الأغوار وتعزيز دور الخطاب الأمني في إنتاج السيادة بعد السابع من أكتوبر

الأغوار وتعزيز دور الخطاب الأمني في إنتاج السيادة بعد السابع من أكتوبر
أبو عرام: معروف أنّ المشروع الصهيوني في كل فلسطين لديه هاجس فرض السيادة، وهو يستعمل أكثر من خطاب في سبيل تجسيد ذلك على الأرض، من بينها، وربما أكثرها شيوعًا، الخطاب الأمني.11:03 ص 26/10/25
شكَّل غور الأردن جزءًا من الرؤية الأمنية الإسرائيلية التي تبلورت مباشرةً بعد سنة 1967 في إطار خطة يغال آلون، التي شدَّدت على ضرورة الاحتفاظ بشريط واسع على امتداد نهر الأردن ضمن السيادة الإسرائيلية، لأجل تأمين حدودٍ أمنية، ومنع قيام دولة فلسطينية بين الأردن وإسرائيل. وهي الرؤية التي كرَّسها يتسحاق رابين عندما أكّد في خطابه الأخير أمام الكنيست أنّ “الحدّ الأمني لدولة إسرائيل سيكون في غور الأردن بالمعنى الواسع لهذه المقولة”.
وبينما أُحيطت السيطرة الإسرائيلية على الغور منذ عام 1967 بخطاب أمني يرتكز على مفاهيم العمق الدفاعي والحدود القابلة للدفاع، فإنّ الوقائع الميدانية تشير إلى أنّ الثابت كان تحويل الأمن إلى أداة لإنتاج السيادة ومنع تشكُّل سيادة فلسطينية مقابلة، وهو توجه تعزّز بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ببروز الخطاب الذي يضع ما يُسمّى بـ”تهديدات الجبهة الشرقية” في صدارة الأولويات، ويُشرعن توسيع أدوات السيطرة عبر مشروع جدارٍ على الحدود مع الأردن، وتوسيع صلاحيات الجيش والمستوطنين، ومصادرة مساحات شاسعة من الأراضي تحت مُسمّى “أراضي دولة”.
هذا ما تؤكده مقالة الباحث أشرف أبو عرام حول “الخطاب الأمني بشأن غور الأردن بعد السابع من أكتوبر” التي نُشرت على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والتي تنطلق من فرضية أنّ التحولات الخطابية وما تبعها من تحولات إجرائية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر لا يمكن قراءتها كاستجابة ظرفية فحسب، بل أيضًا كعملية تُسخِّر الأمن لتحقيق غاية سياسية ثابتة؛ وهي فرضُ السيادة الإسرائيلية ومنع تبلور كيان فلسطيني غرب النهر.
يعتمد الباحث في تحليله على إحصاءات ومعطيات ميدانية مستمدَّة من بيانات مؤسسات دولية، ووثائق رسمية فلسطينية، وتقارير حقوقية، ودراسات محكّمة، بالإضافة إلى إصدارات سياساتية إسرائيلية لتبيان الكيفية التي جرى فيها دمج الأمن في مشروع سيادي متواصل، ويظهر أنّ الهدف الجوهري كان فرض السيادة ومنع تبلور سيادة فلسطينية مقابلة.
هذا التوجه تعزّز، كما يقول، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، عبر خطاب يُبرز الجبهة الشرقية، ويُشرعن مشاريع ميدانية، كالجدار على الحدود مع الأردن، وتوسيع صلاحيات الجيش والمستوطنين، وإعلانات غير مسبوقة لأراضٍ فلسطينية كأراضي دولة، وترافق مع تصاعد العنف الاستيطاني والتهجير القسري، والقيود على الموارد والحركة، وهو ما أنشأ بيئة قسرية طاردة.
وتخلص المقالة إلى أنّ ما جرى في الغور لا يمكن فهمه كتشدّد أمني ظرفي، إنما كبنية تراكمية تعتمد منطق الحسم بالتقسيط، وتنتج وقائع متتابعة لا رجعة عنها، وتلغي عمليًا إمكان قيام كيان فلسطيني قابل للحياة غرب النهر.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” الباحث أشرف أبو عرام لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع.

“عرب 48”: لطالما استغلت إسرائيل الادعاء الأمني كغطاء لمزيد من التوسع وتعزيز الاستيطان والسيطرة على الأرض الفلسطينية، وما يجري في الأغوار منذ بدء حرب الإبادة على غزة من تهجير واقتلاع للتجمعات الرعوية والسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، ويجري ذلك ضمن عمليات منسقة جيدًا بين جيش الاحتلال والمستوطنين الذين يلعبون دور “قوى ضاربة” في ترهيب الفلسطينيين بواسطة أعمال الضرب والنهب والحرق وتسميم المواشي وتخريب الممتلكات، بحماية كاملة من قوات الاحتلال. وتشكل هذه الممارسات بمجملها قفزة نوعية على هذا الصعيد واستغلالًا متناهيًا لحدث السابع من أكتوبر في تنفيذ مخطط التهجير والضم وفرض السيادة على هذه المنطقة الحيوية؟
أبو عرام: معروف أنّ المشروع الصهيوني في كل فلسطين لديه هاجس فرض السيادة، وهو يستعمل أكثر من خطاب في سبيل تجسيد ذلك على الأرض، من بينها، وربما أكثرها شيوعًا، الخطاب الأمني. وإذا سألنا: لماذا الأغوار الآن؟ فلأنها تمتد على طول شريط حدودي طويل جدًا مع الأردن، ولأن هناك فرصة تاريخية بعد السابع من أكتوبر لتحويل الخطاب الأمني إلى خطاب منتج للسيادة ومبرّر لها، علمًا بأنّ تعريف منطقة الأغوار كحاجة أمنية بدأ مع مشروع آلون الذي صُمّم غداة احتلال 1967، والذي تم اعتماده إسرائيليًا وتأكيده من قبل رابين في خطابه الأخير في الكنيست (بعد توقيع اتفاق أوسلو).
خطاب البقاء في الأغوار وعدم الانسحاب منها كان يُغلّف دائمًا بغلاف أمني له علاقة بحدود قابلة للدفاع عنها، خطاب يتذرّع بضيق الشريط بين الحدود الفلسطينية ومنطقة “غوش دان” التي تشكّل الثقل السكاني وتتمركز فيها القطاعات الإنتاجية، وأنّ الأغوار بهذا المعنى توفّر العمق الدفاعي لإسرائيل.
التحوّل الذي حدث بعد السابع من أكتوبر في هذا الخطاب هو أنّ الحديث لم يعد عن جبهة أو حدود قابلة للدفاع، بل جرى “أمننة” الجبهة، بمعنى أنّ الجبهة أصبحت في الخطاب الأمني الإسرائيلي بمثابة تهديد وجودي مستمر، ولم يعد الحديث يجري عن البقاء في الأغوار لحاجة أمنية، بل عن البقاء فيها لإحباط التهديد الأمني المنتظر، وهذا هو التحوّل الأساسي في الخطاب بعد السابع من أكتوبر.
الفارق أنه في السابق، أي عندما كان يُعتبر البقاء في الأغوار حاجة أمنية، كان الاستغناء عنها واردًا إذا ما توفر نظام دفاع جوي متقدّم وإنذار مبكر، كما تقول العقيدة الأمنية الإسرائيلية. لكن عند الحديث عن تهديد وجودي وعن تسلل وهجوم شبيه بهجوم السابع من أكتوبر على الحدود مع غزة، تصبح الحاجة إلى الأغوار كعمق استراتيجي ومساحة فاصلة أكثر حيوية، والتخلي عنها مسألة غير واردة إطلاقًا.
هذا التغيير يحوّل الخطاب الأمني إلى خطاب منتج للسيادة ومبرّر لها، لأنّ كل عناصر العقيدة الأمنية الإسرائيلية لا تقدّم اليوم إجابات من شأنها أن تجعل إسرائيل تنسحب من الأغوار، بعد أن أحدث التحوّل المذكور عملية “أمننة” لها.
