من الفكر القومي بنزعة نقدية عقلانية تميّزه عن تيارات قومية كلاسيكية مثل فكر ميشيل عفلق، ساطع الحصري، وقسطنطين زريق، إذ يسعى إلى عقلنة الأيديولوجيا القومية وتحريرها من الجمود. وإنه باستثناء عفلق الذي ترجم العقيدة القومية العربية إلى مشروع تنظيمي قابل للتطبيق، ركّز الآخرون على التأسيس النظري أو التعبوي للوحدة القومية.
مقارنة تفصيلية بين موقفه ومواقف أبرز المفكرين القوميين العرب:
1- حسن خليل غريب: القومية كفكر نقدي متجدد، يرفض التقديس الأيديولوجي، ويعتبر أن الفكر القومي يجب أن يخضع للنقد والتجديد، لا أن يُعامل كعقيدة مغلقة. لذلك يدعو إلى عقلنة الأيديولوجيا، باستخدام أدوات الفلسفة لتفكيك المفاهيم القومية وربطها بالواقع الاجتماعي والتاريخي. وفي الوقت ذاته ينتقد الماركسية الأممية والليبرالية الغربية، ويرى أن كليهما فشل في تقديم مشروع نهضوي عربي، ويدعو إلى عقلانية قومية منفتحة. لذلك كله يركز على العلاقة بين العقل العربي والعقل القومي العربي، ويطرح مشروعًا فكريًا يربط بين الهوية الثقافية والتحليل العقلاني.
2- ميشيل عفلق: القومية كرسالة روحية وتاريخية:
إن تشخيص منهج عفلق المعرفي -وإن تعرض لنقد في بعض جوانبه- لا يجيز على الإطلاق أن يقلِّل من أهمية مشروعه التنظيمي البالغ الأهمية في تأسيس حزب البعث بثلاثية مبادئه في الوحدة والحرية والاشتراكية. ذلك التأسيس الذي أنزل الأيديولوجيا القومية من برجها النظري إلى أيديولوجيا ممكنة التطبيق الفعلي. وهو يتميَّز بهذا السبق عن كل المفكرين القوميين على شتى مناهجهم الفكرية القومية.
وأما من ناحية منهجه الفكري، فهو يربط القومية بالإسلام كرسالة روحية على قاعدة أن الإسلام هو التعبير الروحي عن القومية العربية، وليس مجرد مكوّن ثقافي. ويعتبر أن القومية تجسيد لتطلعات الشعب العربي نحو التحرر والتقدم. ومنهجه خطابي تعبوي أكثر منه نقدي، ويركّز على الربط بين الأيديولوجيا القومية والفلسفة، دون تعقيد فلسفي أو نقد ذاتي عميق. ( )
3- ساطع الحصري: القومية كهوية لغوية وثقافية:
يركّز على اللغة كعنصر جوهري: يعتبر أن اللغة العربية هي أساس الهوية القومية. ويرفض الطائفية والانقسام، ويدعو إلى وحدة عربية تتجاوز الانتماءات الدينية والعرقية. ومنهجه تربوي وتنظيمي يعمل على إدخال الفكر القومي في المناهج التعليمية، خاصة في العراق وسورية ( ).
4- قسطنطين زريق: القومية كمشروع عقلاني علماني:
يطرح القومية كفكر علماني تقدميو يرى أن القومية يجب أن تكون عقلانية، غير دينية، وتخدم التحديث العربي. ويركّز على التاريخ والحداثة: يعتبر أن فهم التاريخ العربي ضروري لبناء مشروع قومي حديث. فمنهجه أكثر من تعبوي، وهو الذي أسّس الأرضية الفكرية لحركات قومية مثل حركة القوميين العرب ( ).
5-محمد عابد الجابري: الفلسفة لتحرير العقل من الأيديولوجيا
-مشروعه الفلسفي يقوم على نقد العقل العربي وتفكيك بنياته المعرفية، بهدف تحريره من التبعية للأيديولوجيات المغلقة، سواء كانت دينية أو قومية أو أممية. ويرى أن الأيديولوجيا في الفكر العربي المعاصر تغلَّبت على الفلسفة، وحالت دون نشوء فكر نقدي عقلاني. لذلك، يدعو إلى إعادة بناء العقل العربي عبر أدوات الفلسفة والتحليل التاريخي. ويميز بين العقل المعياري (الذي يخضع للأيديولوجيا) والعقل النقدي (الذي يستخدم الفلسفة لتفكيك الأنساق المغلقة. لذلك يعتبر أن الفلسفة يجب أن تكون أداة للتحرر الفكري، لا مجرد تبرير للأيديولوجيا، ويؤمن بإمكانية توطين الفلسفة في السياق العربي دون الوقوع في التبعية للغرب ( ).
6-طه عبد الرحمن: نقد الفلسفة الغربية وتأسيس فلسفة إيمانية:
يرى أن الفلسفة الغربية الحديثة مشبعة بأيديولوجيا مادية وعقلانية تجزيئية، ويعتبر أنها لا تصلح كأساس لفكر عربي إسلامي. ويدعو إلى تأسيس فلسفة إيمانية تنطلق من القيم الروحية الإسلامية، وتعيد الاعتبار للبعد الأخلاقي في التفكير الفلسفي. كما ينتقد الجابري لأنه، في نظره، استورد أدوات فلسفية غربية لتفكيك العقل العربي، دون مراعاة الخصوصية الدينية والثقافية. لذلك يعتبر أن العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا يجب أن تُعاد صياغتها من داخل المرجعية الإسلامية، لا من خارجها، ويؤمن بأن الفلسفة يجب أن تكون خادمة للقيم لا منفصلة عنها.
7- اقتراحات حلول لتنوع مواقف المفكرين القوميين العرب:
نتيجة المنهجية بين عقلانية حسن خليل غريب، الروح التعبوية لعفلق، البعد التربوي للحصري، التحديث العقلاني لزريق، النقد الفلسفي للجابري، والرؤية الإيمانية لطه عبد الرحمن، يمكن وضع خطة عمل فكرية للتوفيق بين هذه المواقف المتباينة. ويمكن تصنيف المواقف إلى: عقلانية نقدية (غريب، زريق، الجابري. تميَّز غريب من بينهم بالاهتمام بالعقل القومي العربي كعقل أيديولوجي عليه أن يحتكم إلى عقلنة الفلسفة)، تعبوي تنظيمي (عفلق، الحصري)، فلسفي إيماني (طه عبد الرحمن) ( ).
علماً أن التوفيق لا يعني التذويب، بل يعني بناء (جسر معرفي) بين تيارات مختلفة، يجمع بين العقل والروح، بين الفلسفة والتاريخ، بين النقد والتنظيم. ولأن مواقف حسن خليل غريب هي أحدث تلك المواقف يمكن أن تكون نقطة انطلاق لهذا المشروع، بحيث يفتح الباب للنقد والتجديد، دون أن يلغي أهمية التراث القومي أو الروحي.
ولتحقيق المشروع على أرض الواقع، وكفاتحة للحوار، أن تضم طاولة الحوار كل من يمتلك رؤية قومية فيها بعض الاختلاف، نقترح الورقة التالية:
-إعداد مناهج تعليمية تجمع بين الفكر القومي النقدي والتربوي.
-إنشاء مراكز بحثية للحوار بين التيارات الفكرية المختلفة.
-تنظيم مؤتمرات فكرية دورية.
-دعم الإنتاج الثقافي الذي يعكس هذا التوافق.
الخاتمة
يُعدّ مشروع حسن خليل غريب في الفكر القومي العربي محاولة نوعية لإعادة تأسيس العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا على أسس عقلانية نقدية، تتجاوز النزعة التقديسية التي طبعت بعض التيارات القومية الكلاسيكية. فقد سعى غريب إلى تحرير الفكر القومي من الجمود، عبر توظيف أدوات الفلسفة في تفكيك المفاهيم القومية وربطها بالواقع الاجتماعي والتاريخي، دون الوقوع في التبعية للأنساق الغربية أو الأممية.
وعند مقارنة هذا المشروع بمواقف مفكرين قوميين كلاسيكيين مثل ميشيل عفلق، ساطع الحصري، وقسطنطين زريق، يتضح أن غريب يقدّم نقلة معرفية من التأسيس التعبوي والتنظيمي إلى التأسيس النقدي والتحليلي. كما أن تقاطعه مع أطروحات محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، واختلافه مع طه عبد الرحمن في المرجعية الفلسفية، يفتح المجال لتأسيس أرضية فكرية مشتركة تجمع بين العقلانية، الروح، الهوية، والتاريخ.
إن التوفيق بين هذه المشاريع لا يعني إلغاء الخصوصيات، بل يستهدف بناء مشروع قومي عربي متجدد، متعدد الأبعاد، يستفيد من الإرث الفكري القومي، ويعيد صياغته في ضوء التحولات المعرفية والاجتماعية المعاصرة. ومن هنا، فإن مشروع حسن خليل غريب يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق نحو عقلانية قومية نقدية، تُعيد للفكر القومي العربي قدرته على التجدد، النقد، والتفاعل الخلاق مع تحديات العصر.
قائمة المراجع:
1-عفلق، م. (1972). في سبيل البعث. بيروت: دار الطليعة.
2-الحصري، س. (1961). حول القومية العربية. بيروت: دار العلم للملايين.
3-زريق، ق. (1959). نحن والتاريخ. بيروت: دار العلم للملايين.
4-الجابري، م. ع. (1982–2001). نقد العقل العربي (أربعة أجزاء). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
5-عبد الرحمن، ط. (2002). الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. وروح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب