منوعات

حلب السورية أقدم المدن استيطانا في تاريخ البشرية

حلب السورية أقدم المدن استيطانا في تاريخ البشرية

جانبلات شكاي

دمشق ـ : لا يمكن الحديث عن أقدم المدن استيطانا في تاريخ البشرية إلا وتجد مدينة حلب واحدة من العشر الأوائل، وإن اختلفت التقديرات حول عمر المدينة إلا أنها لا تقل عن 7 آلاف سنة، وتصل في بعض التقديرات إلى أكثر من 12 ألف سنة، فيصح بذلك توصيفها بالشامة على خد الحضارة الإنسانية.
وخلال هذا العمر المديد، لك ان تتخل عدد الحضارات التي مرت على المدينة، وعدد الطامعين من الغزاة الذين حاولوا السيطرة عليها، وربما تدميرها أحياناً، ونهبها، كما فعل المغول أكثر من مرة، لكن هذا التاريخ الممتد في العمق، وإن كانت هناك آلاف الدلائل التي تؤكده، إلا أن ما يقفز إلى ذاكرتنا تلك الحقبة التي خلدها أبو الطيب المتنبي في أشعاره لحاكم إمارة حلب الأمير سيف الدولة الحمداني في القرن التاسع الميلادي.
وإن نحت الشعر في تاريخ المدينة، إلا أن فن الطرب الأصيل لم يكن أقل شأناً، فمن منا لم يتمايل على قدود صباح فخري أو سحر صوت ميادة الحناوي، من دون أن ننسى ملك الموشحات محمد خيري، ولا شيخ الطرب الحلبي صبري مدلل، وغيرهم الكثير الكثير.

العاصمة الاقتصادية

المدينة شهدت تعاقب حضارات كثيرة عليها مثل الحثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية بعصورها المختلفة، وعرفت في العصور القديمة بموقعها الاستراتيجي كمحطة تجارية هامة بين الشرق والغرب، ما جعلها مركزاً تجارياً وثقافياً بارزاً، تفرد جناحيها ما بين سواحل المتوسط في الإسكندرون غرباً، إلى حاضرة الموصل في العراق شرقاً.
عاصمة الشمال السوري والعاصمة الاقتصادية للبلاد، تقول عنها هيئة الاستثمار السورية إنها أكبر المحافظات من حيث عدد السكان، كما أنها أهم مركز صناعي في البلاد ومشهورة بمنتجاتها التقليدية، كالألبسة والجلديات وصابون الغار والزيوت إلى جانب أهميتها التجارية والزراعية، ويعيش ضمن مساحة المدينة التي تزيد عن نحو 100 كم2 ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة، أغلبهم من المسلمين السنة العرب، إلى جانب بعض العلويين والتركمان والكرد والشركس والمسيحيين وخصوصاً من الأرمن، في عدد من الأحياء بمحيط قلعتها التاريخية الشهيرة القريب منها والأبعد مثل: الجامعة، الفرقان، حلب الجديدة، حلب القديمة، الجميلية، الشهباء، الأشرفية، الشيخ مقصود، الحمدانية، الأعظمية، صلاح الدين، بستان القصر، سيف الدولة، النيرب، الكلاسة، الشيخ سعيد، القاطرجي، السكن الشبابي وغيرها.
المدينة ترتفع أقل من 400 متر عن سطح البحر، وتبعد عن الحدود التركية من الشمال نحو 60 كيلومتراً، وعن المتوسط غربا نحو 115 كيلو متراً، وعن نهر الفرات التي تشرب من مياهه شرقاً 80 كيلو متراً، وهي تبعد عن العاصمة دمشق نحو 360 كيلو متراً.
تتميز المدينة ومحيطها بمناخ شبه قاري تصل فيه الرطوبة إلى 58 في المئة، وتحجب سلاسل الجبال القريبة من البحر المتوسط المناخ المتوسطي عنها، وتتراوح درجات الحرارة فيها بين 18 و20 درجة مئوية، وتهطل فيها الأمطار بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وآذار/مارس بمتوسط 324 مليمترا.
وسط هذه البيئة ظهرت المستوطنات الأولى للمدينة في فترة تعود لأكثر من 14 ألف سنة، وبحسب ما كشفت عنه بعثة سورية بولونية عملت شمال حلب، في موقع تل القرامل عن آثار للسكن والاستيطان الموسمي يعود تاريخها إلى 12-14 ألف سنة قبل الميلاد، وهي عبارة عن مواقد حجرية وأثار للتخييم، ثم تلا ذلك انقطاعا في السكن حتى بدايات الفترة النيوليتية، ثم بدأ الاستيطان وبشكل دائم في الفترة ما بين 10700 – 9400 قبل الميلاد، وهذا يعتبر الأقدم في المنطقة والعالم حتى الوقت الحالي.
وأظهرت نتائج عمليات التنقيب في تل الفرامل على نهر قويق شمال المدينة أن هذا الموقع يعود بتاريخه إلى الألف العاشر قبل الميلاد مما يجعله الأهم على صعيد سوريا والأقدم عالمياً كأول منطقة تم الاستيطان فيها عبر التاريخ وعبر حالة توضح كيف انتقل الإنسان من مرحلة الخيم إلى مرحلة البناء والاستيطان.