“عرب 48”: لكننا نعرف أنّ هذه المنطقة سياسيًا، بغض النظر عن الخطاب الأمني المرتبط بها، هي جزء من المناطق المصنَّفة “ج”، والتي تشكّل 60% من مساحة الضفة الغربية والمهددة بالضم من قبل حكومة اليمين، التي تسعى بدأب لتنفيذ خطة سموتريتش المسماة “خطة الحسم”؟
أبو عرام: ضمّ الضفة أو مناطق “ج” تحديدًا ليس خطابًا يستطيع كل الإسرائيليين تبنّيه، ونحن عندما نتحدث هنا عن إسرائيل نتحدث عن الدولة العميقة، عن المؤسسة الأمنية وأذرعها المختلفة من جيش و”شاباك” و”موساد”. اليوم هناك علمانيون وليبراليون لا يستطيعون تبنّي خطاب الضم، ولكنهم يستطيعون تبنّي الخطاب الأمني.
سموتريتش يقول إنه يريد ضمّ 82% من الضفة الغربية، وهذا خطاب مستهجن دوليًا وهو محل نقاش داخل إسرائيل، ولكن عندما يُقدَّم مبرر أمني، أو عندما يكون الخطاب الأمني كله مبررًا لهذا السلوك، يصبح مقبولًا على يمين الخارطة السياسية الإسرائيلية ويسارها، إذا ما بقي هناك يسار.
“عرب 48”: لا أعتقد، لأنّ كلهم صوّتوا ضد إقامة دولة فلسطينية، وكلهم عارضوا المبادرة الفرنسية حول حل الدولتين؟
أبو عرام: القصد أنّ هناك من يتحدث عن أنّ خطاب الضم مرفوض لأنه يؤذي إسرائيل دوليًا، ولكن عندما يتم تبرير ذلك بمنطق أمني يصبح مقبولًا. على سبيل المثال، فإنّ غادي آيزنكوت، وهو أحد أهم الأشخاص الذين يساهمون مؤخرًا في صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية، يتحدث عن مفهوم “الحسم بالتقسيط”، حيث يقول إنّ إسرائيل لا تستطيع في كل مرة إحداث نصرٍ وحسمٍ دفعةً واحدة، لكنها تستطيع الوصول إلى الحسم بالتقسيط.
هذا الخطاب المغلَّف بالأمن يمكن لأيٍّ كان في الحكومة الإسرائيلية أو في المؤسسة الرسمية، بغضّ النظر عن لونه السياسي، تبنّيه، بعكس خطاب الضم الفجّ والفاضح الذي تطرحه الصهيونية الدينية.
“عرب 48”: واضح أنّ هذا الخطاب كان عليه إجماع إسرائيلي حتى السابع من أكتوبر وتعزّز بعده، لأنّ من صاغه هو حزب العمل، حيث نتحدث عن مشروع يحمل اسم “آلون” الذي كان أحد أبرز رموز هذا الحزب؟
أبو عرام: الفكرة الأساسية هي أنّك تتحدث عن تحوّل في الخطاب. لنأخذ مثلًا نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس”، يتحدث عن مفهوم الجدار بمعنى الحاجة إلى هذا العمق الاستراتيجي الذي يجعل إسرائيل قادرة على الاستعداد لأيّ هجوم، وأن يكون لديها وقت للإنذار، وهو يتحدث عن حدود قابلة للدفاع. نتنياهو، الذي يقود المرحلة، هو نفسه من يتحدث عن ذلك.
التحوّل الذي حصل بعد السابع من أكتوبر هو أنّ الحديث صار عن “تهديد”، حيث تحوّلت النظرة أو الخطاب الأمني الإسرائيلي حول هذه الجبهة من حدود قابلة للدفاع إلى تهديدٍ وجودي على بقاء إسرائيل، وبالتالي صارت إمكانية تبنّي هذا الخطاب من أيّ إسرائيلي، وليس فقط من المروّجين لمشروع الضم وفرض السيادة، إمكانيةً واقعية.
“عرب 48”: ما هي الخطوات العملية التي رافقت هذا التحوّل ميدانيًا على الأرض؟
أبو عرام: أولًا، مشروع ما يُسمّى بـ”الجدار الشرقي” الذي يمتد على طول الحدود البالغة 425 كم مع الأردن ولغاية إيلات، والذي رُصدت له ميزانية تزيد على 5 مليارات شيكل، وقد تم تنفيذ أجزاء منه سابقًا، خاصة في المنطقة المحيطة بمطار رامون. اليوم يستطيعون الحديث عنه بأريحية وتقديمه كمبرر أمني، وهذا البناء سيتحوّل إلى سيادة مباشرة على المكان. ومن الواضح أنّ كل لبنة تُوضَع نتيجة لهذا الخطاب الأمني تتحول بشكل عملي ومباشر إلى إحدى أدوات فرض السيادة.
الأمر الثاني هو تشكيل فرقة 96 المسماة فرقة “جلعاد”، والتي تشكّلت خصيصًا للاستجابة لهجوم مشابه لهجوم السابع من أكتوبر من الحدود الشرقية. هذا إضافةً إلى تصويت الكنيست على ضم الأغوار، الذي، رغم كونه ليس مشروع قانون، فإنه يُعد مؤشرًا إضافيًا على التوجهات الاستراتيجية لصانعي السياسة الإسرائيلية.
ومن الجدير الالتفات، في هذا السياق، إلى التقرير الذي أصدرته مؤسسة “عدالة” بالشراكة مع بعض المؤسسات الأخرى، تحت عنوان “الانقلاب الصامت”، والذي يتحدث عن تحويل الأراضي إلى “أراضي دولة” والاستيلاء عليها، وهي إحدى الممارسات المهمة التي يجب الالتفات إليها على مستوى الضفة الغربية بشكل عام، وعلى مستوى الأغوار خصوصًا، حيث يجري تحويل جزء كبير من مراعي الفلسطينيين إلى مناطق تدريبات عسكرية وإطلاق نار.
هذا ناهيك عن السياسات المرتبطة بالموارد الاقتصادية، وخاصة المياه، حيث يحصل الفلسطيني على نسبة 8% فقط مما يحصل عليه المستوطن، إذ تبلغ حصة المستوطن 300 لتر يوميًا مقابل 20 لترًا فقط للفلسطيني. هذه الإجراءات، إلى جانب شبكة الحواجز ونقاط التفتيش المقامة حول الأغوار، والتي يُراد منها عزلها عن محيطها الفلسطيني المتمثل بالضفة الغربية، هي وصفة للتهجير الذي يجري فعليًا تحت وطأة عنف المستوطنين وجبروت جيش الاحتلال وحمايته.
“عرب 48”: سياسة التهجير التي ينفذها المستوطنون تحت حماية جيش الاحتلال ومشاركته تحقق نجاحات على ما يبدو؟
أبو عرام: معروف أنّ الحفاظ على الأغوار كان يتم بطريقتين: الأولى بواسطة القرى الزراعية الفلسطينية القائمة، والثانية عن طريق التجمعات البدوية المنتشرة على امتداد مساحتها، والتي تصل إلى ما يقارب 50 تجمعًا، وقد نجحوا في ترحيل غالبيتها بعد السابع من أكتوبر وخلال حرب الإبادة على غزة.
“عرب 48”: من الواضح أنّ اقتطاع الأغوار من جسم الضفة الغربية لا يحرمها من سلتها الغذائية فقط، بل هو إمعان في تمزيق الجغرافيا السياسية الفلسطينية ومنع نشوء كيان وطني مستقل؟
أبو عرام: إذا أردت أن أكون أكثر دقة أقول: إنه يعزّز من عوامل استحالة قيام كيان فلسطيني.
أشرف أبو عرام: طالب في برنامج الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت، وباحث زميل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
عرب 48




