
صناعة السلام كصفقة للنخبة وضياع للشعوب
بقلم زكريا نمر
تعيش القارة الإفريقية والعالم العربي حالة مأساوية متكررة، تتجسد في دوامة من الصراعات والحروب التي أنهكت الشعوب وأغرقت الأوطان في أزمات إنسانية واقتصادية وسياسية معقدة. ورغم كثرة المؤتمرات والمبادرات التي ترفع شعار السلام، إلا أن صناعة السلام في واقع الحال تحولت إلى مشروع سياسي بامتياز، تسعى من خلاله النخب الحاكمة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، أكثر مما تهدف إلى إنهاء معاناة الشعوب.
من السودان إلى ليبيا، ومن جنوب السودان إلى الكونغو، ومن اليمن إلى سوريا، تكررت السيناريوهات نفسها: توقيع اتفاقيات سلام لا تتجاوز حدود الورق، وتبادل للاتهامات، وعودة سريعة إلى ميادين القتال. لقد أصبحت الحروب في كثير من الدول العربية والإفريقية وسيلة لإعادة توزيع السلطة والثروة بين النخب المتصارعة، في حين يدفع المواطن البسيط الثمن الأكبر من دمه وكرامته ومستقبله.
الأسباب العميقة للصراعات في هذه الدول متعددة ومتشابكة. بعضها نابع من التنافس على الموارد الطبيعية كالنفط والذهب والأراضي الخصبة، وبعضها من الصراع على الهوية والانتماء القبلي أو الديني أو الجهوي. كما أن التدخلات الخارجية تلعب دورا محوريا في تأجيج النزاعات، حيث تجد القوى الإقليمية والدولية في هذه الحروب فرصة لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي عبر دعم طرف ضد آخر.
وفي ظل هذا المشهد، تتحول اتفاقيات السلام إلى أدوات ضغط سياسية واقتصادية، يستخدمها الفاعلون المحليون والدوليون لتثبيت مواقعهم لا لإنهاء الصراع. النخب الحاكمة تتعامل مع السلام كصفقة وليس كمبدأ، وكأداة لإعادة إنتاج سلطتها وليس كفرصة لبناء دولة عادلة. وغالبا ما تخرج الوفود من الفنادق الفخمة في العواصم الإقليمية بعد توقيع اتفاق جديد، بينما يظل المواطن في معسكرات النزوح واللجوء، ينتظر ما لن يأتي.
ملايين البشر في العالم العربي وإفريقيا وجدوا أنفسهم ضحايا لحروب لا يفهمون دوافعها الحقيقية، يعيشون في المخيمات أو في المنافي البعيدة، يبحثون عن وطن ضاع بين مشاريع السلطة ومطامع الساسة. إنهم الوجه الإنساني المنسي للحروب، أول من يدفع الثمن وآخر من يُستشار في صناعة السلام. النقد الحقيقي لصناعة السلام في منطقتنا يبدأ من الاعتراف بأنها أصبحت حقلا للمصالح، لا مشروعا للتحرر من العنف. السلام لا يمكن أن يُصنع على موائد النخبة، ولا يُبنى في عواصم بعيدة عن صوت الناس. السلام الحقيقي يحتاج إلى عدالة، ومحاسبة، ومصالحة مجتمعية شاملة ترد الحقوق وتعيد الثقة بين المواطن والدولة. فما لم تفكك بنية الحرب التي تقوم على الاستبداد والفساد والطمع، سيظل كل سلام هشًا، وكل اتفاق بداية لحرب جديدة. السلام ليس وثيقة، بل هو ثقافة وعدالة وشراكة حقيقية في الحكم والثروة.
إن تجاوز مأزق “طسلام النخبة يتطلب إعادة تعريف جوهر السلام ذاته. فبدلا من أن يبقى حكرا على السياسيين والدبلوماسيين، يجب أن يتحول إلى مشروع مجتمعي تشاركي، تنخرط فيه القوى المدنية، والنساء، والشباب، والمثقفون، ورجال الدين، والمنظمات القاعدية في القرى والمدن. فالسلام الحقيقي لا يولد من مكاتب التفاوض، بل من الوعي الجماعي الذي يرفض ثقافة الحرب والعنف، ويؤمن بالتنوع والعدالة والمواطنة المتساوية. كذلك، لا يمكن بناء سلام دائم من دون عدالة انتقالية حقيقية تنصف الضحايا وتعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، ولا دون إصلاح مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية حتى تكون في خدمة الشعب لا في خدمة الأفراد أو القبائل أو المجموعات المسلحة.
على الدول العربية والإفريقية أن تدرك أن الاستثمار في التعليم، والتنمية الريفية، والعدالة الاجتماعية، هو أكثر جدوى من تمويل الحرب أو شراء الولاءات السياسية. فالأمن لا يُبنى بالبندقية وحدها، بل بالثقة بين المواطن والدولة. إن البديل عن سلام الصفقات هو سلام القيم والمواطنة والعدالة، سلام تبنى عليه أوطان تتسع للجميع، لا ساحات تتنازعها النخب. فحين يصبح السلام صوت الناس لا صوت السلطة، يمكن عندها الحديث عن نهاية حقيقية للحروب، وبداية جديدة لتاريخ لم يُكتب بالدم، بل بالأمل والمشاركة والمصالحة.