اسم عمره 4 آلاف سنة

يذكر المؤرخون أن المدينة كانت تسمى أرمان وهليا قبل 4 آلاف سنة، وفي الكتابات الآشورية ذكرت باسم خلابا وخلوان، وذكرت باسمها حلب لأول مرة عام 1800 قبل الميلاد في الكتابات المسمارية التي اكتشفت في مملكة إيبلا، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد ذكرت باسم خرب وخلبو وحلبو.
وبعد انقسام مملكة الإسكندر المقدوني عرفت باسم بيروا على اسم مسقط رأس والد الإسكندر، وهو اسم يعني بالإغريقية أرض النحاس، وبقيت تعرف بهذا الاسم في العصور التي تلتها في اليونانية والرومانية والبيزنطية، وقيل إن من بنى المدينة اليوناني سلوقس الأول نيكتور.
وعندما صارت عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية عام 1800 قبل الميلاد سميت بـ«حلبا»، وقيل إنها كلمة معربة من أصلها السرياني الذي يعني المدينة البيضاء لشدة بياض صخرها وتربتها، وذكر آخرون أنها آرامية.
وحملت المدينة إلى جانب اسمها المشهورة به اليوم اسم الشهباء، وتعني بالعربية شديد البياض وهي محاولة للعرب تفسير معنى حلب من السريانية فأضافوا لها كلمة الشهباء للدلالة على بياض تربتها.
ولكل شيء في حلب صدى يضرب في الأصالة من نوع حجارة منازلها وتصميم أحيائها، وحتى في الأكلات التي تميز مطبخها الغني، وإن الإحاطة بهذه المدينة لا يمكن أن تتم بمقالة عابرة بعد صدرت عنها مؤلفات خاصة لكل باب من أبواب نشاط المدينة.

معالم المدينة
عند الخوض للبحث عن أبرز المطارح السياحية في سوريا، على كثرتها، لا يمكن إلا وأن تقفز حلب لتكون واحدة من أهم المقاصد والوجهات السياحية في البلاد، ولطالما ظلت المدينة قبل خروج الأهالي ضد نظام الأسد عام 2011 تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار والسياح العرب والأجانب لما تحمله من عبق التاريخ وثراء الثقافة، وإن جاء القصف الهمجي على قسم كبير من أحيائها، إلا أن المدينة بدأت تنفض غبار المعارك عنها، وتتزين من جديد لتعود قبلة للزوار من أينما وفدوا إليها.
عند القيام برحلة سياحية ثقافية لحلب القديمة، يجد السائح نفسه أمام متحف مفتوح يروي قصص الحضارات المتعاقبة من خلال معالمها التاريخية الرائعة، مثل قلعة حلب الشهيرة، والأسواق المسقوفة، والبيوت الأثرية القديمة التي تعكس الطراز المعماري الفريد للمدينة، كما تعد المساجد، والكنائس، والمدارس القديمة جزءاً من هذا التراث الغني الذي يستحق الاستكشاف.
إن الرحلة إلى حلب القديمة ليست مجرد زيارة، بل هي رحلة في قلب التاريخ واحتكاك مباشر مع ثقافة عريقة ما زالت تنبض بالحياة رغم التحديات.

