قراءة نقدية في سقوط الذاكرة والضمير . في قصة : ولا غالب إلا الله . للكاتب : رحال امانوز . بقلم : الدكتور الجامعي بوشتى

قراءة نقدية في سقوط الذاكرة والضمير . في قصة : ولا غالب إلا الله . للكاتب : رحال امانوز . بقلم : الدكتور الجامعي بوشتى
بقلم : الدكتور الجامعي بوشتى
مقدمة :
تستدعي قصة «ولا غالب إلا الله» للكاتب رحّال أمانوز مشهداً تاريخياً مفعماً بالانكسار، ينهض فيه البطل على ربوة النهاية، متأملاً سقوط إمارةٍ كانت يوماً عنواناً للكرامة والإيمان والتسامح. ليست القصة مجرد استعادة لسقوط الأندلس أو لسقوط أيّ معقل إسلامي، بل هي تمثيل رمزي لسقوط الإنسان حين يضيع منه المعنى، ولحظةٍ تتقاطع فيها الأسئلة السياسية والدينية والوجودية في آنٍ واحد.
يبدأ النص بدمعة وزفرة وينتهي بتسليم مفاتيح الهوية، بينهما عبور مؤلم من الذات إلى العدم، ومن القوة إلى العجز، ومن الإيمان بالفعل إلى الإيمان بالعزاء. هنا تتحول العبارة الختامية «ولا غالب إلا الله» من شعارٍ تاريخي إلى نغمة قدرية مشحونة بالأسى، تكشف مأزق الإنسان بين الإيمان بالعناية الإلهية وبين الإحساس بالخذلان التاريخي.
الإشكالية التأويلية
كيف يحوّل أمانوز حدث الهزيمة إلى تأمل في مسؤولية الإنسان أمام التاريخ؟
وهل تمثّل عبارة «ولا غالب إلا الله» إيماناً بالقدر، أم محاولةً لتجميل العجز وتبرير السقوط؟
ينفتح النص، بذلك، على قراءة هرمنيوطيقية تستكشف المعنى خلف الحدث، والرمز خلف الجملة، والإنسان خلف الصورة البطولية.
أولاً: السقوط بوصفه امتحاناً للضمير
يقف البطل على ربوةٍ شاهقة، كأنه في مفترق الوجود بين الحياة والموت. المشهد المكثّف يعيد بناء رمزية «الوقوف على الحافة» التي تعبّر عن لحظة وعيٍ قصوى بالذنب.
إنّ الدمعة والزفرة ليستا عاطفة عابرة، بل لغة الجسد الوجودي حين يعجز اللسان عن تبرير الانكسار. يكتشف القائد أنّ قراره بالاستسلام أنقذ الأرواح لكنه أفقد المعنى.
من هنا، يتجاوز النص حدود السياسة نحو الأخلاق: إنه ليس نصاً عن سقوط مدينة، بل عن سقوط إنسانٍ أمام مرآة نفسه.
ثانياً: من الوطن إلى الهوية
يتحوّل المكان في القصة إلى رمزٍ مزدوج: القصر/الوطن، والمسجد/الهوية.
فحين يرى القائد قصره البعيد وقد تحوّل إلى مكانٍ غريبٍ عنه، يسمع أجراس الكنائس حيث كان الأذان، وتتحوّل المآذن إلى صلبان.
التحوّل الديني هنا ليس مجرد تبدّلٍ في الطقوس، بل انمحاءٌ للذات الثقافية.
تتجاور في النص ألفاظ “اللغة” و”الدين” و”الهوية”، في دلالة على أن السقوط لم يكن عسكرياً فحسب، بل لغوياً وروحياً.
إنّ فقدان اللسان هو سقوط الذاكرة، كما أنّ فقدان الأذان هو صمت الروح.
ثالثاً: الدين بين التعزية والمساءلة
حين يردّد السارد: «ولا غالب إلا الله»، تتبدّى الجملة كتعبير إيمانيّ يضمر شحنة مزدوجة:
فمن جهةٍ هي تعزية روحية تنسب الغلبة إلى الله، ومن جهةٍ أخرى هي قناعٌ لقدَرٍ مأساويّ يُبرّر به العجز.
بهذا المعنى، يقرأ النص العبارة التاريخية لا كإعلان للنصر، بل كعلامة على اكتمال الهزيمة، لأنّ الإنسان لم يعد فاعلاً في قدره بل مجرّد شاهدٍ عليه.
يتحوّل الإيمان في النص من قوةٍ للفعل إلى وسيلةٍ للتسليم، ومن التوكّل إلى التواكل، وهو تحوّل تأويليّ عميق يعيد مساءلة الوعي الديني نفسه.
رابعاً: المنفى بوصفه قدراً وجودياً
المنفى في القصة ليس انتقالاً جغرافياً، بل عبوراً إلى العدم.
حين يوجّه القائد لجام فرسه نحو «الضفة الأخرى»، لا يغادر مكاناً بل يغادر ذاته القديمة.
إنّه منفى مزدوج: منفى المكان ومنفى الضمير.
يصبح السفر استعارةً للتيه الإنساني، والضفة الأخرى رمزاً للغربة في الذاكرة الجماعية، حيث لا يبقى من الوطن سوى الحنين، ولا من الدين سوى الصدى.
خامساً: الجواد والربوة… جسد الزمن
يستعين أمانوز برمزين حركيين: الجواد والربوة.
الجواد هو الزمن في جريانه، بينما الربوة هي الوعي في علوّه المؤقت.
ضربات الحوافر على الأرض توحي بالاستعجال، وكأنها نبض الساعة الأخيرة.
أما وقوف البطل على الربوة فيعني وقوفه بين ماضٍ ينهار ومستقبلٍ مجهول — إنه يطلّ من نافذة الزمن ليرى ذاته تُمحى ببطء.
بهذا، تصبح الحركة والوقفة شكلين من المفارقة الوجودية: يتحرك جسده بينما يتجمّد ضميره.
خاتمة تأويلية
تُعيد قصة «ولا غالب إلا الله» كتابة مشهد السقوط الأندلسي لا بوصفه نهاية جغرافية، بل كمأساة للضمير الإنساني في مواجهة التاريخ.
إنّ الكاتب لا يقدّم بطلاً ولا خائناً، بل إنساناً يحمل وزر الزمن.
في النهاية، تغدو العبارة الختامية نداءً إلى وعي جديد بالهزيمة:
أن نفهم أن الغلبة ليست شعاراً يُرفع بعد الهزيمة، بل مسؤولية تُمارس قبلها.
وهكذا يتركنا النص في حيرةٍ تأويلية مثمرة:
هل الغالب حقاً هو الله، أم أنّ الغلبة تُمنح فقط لمن لم يفرّ من مسؤوليته؟