قلعة حلب

هي واحدة من أقدم وأهم القلاع في العالم، ورمز وشعار بارز للمدينة ولتاريخها العريق وإحدى أعظم الشواهد على عبقرية العمارة والتحصين العسكري في الشرق الأوسط.
تقع القلعة في قلب المدينة القديمة على تلة استراتيجية مرتفعة، وتعاقبت على بنائها واستخدامها حضارات كثيرة، بدءاً من الآراميين واليونانيين مروراً بالرومان والبيزنطيين، وصولاً إلى المسلمين في العصور الإسلامية الوسيطة.
تتميز القلعة بتصميمها المعماري الفريد وأسوارها الضخمة وأبراجها العالية، وبحسب بحث عن المدينة نشره موقع «سفرك» السياحي فإن القلعة تحتوي على مسجد وقصر وخزانات مياه ومعالم دفاعية متقنة، وتُعتبر وجهة سياحية بارزة ومعلماً تاريخياً يجسد غنى وتنوع الحضارة السورية.
تعد قلعة حلب أحد أهم المعالم التاريخية في سوريا ومن أقدم القلاع في العالم، تتراكم في أسوارها وجدرانها قصص تجسد قروناً من التاريخ والتحولات السياسية والحضارية، حيث تجد في قلعة حلب المجد والقوة والهوية مجسدة في هيبتها وفي زواياها السرية وممراتها الغامضة.
والقلعة تتربع على موقع فريد من نوعه يجعلها مركزاً استراتيجياً وسط المدينة القديمة، وانعكس ذلك بشكل واضح على تصميمها المعماري الدفاعي المهيب، وهي ترتفع حوالي 33 متراً عن مستوى المدينة، ما يمنحها إطلالة شاملة على المنطقة المحيطة ويسهل عمليات المراقبة والدفاع، وتحيط بها خنادق عميقة كانت تُملأ بالمياه في فترات الحرب، وتعد من أهم الوسائل الدفاعية التي حالت دون تقدم الأعداء بسهولة نحو الأسوار.
وللقلعة مدخل ضخم معقد يمر بعدة منعطفات ومراحل، مما يصعب اقتحامها ويحسن من قدرتها الدفاعية، وتنتشر الأبراج الدفاعية على طول أسوار القلعة وخاصة قرب المداخل، وكانت تُستخدم للرماية والمراقبة، على حين تتوزع المباني داخل القلعة إلى أقسام وظيفية تشمل مناطق للسكن، وأخرى للحكم، وأماكن للعبادة والتخزين والدفاع، في دلالة على التخطيط المعماري المتكامل، وبما يعكس هذا التصميم روعة الفكر الهندسي العسكري في العصور الإسلامية.
ولم تكن قلعة حلب مجرد حصن دفاعي أو مقر حكم فحسب، بل كانت مركزاً حضارياً يعكس تطور فنون العمارة والحياة الاجتماعية والثقافة الحلبية، وكانت القلعة مقراً للعلماء والقضاة، ومركزاً لإدارة شؤون المدينة، وداخل مسجدها صلى القادة والعامة جنبا إلى جنب، بينما كانت تقام الاحتفالات الرسمية في أروقتها.

المسجد الأموي الكبير

لا يبعد المسجد الكبير عن قلعة المدينة سوى عشرات الأمتار داخل أحد الشوارع المتفرعة عن القلعة، كما يمكن الوصول إلى المسجد الأموي من خلال المرور بأحد أبواب حلب الـ9 وهو باب الفرج. يقع المسجد في حي الجلوم قرب سوق المدينة في حلب القديمة، التي أدرجت على قائمة مواقع التراث العالمي لدى اليونسكو في العام 1986.
يبلغ طول المسجد قرابة 150 متراً، وعرضه نحو الـ100، ويشبه إلى حد كبير في مخططه وطرازه جامع دمشق الأموي وله 4 أبواب، الشمالي في جوار المئذنة، والغربي يؤدي إلى شارع المساميرية، والشرقي يؤدي إلى سوق المناديل، والجنوبي ويؤدي إلى سوق النحاسين.
وجدران المسجد سميكة جداً، وتبلغ نحو مترين، وارتفاعها قرابة 9 أمتار، ويحوي مصلى الجامع الكبير الواقع إلى الجنوب من الصحن ضريح زكريا، ومنبراً يعود للقرن الـ15، والمحراب المنحوت بشكل متقن وبديع في أيام الملك الظاهر بيبرس.
وبدأ بناء المسجد في عام 715 ميلادي من خلال وضع حجر أساسه في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وانتهى بناؤه بعدها بعامين في 717، في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك.
وفي عام 2011، كانت أول مظاهرة مناوئة للنظام السوري بمدينة حلب خرجت من المسجد الأموي وفي مطلع عام 2013 عندما سيطرت قوات الجيش الحر على مُعظم أحياء المدينة والجامع الأموي من بينها، تهدمت مئذنة المسجد بالكامل نتيجة استهدافها من قبل دبابات النظام المتمركزة في منطقة السبع بحرات، كما أدى القصف إلى احتراق أجزاء كبيرة من المسجد، خاصةً المكتبة الوقفية التاريخية التي تضم مئات من المخطوطات القديمة والكتب الأثرية النادرة.

الأسواق التاريخية

تحتوي حلب على أكبر عدد من الأسواق الشرقية المسقوفة في العالم، وبعدد يصل إلى 37 سوقا، تم تشييد معظمها في القرن الرابع عشر بمساحة كلية تصل إلى 160 ألف متر مربع تكاملت فيها العناصر المعمارية في سلسلة الأسواق المتواصلة في تقاطع جميل.
يدعوا أهالي حلب أسواقهم الموجودة على الطرف الغربي للقلعة باسم «المدينة» وهي عبارة عن مركز تجاري ضخم للسلع الكمالية القادمة من جميع أنحاء العالم موزعة ضمن شبكة من الأسواق المتواصلة والمتعامدة والمتوازية تمتد بشكل خطين متوازيين مع الجدار الجنوبي للجامع الأموي، وتقع جميع أسواق المدينة وخاناتها ضمن أسوار حلب القديمة وتتمتع بصفات العمارة الإسلامية وخاصة الانفتاح إلى الداخل وتتصل بالخارج بأبواب تغلق نهاية اليوم لتبدو الأسواق كتلة معزولة عن باقي فعاليات المدينة ولا تختلط مع البيوت السكينة.
وأخذت الأسواق أسماءها من أنواع وأسماء البضائع التي كانت تباع فيها، أو اسم بعض المهن والصناعات اليدوية التي كانت تحتضنها، وأحيانا اسم المسجد الذي بقربها مثل.

المطبخ الحلبي

لا تكتمل الرحلة إلى حلب دون تذوق أطباقها الشهية التي تعد جزءاً لا يتجزأ من هوية المدينة، فمطبخها يُعرف بتنوع أكلاته وتفاصيله الدقيقة، والتجول نهارا في أسواقها أو زيارة قلعتها لابد وأن يترافق بطبق من المامونية مع جبنة الشلل أو القشطة العربية إلى جانب الشعيبيات من محلات مستت أو طرابيشي.
إن المطبخ الحلبي يعدّ أحد أعمدة المطبخ السوري، ويعتبر من أقدم وأعرق المطابخ في الشرق الأوسط، بل وفي العالم أجمع، فهو ليس مجرد مجموعة وصفات،، بحسب موقع التراث السوري، بل حضارةٌ طعاميةٌ متجذرة في قلب مدينة حلب.
ويُشار إلى المطبخ الحلبي بأنه «الأم» للعديد من المطابخ الإقليمية، حيث استلهمت منه أطباق فلسطينية وأردنية ولبنانية وتركية وعراقية وصولا إلى مطابخ شبه الجزيرة العربية، ويتميز هذا المطبخ بتنوعه الفريد وتوازنه المذهل بين النكهات الحلوة والحامضة والحارة، ما جعله مرجعاً أساسياً لفن الطهي في المنطقة.
ومن الكبة الحلبية الشهيرة إلى المحاشي وأطباق اللحوم المتبلة بعناية، يعكس المطبخ الحلبي مهارة الطهاة في استخدام المكونات المحلية والتوابل التي تضفي طابعاً مميزاً ومنها «السبع بهارات» كرمز للإبداع والتفرد في عالم التوابل، وهي خلطة تُعرف أيضاً باسم «بهارات مشكلة»، تمثل تراثا متجذراً في تاريخ المدينة وتشمل السنبل الهندي، التنبول، ورق الغار، جوزة الطيب، الكمون، الهيل، القرنفل، الورد الجوري المجفف، الحلبة، الفلفل الأسود، والزنجبيل.
إن المطبخ الحلبي ليس مجرد تراث محلي، بل هو إرثٌ إنساني يستحق الاحتفاء والحفاظ عليه، ومن خلال أطباقه المتنوعة وتوابله الفريدة مثل «السبع بهارات»، استطاع هذا المطبخ أن يتجاوز الحدود الجغرافية ليؤثر على مطابخ المنطقة والعالم.

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب